Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/10/2006G Issue 12444مقـالاتالثلاثاء 02 شوال 1427 هـ  24 أكتوبر2006 م   العدد  12444
رأي الجزيرة
الصفحة الرئيسية

الأولى

محليــات

الاقتصادية

الريـاضيـة

مقـالات

فـن

دوليات

متابعة

منوعـات

الرأي

عزيزتـي الجزيرة

زمان الجزيرة

الأخيــرة

نظرات في محاضرة البابا بينيدكت السادس عشر
د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري

أثارت المحاضرة التي ألقاها البابا بينيدكت السادس عشر في جامعة ريغينسبورغ الألمانية يوم 12 سبتمبر الماضي، الجدل من جديد، حول موضوع العقل في الإسلام، أو العقل والقرآن، أو العقل في الحضارة الإسلامية، وحول قضية انتشار الإسلام بالسيف، وهما قضيتان طرحهما عدد من المستشرقين منذ أن بدأت حركة الاِستشراق تُثير الشبهات وتغالط في حقائق الإسلام وثوابته وتشكّك في عقائده وتنشر الأباطيل عنه.
وقد كرّر البابا في محاضرته ما قاله الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني: (إنًّ عدم التصرّف وفق العقل شيء يَتَنَافَى مع طبيعة اللَّه)، موجّهاً بذلك الاِتهام إلى الإسلام بأنه لا يدعو الإنسان إلى تحكيم العقل في أفعاله، ومدعياً أن المسيحية هي التي تلاقت مع العقل الإغريقي، فكانت بذلك التلاقي ديانةً تحلّ العقل مكانة عليا وتُحكّمه في تصرّفات وأفعال من يعتنقها. فهي بذلك، حسب زعمه، عكس الإسلام الذي يدعو إلى استخدام السيف في نشر دعوته. ومن الغريب حقّاً أن يقال عن الإسلام إنه لا يُقيم للعقل وزناً، بينما القرآن الكريم يحضّ على العقل والتعقّل في تسع وأربعين آية، ويتحدث عن (اللبّ) في ستّ عشرة آية، وعن (الُنّهى) في آيتين، ويذكر الفقه والتفقّّه بمعنى العقل والتعقّل في عشرين آية، والتدبّر في أربع آيات، والاِعتبار في سبع آيات، أما الآيات التي تحضّ على الحكمة وذكر القلب باعتباره أداة للفقه والعقل، فتبلغ مائة واثنتين وثلاثين آية، ناهيك عن ذكر العلم والتعلّم والعلماء الذي يأتي في أكثر من ثمانمائة آية.
وقد حدّد علماؤنا منذ القرون الأولى للهجرة، مفهوم العقل، فالراغب الأصبهاني يُورد في كتابه (مفردات القرآن) ما يلي: (العقل يقال للقوّة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوّة العقلُ).
والعقل عند علماء الأصول هو مناط التكليف. بما يعني ذلك أن القيام بالتكاليف الشرعية يرتبط بالعقل. وأن فهم مقاصد الشرع لا يُستوفى إلاَّ بإعمال العقل.
وأهمّ من ذلك أن الركن الأول من أركان الإسلام، وهو الشهادة بالتوحيد وبنبوة محمد بن عبد اللَّه، عليه الصلاة والسلام، تقتضي العقل؛ لأنَّ الشهادة من حيث هي شهادة بالمطلق، لا تصحّ إلاَّ بالمعرفة، وباليقين، وبالعلم، وهذه لا يُتوصل إليها إلاَّ بالعقل، إذ كيف يشهد المسلم أن لا إله إلاَّ اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه، إذا لم يكن عاقلاً ومدركاً وعلى علم ومعرفة ويقين بأنَّ ما يشهد به هو الحقّ؟
ويقول الشيخ محمد عبده: (إنَّ العقل هو من أجَلِّ القُوى، بل هو قوّة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعُه هو صُحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكلّ ما يقرأ فيه فهو هداية إلى اللَّه وسبيل للوصول إليه).
وللإسلام في الحقيقة دعوتان: دعوة إلى الاِعتقاد بوجود اللَّه وتوحيده، ودعوة إلى التصديق برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ فأما الدعوة الأولى، فلم يعوَّل عليها إلاَّ على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون، واستعمال القياس الصحيح، والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب وتعاقد الأسباب والمسببات، ليصل بذلك إلى أن للكون صانعاً واجب الوجود عليماً حكيماً قادراً، وأن ذلك الصانع واحد، لوحدة النظام في الكون، وأطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنته له الفطرة بدون تقييد. فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته، لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري، فلا يدهشك بخارق للعادة.
ويضيف الشيخ محمد عبده: لقد مُنحنا العقلَ للنظر في الغايات والأسباب والمسببات، والفرق بين البسائط والمركبات، والوجدانَ لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام وهلع واطمئنان.
أما عباس محمود العقاد فيقول:
لا يذكر القرآن الكريم العقل إلاَّ في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضةً ولا مقتضبةً في سياق الآية، بل هي تأتي في كلّ موضع من مواضعها مؤكّدةً جازمةً باللفظ والدلالة، وتتكرّر في كلّ معرض من معارض الأمر والنهي التي يُحثُّ فيها المؤمنُ على تحكيم عقله، أو يُلام فيها المُنْكِرُ على إهمال عقله وقبول الحجر عليه. ولا تأتي الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمَّد التفرقة ين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا العقل المدرك، ولا العقل الذي يُناط به التأمّلُ الصادق والحكم الصحيح، بل يعمّ الخطاب في الآيات القرآنية كلَّ ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصية أو وظيفة.
وفريضة التفكير في القرآن الكريم - كما جاء في كتاب العقاد (التفكير فريضة إسلامية) - تشمل العقل الإنساني بكلّ ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها، فهو يُخاطب العقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً مقتضباً، بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان. فمن خطابه إلى العقل عامة قوله تعالى في سورة البقرة { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. وفي سورة المؤمنون {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}، وفي سورة العنكبوت {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}، وفي سورة البقرة {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
والعقل عند الإمام الغزالي هو العقل في شرعة الإسلام، كلاهما عقل يبتغي الحقيقة حيث كانت، ولا يحجم عن المعرفة حيث أصابها، ولا يقيم فوقه أو بين يديه، باباً مغلقاً دون قبس من نور يُريه ما لم يكن رآه أو يزيده بصيرة بما رآه.
والعقل عند ابن قيم الجوزية هو (ضبط ما وصل إليه القلب وإمساكه حتى لا ينفلت منه). وهو الذي يقول في كتابه (مفتاح دار السعادة): (قد يُراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم، ويميّز، ويقصد المنافع دون المضار). والعقل عند الحارث المحاسبي (الغريزة التي ينال بها العلم والفعل المحصِّل للعلم). والعقل عند الشاطبي (غير مستقل البتَّة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل مقدّم على الإطلاق، والعقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي).
والعقل عند الدكتور طه عبدالرحمن عقلٌ مجرَّد، وعقل مسدَّد، وعقل مؤيَّد، وهو العقل الذي يتدارك الآفات الخُلُقية والعلمية التي يقع فيها العقل المسدَّد. فالعقل في الإسلام هو سبيل الإيمان بوجود اللَّه ووحدانيته وصفاته، فالإيمان بالله سابق على التصديق بالرسول وبالكتاب الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام. فالتصديق بالكتاب (النقل) متوقفٌ على صدق الرسول الذي أتى به. والتصديق بالرسول متوقفٌ على الإيمان بالإله الذي أرسل هذا الرسول وأوحى إليه. هكذا يقول الدكتور محمد عمارة موضحاً أنَّ ثنائية العقل والنقل لا يعرفها الإسلام، للتكامل القائم بينهما، وأن المقابلة بين العقل والنقل هي في حقيقة الأمر أثرٌ من المتناقضات التي تميّزت بها المسيرة الفكرية للحضارة الغربية.
والواقع أن الغرب ينظر إلى الإسلام من خلال تناقضاته هو مع النقل، فيُسقط بالتالي تصوراته على العقل الإسلامي، ومن ثم يصدر أحكاماً باطلة مثل تلك التي أصدرها بابا الفاتيكان مجانباً الحقيقة والصواب.
ولمكانة العقل في الحضارة الإسلامية، تطور العلم عند المسلمين، لأنهم - كما يقول الدكتور عليّ سامي النشار - قابلوه بروح جديدة في البحث كانت هي السبب المهم في تطوره ودفعه دفعةً قويةً إلى الأمام.
ولولا هذه (الدفعة) لما عاش العلم، ولما اعترف به مؤرخو العلم الأوروبيون أدنى اعتراف.
لقد كان لدى المسلمين المنهج الاِستقرائي الذي اكتشفوه. ولولا هذا المنهج
لسقط العلم في العالم الإسلامي، وانتهى أو على الأقل، توقف عند أبحاث اليونان وأبحاث الهنود والفرس.
وعند الرجوع إلى كتاب تاريخ العلم (Introduction to the
History of Science) للدكتور جورج سارتون، نجد شهادات
عظيمة بأهمية العلم العربي الإسلامي في العصور الوسطى.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية، وصدر عن دار المعارف في القاهرة في ستة أجزاء، وهو مرجع بالغ الأهمية، يشهد للعقل العربي الإسلامي بالتفوّق والتألّق والنبوغ والريادة في حقول البحث العلمي، في العصور التاريخية التي كانت فيها أوربا تتخبّط في ظلمات الجهل والتعصّب والكراهية.
ولو أن من يتحدث عن الإسلام من أهل الغرب، يرجع إلى المصادر الأوروبية التاريخية، لما كان موقفه من الإسلام منحرفاً هذا الاِنحراف المُشين. وهذا الجهل بحقائق التاريخ، أو تجاهلها، هو الذي يدفع بهؤلاء إلى افتراء الشبهات ونشر المغالطات، ومن بينها أن الإسلام انتشر بالسيف.
إنَّ حقائق التاريخ وواقع الحياة تثبت تهافت هذه الفرية وبطلان هذا الزعم، ويكفي التدليل على ذلك بوجود الأقليات من أتباع الديانات الأخرى في البلدان الإسلامية التي تعيش في أمن وسلام بين المسلمين، منذ عهد الفتوحات الإسلامية وإلى اليوم.
وقد كانت طائفة من أبناء هذه الأقليات ذات حظوة لدى الخلفاء والسلاطين، وكان منهم الأطباء والفلكيون والمدرسون والقائمون على الشؤون المالية في الدولة الإسلامية. وتروي لنا كتب التاريخ صفحات مشرقة عن التسامح الذي كان يسود المجتمعات الإسلامية.
ومن ذلك أيضاً انتشار الإسلام في شرق آسيا، وفي شرق أفريقيا وغربها، وفي أوروبا والأمريكيتين وأستراليا، عن طريق الدعوة والتجارة، فلا جيوش غزت ولا سيوف استخدمت.
ولقد أكّد القرآن الكريم الحرية الدينية في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) التي قال البابا عنها إنَّها تعود إلى بداية أمر النبي محمد عليه الصلاة والسلام، عندما كان ضعيفاً وتحت التهديد. وتجاهل البابا أن هذه الآية من سورة البقرة نزلت في المدينة، والرسول (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معه في عزّة ومنعة ودولة الإسلام قوية وراسخة.
ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقوله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء).
ولقد سار المسلمون وفق هذا الهدي القرآني، فلم يجبروا أحداً على اعتناق الإسلام بالإكراه، والتاريخ شاهدٌ على ذلك.
وأين هذا من التعصب الذميم الذي كان يهيمن على أوروبا وتُؤججه الكنيسة. طوال العصور الوسطى؟
ونشير هنا إلى ما ذكره الكاتب الفرنسي - غوستاف لوبون - في كتابه (حضارة العرب) - نقلاً عن روايات رهبان ومؤرخين رافقوا الحملة الصليبية على القدس، عما حدث حين دخول الصليبيين للمدينة المقدسة من مجازر دموية.
قال الراهب (روبرت) وهو شاهد عيان لما حدث في بيت المقدس، واصفاً سلوك قومه: (كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليُرووا غليلَهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها! كانوا يذبحون الأولاد والشباب، ويقطعونهم ويقبضون كلّ شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية!، فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث).
كما نشير إلى ما ذكره المطران برتولومي دي لاس كازاس في مذكراته التي نشرت ترجمتها العربية بعنوان (المسيحية والسيف)، عن الفظائع التي ارتكبها المسيحيون الإسبان في القارة الأمريكية، لإجبار سكانها على التنصر، حيث كان الغزاة يعلنون باللغة الإسبانية التي لا يفهمها أحد هناك: (يا سكان القرية إننا نعلمكم بوجود (إله) ووجود (بابا) ووجود ملك قشتالة سيد هذه الأراضي، فاخرجوا وأعلنوا الطاعة، وإلاَّ فإننا سنحاربكم ونقتلكم... وكانوا يدخلون على القرى فلا يتركون طفلاً أو حاملاً أو امرأة تلد إلاَّ ويبقرون بطونهم ويقطعون أوصالهم، كما يقطعون الخراف في الحظيرة. وكانوا يراهنون على من يشقّ رجلاً بطعنة سكين، أو يقطع رأسه أو يدلق أحشاءه بضربة سيف.
كانوا ينتزعون الرضع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويرطمون رؤوسهم بالصخور أو يلقون بهم في الأنهار ضاحكين ساخرين. وكانوا ينصبون مشانق طويلة ينظمونها مجموعة مجموعة، كلّ مجموعة ثلاثة عشر مشنوقاً. ثم يشعلون النار ويحرقونهم أحياء).
ويقول المطران الإسباني أيضاً: (لقد غشي الإسبان هذه الخراف الوديعة غشيان الذئاب والنمور والأسود الوحشية التي لم تجد طعامها أياماً وأياماً، ومنذ أربعين سنة وهم يقطعون أوصالها ويقتلونها ويروّعونها... وطوال هذه السنوات الأربعين أُبيد أكثر من اثني عشر مليوناً من الرجال والنساء والأطفال ظلماً وعدواناً).
وقد قال المؤرخ الفرنسي الشهير (مارسيل باتييرن): (إنَّ (برتولومي دي لاس كازاس) أهم شخصية في تاريخ القارة الأمريكية بعد مكتشفها (كريستوف كولومبوس).
وكما يقول الدكتور صبحي الصالح: (يبدو أنه لم يعد ضرورياً تدمير أسطورة أن الإسلام فرض نفسه بالسيف والعنف، فقد أثبتت كتب علمية عدّة العكس، فقط الذين يرفضون عن وعي إلقاء نظرة موضوعية على التاريخ ما زالوا محافظين في أذهانهم علي هذا القالب الجامد).
إنَّ هذا التسامح الذي هو الطابع المميّز للحضارة الإسلامية، كان ينبثق من الإيمان بالقرآن، ومن احترام العقل، ومن مراعاة كرامة الإنسان.
أمّا قطب الرحى في ذلك، فهو استشهاد البابا بينيدكت السادس عشر بنصّ ورد في المناظرة السابعة بين الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني وبين عالم فارسي، جرت في القرن الرابع عشر الميلادي، يقول: (أرني ما الجديد الذي جاء به محمد، لن تجد إلاَّ أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف).
وهذا النصّ الذي استشهد به البابا في محاضرة عن العقيدة والعقل والجامعة، والذي لا علاقة له بموضوع المحاضرة، اختير قصداً لإثارة الاِنتباه إلى قضايا تهمّ المجتمعات الغربية، التي هي في غالبية سكانها مجتمعات مسيحية، خاصة في ظلّ تنامي الإقبال على دراسة الإسلام واعتناقه من قبل أعداد كبيرة من الغربيين، ولتنامي الوجود الإسلامي في هذه المجتمعات، ولإثارة الاِنتباه أيضاً إلى الرغبة الملحة لدى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتذكير بكونها وريثة الدولة العثمانية التي حاصرت الإمبراطور مانويل الثاني خلف أسوار القسطنطينية، بعد هروبه من بلاط السلطان بايزيد الأول في مدينة بورصة حيث كان يعيش لاجئاً عنده.
أما كون محاور الإمبراطور مانويل الثاني فارسياً، ففيه تلميحٌ إلى التخوّف من إصرار إيران على امتلاك التكنولوجيا النووية، وما يمثله هذا الموقف من خطر على الغرب وعلى إسرائيل، التي أشار إليها البابا في محاضرته عندما شرح العلاقة بين اليهودية والمسيحية والتقاءهما بالفكر اليوناني، يقول البابا: (في العهد القديم بلغ المسار الذي بدأ عند النار مستوى آخر من النضج في مرحلة التيه عندما اعتبر إله إسرائيل، التي كانت محرومة حينئذ من أرضها وعبادتها، ربّاً للسماوات والأرض).
ومن الثابت تاريخياً أن ملوك بيزنطة، ومنهم (مانويل الثاني)، هم الذين طلبوا شنّ الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، حيث كانوا يستغيثون بملوك أوروبا وبباباوات الكنيسة الكاثوليكية لإرسال الجيوش لمحاربة المسلمين من العرب والفرس والأتراك السلاجقة والأتراك العثمانيين. ومانويل الثاني نفسه الذي استشهد البابا بينيدكت السادس عشر بنصّ من محاوراته، حشد حملة صليبية بقيادة الملك الهنغاري سييجموند لمحاربة المسلمين، غير أنها هُزمت في عام 1396م. بل إنَّ الإمبراطور مانويل الثاني دخل في معارك دامية مع أخيه اندرينكوس الرابع ومع ابن أخيه جون السابع للسيطرة على العرش البيزنطي، واستخدم السيف في قهر منافسيه وإزالتهم.
ومن العجيب أن هذا الإمبراطور عقد صداقة مع السلطان محمد الفاتح، ووقّع معه اتفاقية سلام دفع بموجبها الجزية. وقد يكون هذا سبباً في حقده على المسلمين وعلى دينهم.
إنَّ من الواضح، من خلال التأمل في محاضرة البابا، أنَّ الهدف الرئيس منها هو العمل على استعادة الكنيسة الكاثوليكية مكانتها المؤثّرة في العقل الغربي وفي مجريات السياسة الغربية بتقديم تنازلات فكرية لتضييق الفجوة بين الكنيسة الكاثوليكية وبين تيارات الفكر الحداثي في الغرب، وقد تكون تأسيساً لتحالف حضاري غربي في مواجهة الإسلام وحضارته. وهذا ما يتمناه المتطرفون في الشرق والغرب الذين يؤججون نار الصراع والكراهية ويسعون إلى الإخلال بالأمن والسلم في العالم.
إنَّ من المؤسف حقّاً أن يعمد البابا بينيدكت السادس عشر، وهو أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية، إلى إثارة هذه الشبهات، وتوجيه هذه الاِتهامات إلى الإسلام، في وقت تتعالى فيه موجات التعصّب الديني والاِستهانة بالمقدسات الدينية وازدرائها، وكأنّه واحد من هذه الأطراف المتعصّبة، بينما مكانته وموقعه يفرضان عليه أن يكون داعية حوار ديني واحترام حضاري وسلام عادل.
ولعلّه بعد أن تأسّف على ما أحدثه كلامه من ردود أفعال ناقدة وغاضبة من المسلمين ومن كثير من المنصفين في العالم، يُعيد النظر في هذا المسلك الخطير الذي يتعارض مع العقل المسالم، ولا يدعو إلى المحبّة التي هي رسالة الأنبياء جميعاً.

المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة أكتوبر



نادي السيارات

موقع الرياضية

موقع الأقتصادية

كتاب و أقلام

كاريكاتير

مركز النتائج

المعقب الإلكتروني

| الصفحة الرئيسية|| رجوع||||حفظ|| طباعة|

توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية إلىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية إلى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved