أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 14th April,2000العدد:10060الطبعة الأولىالجمعة 9 ,محرم 1421

أفاق اسلامية

ضمن البرنامج العلمي للأمير عبدالعزيز بن سطام
د, المطلق يحاضر عن مقاصد الشريعة وأثرها في الحلول الفقهية المعاصرة
* كتب المحرر
انطلاقا من الاهتمام والرعاية اللذين يوليهما صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سطام بن عبدالعزيز آل سعود بالإعداد والتنظيم للمحاضرات والندوات الشرعية بالتعاون والتنسيق مع كل من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ولجنة الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران، فقد تم مؤخراً تنظيم محاضرة بعنوان مقاصد الشريعة وأثرها في الحلول الفقهية المعاصرة ، ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق استاذ الفقه بقسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء.
وقد تناول المحاضر في محاضرته مقاصد الشريعة الإسلامية، وعرفها، وأورد شروط مقاصد الشريعة، وأنواع هذه المقاصد وأقسامها، والادلة النقلية والعقلية التي تثبت هذه المقاصد، كما تطرق فضيلته الى الطرق التي تثبت المقاصد الشرعية، كذلك ابرز فضيلته اهمية معرفة مقاصد الشريعة والتي منها مقاصد وهمية، كمقصد المشقة في العبادة، ومقصد الإيلام في العقوبة الشرعية.
وأخيرا تناول فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد المطلق في ختام محاضرته اثر المقاصد في الحلول الفقهية المعاصرة، كمقصد حفظ الدين، ومقصد حفظ النفس، ومقصد حفظ العرض والنسب، ومقصد حفظ العقل، ومقصد حفظ المال.
وفيما يلي نص المحاضرة التي ألقاها فضيلته:
تعريف المقاصد
مقاصد الشريعة: هي الغايات والحكم التي راعاها الشارع في التشريع من اجل تحقيق مصالح العباد، وقد بين الله تعالى مقصد خلقه جل وعلا الإنس والجن بقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وبين مقصد ارساله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا وقال تعالى يأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وبين مقصد انزاله الكتب بقوله الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ونحن نعلم ان الله تعالى انما ارسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الناس الى طريقه وترغيبهم في عبادته وتنظيم امور حياتهم وفق شريعته قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .
والمؤمن يستطيع ان يجعل جميع اعماله عبادة يتقرب بها الى الله حتى اكله ونومه كما قال جل وعلا ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت ويخطئ بعض الناس عندما يفصل بين العبادة والحياة العامة ويعتقد اقتصار العبادة على القيام بالشعائر الدينية ويبعدها عن تنظيم الحياة ويفصل الدين عن الدولة والنظام.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه مقاصد بعض الاحكام ومن امثلة ذلك قوله جل وعلا عقب آية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وقوله تعالى في آية القصاص ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وقوله جل وعلا في آية تحريم الخمر إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .
شروط المقاصد
يشترط في المقصد الشرعي اربعة شروط:
1, ان يكون ثابتا إما بطريق اليقين او بالظن الغالب القريب من اليقين.
2, ان يكون ظاهرا واضحا لا يختلف الفقهاء في تشخيصه.
3, ان يكون منضبطا له حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه وهو ما يعبر عنه بالوسطية البريئة من الافراط والتفريط.
4, ان يكون مطردا لا يختلف باختلاف الاحوال والازمان حيث جعلها الشارع مصالح على الاطلاق فهي عامة في جميع انواع التكليف والمكلفين وجميع الاحوال.
أنواع المقاصد
تنقسم مقاصد الشريعة باعتبار العموم في جميع فروع التشريع والخصوص في بعض نواحيه الى قسمين:
أ, مقاصد عامة وهي قواعد كلية تحكم اطار التشريع مثل قواعد مراعاة جلب المصالح ودرء المفاسد وقاعدة رفع الحرج قال العز بن عبدالسلام والشريعة كلها مصالح إما ان تدرأ مفاسد او تجلب مصالح.
وتعني قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد جلب كل ما هو خير وصلاح ومنفعة ودرء كل ما هو مفسدة وشر فإن الله لا يحب الفساد ولا يصلح عمل المفسدين وقد قال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ، وان لهذه المصالح ولتلك المفاسد المدروءة ضوابط تحفظ لها حدها الشرعي عن الالتباس من اهمها:
1, أن توزن بميزان الشرع لا بأهواء الناس ورغباتهم قال الشاطبي رحمه الله ان المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها الا خالقها وواضعها وليس للعبد بها علم الا من بعض الوجوه والذي يخفى عليه منها اكثر من الذي يبدو له فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله اليها او يوصله عاجلا لا آجلا او يوصله اليها ناقصة لا كاملة او يكون فيها مفسدة تربو في الموازنة على المصلحة فلا يقوم خيرها بشرها أ,ه وهذا الذي ذكره الشاطبي هو ما دل عليه القرآن في قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
وبناء على ذلك فلا يجوز ان تكون التجارب الآدمية ومرتبات العقول البشرية معتمدا وحيدا في تحديد مصالح يهدرها الشرع ويصفها بالفساد ومن ذلك ما يسعى الى تحقيقه بعض الناس من اختلاط الجنسين في التعلم والوظائف بدعوى ان ذلك يهذب الخلق ويخفف من اثر الشهوة والميل الى الجنس الآخر وكما يزعم بعض الناس من ضرورة العلاج بالموسيقى والغناء كما يزعم بعض الناس من ضرورة الربا في تنشيط التجارة المعاصرة.
2, ان تكون المصلحة هي الغالبة في حكم الاعتياد عند مناظرتها مع ما قد يصحبها من مفسدة فلا ينظر الى ما يصحب مصلحة اقامة الحدود من مفاسد تلحق بالمجرمين قتلا و قطعا او ضربا اذ ليست هذه مقصودة بل المقصود ما يحصل للأمة من الامن في انفسها واموالها واعراضها وفي ذلك من المصالح العظيمة ما ينبغي اهدار المفسدة التي تلحق بالمجرمين من اجله ومثل ذلك ما غلبت المفسدة في حكم الاعتياد عند مناظرتها مع ما قد يصحبها من مصالح فلا ينظر الى ما قد يصحب مفسدة الربا الغالبة من مصلحة بعض الافراد في تحريك تجارتهم بوسائل اكثر امنا عندهم اذ يعارض ذلك المفاسد الغالبة في احتكار الاموال في ايدي فئة قليلة وتعرض فئات كثيرة للخسارة المحققة من مضاعفات الربا المتتالية.
وقد يجد المجتهد العارف بمقاصد الشريعة نفسه في موقف تعارضت فيه المصالح والمفاسد وتعارضت فيه المصالح بعضها مع بعض او المفاسد بعضها مع بعض ولكل واحدة من هذه الحالات تنظيمات شرعية ذكرها فقهاؤنا من اهمها، اذا تعارضت المصالح فإن امكن تحصيلها كلها بالجمع بينها حصلت وان لم يمكن ذلك الا بترجيح بعضها على بعض قدم المجتهد اكملها واهمها ناظرا الى ذات المصلحة وقيمتها، فالمصلحة الضرورية مقدمة على الحاجية والحاجية مقدمة على التحسينية وتقدم المصلحة الدينية على غير ذلك وتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وتقدم القطعية على الظنية والوهمية ويجب ان نعرف ان حفظ اي مقصد من المقاصد المذكورة هو حفظ للدين وهو سبيل لحفظ المقاصد الاخرى.
واذا تعارضت المفاسد فإن امكن درؤها جميعا درأناها جميعا وان لم يمكن درؤها جميعا درأنا الافسد فالافسد فترتكب اخف المفسدتين دفعا لأشدهما ويتحمل الفساد الخاص لدفع الفساد العام.
اما قاعدة رفع الحرج فتعني التيسير على الناس وازالة المشاق عنهم في مخاطبتهم بالتكاليف الشرعية وقد برأ الله تعالى شريعة الإسلام من الحرج والمشقة حين قال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وشرع الله الرخص في الاحوال الطارئة دليلا ظاهرا على ذلك وملاحظة مقاصد الاحكام سبيل مؤكد لرفع الحرج عن الامة.
وتحدث الفقهاء عن قاعدة المشقة تجلب التيسير وذكروا تطبيقاتها في الفروع الفقهية في العبادات والمعاملات والجنايات والحدود اذا وجدت المشقة.
ب, المقاصد الخاصة ويراد بها الاهداف والمعاني الخاصة بباب معين من ابواب الشريعة او ابواب متجانسة منها او مجال معين في مجالاتها مثال ذلك المقاصد في العبادات كلها كمقصد الخضوع لله والانقياد لأمره ونهيه ومثال المقاصد في باب معين كمقصد الحج المنصوص عليه في قوله تعالى ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وكمقصد الوضوء المنصوص عليه في قوله ولكن يريد ليطهركم وشرع الله الحدود والقصاص لمقاصد عظيمة هي تأديب الجاني وتخويف غيره ان يقتدي به وارضاء المجني عليه.
وتنقسم المقاصد باعتبار المصالح التي جاءت بالمحافظة عليها الى اربعة اقسام:
1, الضروريات.
2, الحاجيات.
3, التحسينيات.
4, المكملات.
والمراد بالضروريات: حفظ ما لابد منه في قيام مصالح الدين والدنيا وهي الدين والنفس والعقل والنسب والمال فإن هذه الخمسة تصل الحاجة في حفظها الى حد الضرورة وقد جاء الشرائع السماوية بالمحافظة على هذه الضروريات الخمس، قال الجزائري في نشر البنود:


قد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة
على الديانة بالتوحيد في الملل
وحفظ نفس ومال معهما نسب
وحفظ عقل وعرضٍ غير مبتذل

والمراد بالحاجيات: ما يحتاج اليه الناس من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي الى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب وهي دون الضروريات التي لا غنى للناس عنها واباحتها من باب اليسر ورفع الحرج ومثل ذلك في العبادات عبادة القصر في السفر وعبادة الافطار فيه ومثل ذلك في المعاملات عقد السلم وعقد المضاربة.
والمراد بالتحسينات: ما لا يتعلق به ضرورة خاصة ولا حاجة عامة بل يقع موقع التحسين في جلب مكرمة او نفي ضدها ومن ذلك الامر بالطهارة في البدن والثوب والمكان وما يتصل به الإنسان والبعد عن النجاسة وازالتها وستر العورة وأخذ الزينة وآداب الاكل والشرب.
والمراد بالمكملات: وهي ما يتم حفظ الاقسام الثلاثة الاولى فهناك مكملات للضروريات وهناك مكملات للحاجيات وهناك مكملات للتحسينات ومثال المكمل للضروريات تحريم البدع وتحذير المبتدع لما في ذلك من كمال حفظ الدين الضروري ومنه تحريم النظر الى المرأة الاجنبية بشهوة لما في ذلك من حفظ النسب بالبعد عن الزنا.
ومثال الكمال للحاجيات مشروعية الخيار في البيع فإن مقصود البيع الملك الحاصل مع تمام الرضا وشرعية الخيار تكمل ذلك المقصد ومثال المكمل للتحسينات ما ندب اليه الشرع في باب الطهارة مثل غسل اليدين قبل الوضوء والبدء باليمين قبل الشمال.
واذا تعارضت هذه الاقسام قدم الضروري ثم الحاجي ثم التحسيني فلو احتاج المكلف في احياء نفسه الى كشف عورته للطبيب كان ذلك من تعارض الضروري وهو احياء النفس مع التحسيني وهو كشف العورة فيتقدم الضروري وهو حفظ النفس ويباح له كشف العورة للعلاج.
أدلة إثبات المقاصد
تثبت مقاصد الشريعة بأدلة نقلية وعقلية متضافرة فمن أشهر الادلة النقلية:
1, ما ثبت في الكتاب الكريم من وصفه جل وعلا بأنه حكيم ومن ذلك قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وقوله جل وعلا في شأن الاسرى ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يسخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم وقوله جل وعلا في سورة الممتحنة بعد ذكر الزوجات المسلمات والمرتدات ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم والحكيم هو الذي يصدر اوامره لحكم جليلة نافعة للعباد في عاجلهم وآجلهم وهو جل وعلا منزه عن العبث واللعب والغفلة بل هو عليم يعلم كل شيء قبل وقوعه ويعلم المصالح والمفاسد وهو بعباده رحيم ودود يريد لعباده ما يصلحهم ويحثهم عليه وينهاهم عما يهلكهم ويحذرهم منه.
2, نص الشارع في الكتاب الكريم على بعض مقاصد التشريع العامة كما في قوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وكقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
3, نص الشارع في الكتاب والسنة على بعض مقاصد التشريع الخاصة كقوله تعالى في آية قسمة الفيء كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وقال جل وعلا عن الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال عن الزكاة خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم انما الاستئذان من اجل البصر متفق عليه وقوله صلى الله عليه وسلم لا تشربوا الخمر فإنها مفتاح كل شر رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
ومن أشهر الادلة العقلية:
1, ان الله تعالى راعى مصالح الإنسان في تكوينه ومعاشه حيث خلقه في احسن تقويم وسخر له ما في الارض جميعا منه ومن المحال ان تحصل كل هذه المراعاة في الخلق والمعاش ولا يحصل مثلها في التشريع الذي ينظم حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي أولى بالمراعاة.
2, ان تعطيل التشريع الإسلامي من المقاصد النافعة التي تجلب بها المصالح وتدرأ بها المفاسد وصف له بالفساد والعبث بل هو وصف لواضعه بالجهل والغفلة سبحانه جل وعلا فهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء الحكيم الذي يضع الاشياء مواضعها.
قال ابن القيم في كتابه شفاء العليل: فإن ما في خلق الله وأمره من الحكم والمصالح المقصودة والغايات الحميدة امر تشهد به الفطرة والعقول ولا ينكره سليم الفطرة والنفاة لا ينكرونه وإنما يقولون وقع اتفاقا لا قصدا كما تسقط خشبة عظيمة فيتفق عبور حيوان مؤذ تحتها فتهلكه ولا ريب ان هذا ينفي حمد الرب سبحانه على حصول هذه المنافع والحكم لأنها لم تحصل بقصده وارادته بل بطريق الاتفاق الذي لا يحمد عليه صاحبه ولا يثنى عليه به هو عندهم بمثابة ما لو رمى رجل درهما لا لغرض ولا لفائدة بل لمجرد قدرته ومشيئته على طرحه فاتفق ان وقع في يد محتاج انتفع به فهذا شأن الحكم والمصالح عند المنكرين .
طرق إثبات المقاصد
تثبت المقاصد الشرعية بواحد من الطرق التالية:
1, النص عليها في الكتاب او في السنة وقد سبق شيء من ذلك من ادلة المقاصد.
2, استقراء علل الاحكام الشرعية حيث يحصل بذلك العلم بمقصد الشرع المتشابه من هذه الاحكام فإذا اجتهد الفقيه في استنباط علة الحكم في المنصوص عليه ثم علمها فيما يشبهه مما لا نص فيه تم الحاقه به في الحكم لمشابهته له في العلة.
أهمية معرفة مقاصد الشريعة
ان ما يظهر أهمية هذا العلم حاجة الامة اليه في علاج النوازل الفقهية التي تتجدد للامة في كل زمان فهو بمثابة القواعد المنظمة التي يندرج تحتها ما تحتاجه هذه النوازل من الاحكام وقد ادرك بعض محققي الفقهاء اهمية هذا العلم حين فرقوا في الادلة من السنة النبوية بين تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الإمامة وبين تصرفه بولاية القضاء وبين تصرفه بالفتيا والتشريع وبين ما يتردد بين اثنين من هذه التصرفات حيث تختلف آثار هذه التصرفات فما كان منها بالإمامة لم يجز لأحد ان يقدم عليه إلا بإذن وما كان منها بالقضاء لم يجز لأحد ان يقدم عليه إلا بحكم حاكم وما كان منها بالفتوى والتشريع كان حكما عاما على جميع المكلفين سواء كان امرا او نهيا او تخييرا وقد كان الصحابة رضي الله عنهم اول من فرق بين ما كان صادرا من اوامر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع وما كان صادرا منه لغيره وذلك حيث شفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوج بريرة عندها ان تبقى معه بعد عتاقها فقالت له أتأمرني يا رسول الله قال لا لكني أشفع، فأبت ان تبقى معه واختارت فراقه ولم تقبل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام.
وقد مثل الفقاء لتصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة بتولية الولاة وجمع موارد بيت المال وصرفها وقسمة الغنائم.
ومثلوا لتصرفه بالقضاء بالنظر في الدعاوى والفصل في الخصومات سواء كانت في المعاملات المالية او القضايا الاسرية او في الحدود والجنايات.
ومثلوا لتصرفه بالفتيا بفتيا الحجاج في منى يوم الحج الاكبر حيث سئل عن تقديم بعض اعمال ذلك اليوم على بعض فكان صلى الله عليه وسلم يقول افعل ولا حرج.
ومن المسائل التي اختلف الفقهاء في مقصدها الشرعي بناء على اختلافهم في حال التصرف مسألة اشتراط إذن الإمام لإحياء الموات وسبب ذلك اختلافهم في حاله صلى الله عليه وسلم حينما قال: من احيا ارضا ميتة فهي له فمن رأى انه تصرف بالفتوى والتشريع اجاز لكل احد ان يحيي ارضا ميتة بدون إذن الإمام وهو رأي الجمهور ومن رأى انه تصرف بالإمامة قال لا يجوز لأحد ان يحيي إلا بإذن الإمام وهو رأي ابي حنيفة, ومن تلك المسائل اختلاف الفقهاء في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اكل الحمر الاهلية وأمره باكفاء القدور التي طبخت فيها هل هو تصرف تشريع فتحرم الحمر الاهلية مطلقا او هو تصرف بمقتضى الإمامة لمصلحة الجيش لأنهم في تلك الغزوة كان غالب مراكبهم الحمير فيحل اكل لحومها لأن تحريمها كان بسبب رآه الإمام حتى لا تقل دواب الجيش التي تحمله فيتأثر بذلك عند مقابلته الأعداء.
والعلم بالمقاصد الشرعية ضابط محكم لتطبيق الاحكام الشرعية على الوجه المراد ولعلنا ان نوضح ذلك بالمثال فإننا إذا علمنا ان المقصد الشرعي من عبادة البراءة من المشركين إعلان استقلالية الشخصية الإسلامية في جميع شؤونها وانها تتبرأ من معبودات المشركين وانها لا تتوجه اليها بشيء من انواع العبادة ولا تحبها بل تبغض عبادة غير الله تعالى وتبغض كل ما يبغضه الله من المعصية علمنا ان ما يفهمه بعض الناس من هذه العبادة انها تعني إعلان عدواتهم وهجرهم وان نعبس في وجوههم ولا نخالطهم ابدا تجاوز عن الحد، لأننا نعلم ان الله تعالى قد اوجب علينا دعوة جميع الناس اليه بالحكمة والموعظة الحسنة وان نقول للناس حسنا وان نخالق الناس بخلق حسن.
ومثال آخر اذا علمنا ان المقصود من عبادة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الاكثار من الخير وقطع دابر الشر او تقليله ثم وجدنا في بعض الحالات ان المحتسب اذا علم انه اذا نهي عن المنكر تولد منه منكر اكبر علمنا انه يجب عليه ان يكف عن النهي اذ لو ادى هذه العبادة لحصل بها ضد مقصودها وهو قطع دابر المنكر او تقليله.
مقاصد وهمية
وقد يتوجه بعض الناس بسبب قصور علمه الى مقاصد وهمية يظن ان الشارع قصدها وأراد تحقيقها والشريعة منها براء ومن امثلة ذلك:
1, مقصد المشقة في العبادة حيث يظن بعض العباد ان قصد المشقة مراد للشارع مأجور على توخيه وفي هذا تشبه برهبانية النصارى التي ذمها القرآن في قوله تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم وقد ذمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين امرهم بالفطر في السفر وقد ظهرت عليهم امارات المشقة فامتنع بعضهم فقال صلى الله عليه وسلم اولئك العصاة ، وقال صلى الله ايضا ليس البر الصيام في السفر .
2, مقصد الإيلام في العقوبة: قد يظن بعض الناس ان مقصد الإيلام في كل عقوبة من مقاصد الشريعة الإسلامية وذلك توهم لأن العقوبات في الشريعة الإسلامية شرعت لإصلاح حال الامة وهي زواجر وجوابر فإذا حصل الزجر بغير الايلام اكتفي به ولذلك تنوعت اساليب التعزير في الشريعة الإسلامية فقد يكون منها التوبيخ ومنها العقوبة المالية ومنها قليل الجلد او السجن وما هو اشد من ذلك وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين وقال جل وعلا لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم .
أثر المقاصد في الحلول الفقهية المعاصرة
ان جميع النوازل التي تحتاج فيها الامة الى استنباط الحكم الشرعي لابد ان ترجع الى واحد او اكثر من الضروريات الخمس التي جعل الإسلام حفظها من مقاصد شريعته ونظامه:
1, وأول هذه المقاصد، مقصد حفظ الدين وحفظه حفظ لجميع المقاصد لأنه اذا ضاع الدين اتبع الناس اهواءهم وفسدت اوضاعهم وذهبت الموازين العادلة والمقاييس الصحيحة التي تهديهم في تصرفاتهم قال تعالى ولو اتبع الناس اهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن ومن تأمل واقع الدول التي لا تحكمها الشريعة رأى كيف تزهق الارواح وتنتهك الاعراض وتنتهب الاموال بطرق واضحة او ملتوية.
ومن امثلة مقصد حفظ الدين في هذا العصر ضرورة استخدام الانترنت ووسائل الإعلام المعاصرة في الدعوة الى الله تعالى لنشر هذا الدين وتبليغه للناس بأسهل الوسائل والطرق وفي ذلك ارساء قواعده وتثبيته في قلوب الناس وبيان احكامه العادلة وحكمته الواضحة وحمايته من اعدائه, وقد امر الله الامة ان تفرغ منها جماعة يدعون الى هذا الدين ويأمرون الناس به كما قال تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
ومن امثلة مقصد حفظ الدين تعزيز دعاة الضلال ومثيري الشبه الذين يفسدون الامن الفكري ويفرقون الامة وذلك من مسؤوليات الحاكم المسلم، قال الإمام الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية : ويلزم الحاكم حفظ الدين على اصوله المستقرة وما اجمع عليه سلف الامة فإن ظهر مبتدع او زاغ ذو شبهة عنه اوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل والامة ممنوعة من ذلك , أ,ه.
وقد عزر عمر رضي الله عنه صبيغ بن عسل الحنظلي عندما اثار الشبهة في المدينة فنفاه الى البصرة وحذر الناس من مخالطته حتى تاب من ذلك.
2, أما مقصد حفظ النفس فالمقصود به صيانة الانفس المعصومة ومنع الاعتداء عليها وضمانها ومن امثلة هذا المقصد حكم الإسلام في الحجر الصحي على اصحاب الامراض المعدية القاتلة كالايدز والكوليرا ونحو ذلك اذا علم ان المريض سيساهم في نقل هذا المرض الى الانفس البريئة.
ومن ذلك حث الدين على ربط الحزام لأنه وسيلة مؤكدة لحفظ الأنفس عند حصول حوادث السيارات.
اما مقصد حفظ العرض والنسب فيستهدف حفظ الفروج من المزاحمة عليها لأن ذلك يفضي الى اختلاط الانساب وضياع النسل ويستهدف حفظ النسل فلا يجوز التبتل ولا التعقيم ولا ربط الرحم ولا الإجهاض إلا في الحدود الضيقة عند وجود مبرر شرعي ويستهدف حفظ النسب فلا يجوز نفيه بعد ثبوته.
ومن الامثلة المعاصرة على هذا المقصد رأي الشرع في التلقيح الصناعي وانه يجوز بين الرجل وزوجته ويحرم بينه وبين امرأة اجنبية لما في ذلك من اختلاط الانساب.
ومن امثلة ذلك تحديد العنوسة المذمومة فهي في الشرع ما فات به مقصد النسل كله او جله ويبدأ استعداد المرأة للانجاب من الخامسة عشرة الى الخامسة والاربعين بينما يرى غير من لا يلاحظ هذ المقصد ان العنوسة انما تكون عندما يفوت على المرأة فرصة الزواج ولا يظهر ذلك الا بعد بلوغ الخمسين او الستين سنة.
اما مقصد حفظ العقل فيستهدف حفظ العقل وهو النعمة الكبرى التي يتميز بها الإنسان عن سائر الحيوان وقد حرم الشارع كل ما يفسده من المفسدات الحسية والمعنوية فمن المفسدات الحسية الخمر والمخدرات ومن المفسدات المعنوية التصورات الفاسدة والمعتقدات الباطلة التي تفسد العقول.
ومن امثلة ذلك تحريم الإفراط في تناول المسكنات والمهدئات فإن هذه اذا افرط فيها اثرت على العقل وحصل المقصود الذي حُرمت من اجله الخمر.
أما مقصد حفظ الأموال فيستهدف حفظها ورواجها ووضوح وسائل اكتسابها والعدل فيها وتوثيق تملكها.
ومن الامثلة على ذلك تقرير الإسلام لمبدأ الشفافية في وسائل تملك المال وهذا مبدأ تفرضه منظمة التجارة العالمية ويعني تطبيق هذا لمبدأ الإعلان بصورة لا تقبل اللبس او الغموض عن كافة الاجراءات واتاحة معرفة جميع المعلومات لجميع الاطراف عن طريق نقط الاستعلام، وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال في امر البيع فإن صدقا بيَّنا بورك لهما في بيعهما وان كتما وكذبا محقت بركة بيعهما متفق عليه.
ومن أمثلة ذلك تملك الحقوق المعنوية مثل حق المؤلف وبراءة الاختراع ونحو ذلك فإنها حقوق شخصية بذل فيها صاحبها جهدا استحق به ان يحفظ له وحده.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved