Al Jazirah NewsPaper Tuesday  21/08/2007 G Issue 12745
مقـالات
الثلاثاء 08 شعبان 1428   العدد  12745
الحركة النقدية المعاصرة المعطيات.. والآفاق..! 1-4
د.حسن بن فهد الهويمل

كلُّ عنوان يشكل مصطلحاً أو تساؤلاً، يلقى أو يُتلقَّى ليتداوله ذو الشأن مصعداً الخلاف، أو مطفئاً لظاه.

وما اختلف المعنيون إلا من بعد ما جاءتهم المصطلحات العائمة:....

.... مترجمة أو معربة أو منقولة أو منشأة إنشاء، وانتقالها من حضارة إلى أخرى مؤذن باختلاف كبير، والمشهد يرصد الاستعلام والتعليم.

والراسخون في علم المصطلحات والفنون، يعرفون المسافة بين الحجة البالغة والادعاء العريض، ولجة الاختلاف لا يخوضها باقتدار إلا من يملكون القدرة على التفسح في المشاهد للاختلاف المشروع، ويحسبون كل الحسابات للتأويل الناقل من واحدية المفهوم إلى تعدديته، وما ضيق الواسع إلا الحدِّيون الواحديون الذين لا يتسع عطنهم إلا للمقدم من رؤيتهم، بحيث لا يحيدون عنه، وفي صخب التعددية والواحدية يجتال المشاهد أساطين النقد وأدعياؤه، بقول مختلف.

والإشكالية في الخلطة اللجية، التي لا يستبين فيها الراصد الصادق من الكاذب، والأصيل من الدعي، ولكيلا نوسع مجال التناول، نقف أمام العنوان المتمثل بكلمات أربع، تعد من السهل الممتنع، ف(النقد) و(المعطى) و(الاستشراف) و(المعاصرة) من القول الأليف، ولكن المقاربة الواعية تحيل الممكن إلى المستحيل، ومثلما استيأس المنظرون من تحديد مفهوم (الثقافة)، فقد كادوا يكونون أكثر يأساً في تحديد مفهوم (النقد)، فالمؤرخ للأدب والشارح الوسيط، وصاحب المختارات والمنظر، والمقارن، والمفكك للنص الباحث عن دلالاته العميقة، والعائبون، كل أولئك يُسمَّون نقاداً بدون اتفاق.

وفي ضوء هذا الاضطراب في المفاهيم يصبح المصطلح عصياً، ويظل الخلاف قائماً، غير أنه خلاف لا يحيل إلى مرجعية حاسمة، ومعضلة أي خلاف تتمثل في غياب المرجعية أو إسقاط حاكميتها، و(النقد) على الرغم من أزليته يظل مشروع اختلاف حول مفهومه ومقتضاه ومشمولاته، وإذ بالإمكان السيطرة على أحوال النقد وتقلباته في العصور الأولى، فإنه ليس بمقدور أحد أن يلم بالحركة النقدية المعاصرة وتحولاتها المتلاحقة، واهتماماتها المتعددة، ولكن ذلك لا يمنع من القول في عمومياتها، و(المعاصرة) بوصفها صفة للحركة النقدية محددة لأمدائها الزمانية مصطلح، لم يتفق أهل الاختصاص على مداه الزمني، والبعض منهم يخلط بينه وبين التجديد، حتى يكون (التجديد) و(المعاصرة) عنده كالرديفين، وذلك مكمن الإشكالية.

وعندي أن (المعاصرة) لا تتجاوز الزمن إلى ما سواه، ولا تمتد لأكثر من قرن، وهي بهذا المفهوم لا تعد إشكالية فنية، والمتعقب لتحولات النقد، يحس أنها مرتبطة بما يجري في المشاهد الغربية، فهي كالأجواء التي لا تنشئ الطقس، ولكنها تتأثر بتقلبات الأجواء المجاورة، ومما يؤخذ على الحركة النقدية المعاصرة في الوطن العربي، ارتباطها العضوي بالمستجد الغربي، فهي كالصدى للصائح المحكي، وحين ترضى من الحركة النقدية العالمية بالمحاكاة فإنها لا تمتلك المبادرة ولا الاستقلالية، والمأخذ عليها أنها قادرة على المبادرة والاستقلالية والتفاعل بندية، بموروثها العريق، وذلك من نقص القادرين على التمام، وإذ لا يكون الأدب العربي مجتثاً من فوق الأرض، وإذ تكون له حضارته الأعرق من كل الحضارات، فإن واجب الأساطين الاستبداد، والعاجز من لا يستبد.

وليس الاستبداد أن نغلق الأبواب، ونكتفي بما نتداول، ولكنه الاستقبال الواعي لمنتج الآخر، وأخذ ما ينقصنا منه، وما نحن بحاجة إليه، وما لا يؤثر في خصوصيتنا، والذين يتفحصون التواصل مع الآخر، يجدونه لا يتجاوز الاستهلاك غير المحسوب، وقبول المعطى على علاته مؤذن بطمس الهوية، وفقد الثبات، وما من مشهد نقدي إلا وله إشكالياته المتعددة والمتبدلة من فترة لأخرى، فالخوف غير المبرر تفويت للفرص، والاستقبال غير المقيد إلغاء للذات، وبين محدودية الخوف وضابط الاستقبال تنمو المشاكل، وتتضاعف المتاعب، والعقلاء وحدهم الذين يَشْقون بهذا الفيض من المعارف المختلطة على غير نظام، إن هناك تيارات ومذاهب وآليات ومناهج، لا يُستغنى عنها، ولا يُستغنى بها، والإشكالية ليست فيها، ولكنها في أسلوب التعامل معها، ومن ازورَّ عما أنجزته الحضارات بحجة الاستغناء أو الخوف من الغزو والتآمر فقد فوت على أمته كل الفرص.

والمشهد النقدي العربي كما المشاهد الغربية مر بتحولات متلاحقة، إذ كان مركز الكون النقدي (مُنْتِج النص)، ولقد عرفت تلك المركزية ب(النقد التكويني) وهو غير (البنيوية التكوينية)، ولما استوت المناهج والآليات على سوقها، تحولت المركزية الكونية إلى (النص)، ولقد عرفت تلك المركزية بمسميات مختلفة ومتعددة ومترادفة، يجمعها (النقد الألسني)، وفي أوج تألقها تحولت المركزية إلى (المتلقي) فكانت نظريات المعرفة والتلقي، وهذه التحولات المتلاحقة خلَّفت كماً هائلاً من النظريات والمناهج والآليات، لا ننكر إسهامها في تخصيب المشهد النقدي وإثرائه، وإن بدت بعض النظريات مربكة، وغير مستوعبة، وبخاصة ما يتعلق بالمنهج اللغوي الذي نُقل بحذافيره من (فقه اللغة) إلى (فقه الأدب) فتحول النقد من التذوق الجمالي، إلى تجرع المعيارية المقطِّعة للأوصال.

وعيب المشهد العربي الحماس والتسرع والاهتياج الأعزل من المعرفة الدقيقة، وفي ظل تبادل المواقع نجمت مناهج نقدية (أيديولوجية) ولغوية ونفسية وثقافية واجتماعية، كانت السبب الرئيس في التنازع والتدابر والتنابز، وكل معركة نقدية وراءها مذهب أو منهج أو آلية أو (أيديولوجية) ليست من عند حضارة الانتماء.

وحين نأخذ على الحركة النقدية اضطرابها، وسرعة تحولاتها، وتفرق جمعها، لا نود العودة إلى النمطية والتناظر، إذ لا نجد بداً من التعدد والاختلاف. واستيعابنا للأطياف، لا يعني ترك الأمور بلا قواعد وبدون ضوابط أو مرجعية يحتكم إليها المتجادلون، وحين لا نحفل بالمشاكلة والمماثلة فإن هذا مرتهن بسقف ومحدِّدات تحفظ الهوية، إننا حين نكون ضد الانفلات لا نكون في المقابل مع النمطية، وبين هذا وذاك مسافة وهمية، لا يقدرها حق قدرها إلا العالمون ببواطن النقد الحديث.

وحين نستدعي العمالقة لا نبيح لأنفسنا الخلط بين التأسيس النظري والممارسة التطبيقية، المنظرون كادوا يستقصون حدود المناهج والآليات، وبخاصة عند المتأخرين من (النقاد المغاربة) وبعض المشارقة، أما المطبقون فإنهم لا ينفكون من خلفياتهم الثقافية، ومن سلطان النقد الشعري الذي يغرق في الشكلية واللغوية، وأيا ما كان الأمر فإن المشهد النقدي وسع الحراك، ولم يأنف من الوصول إلى كل ظاهرة شرقية أو غربية. والرد إلى أصول الحركة النقدية المعاصرة يُذكرنا بعلمين لا يعيشان حضوراً في المتداول، وإن كانت لهما سابقة الريادة في محاولة التأسيس للمعرفة النقدية على أصولها الحديثة.

أما أحدهما فكان رائد الأدب المقارن وهو (روحي الخالدي ت1913م) وأما الآخر ف(قسطاكي الحمصي ت1941م) الذي مزج بين النقد العربي القديم من خلال آلية البلاعة، والنقد الغربي، متمثلاً الأسس الثلاثة (البيئة والجنس والعصر) متماهياً مع الناقد الغربي (سانت بيف)، ونسيان هذين العلمين بسبب الحركة النقدية المتسارعة التي تجاوزت الريادة والتأسيس، وكادت تسبق ظلها، وعلى مشارف الأصول تتراءى لنا اتجاهات نقدية ظلت تتجاذب أردية الحركة، فالأديب (مصطفى صادق الرافعي ت1937م) اتخذ المنهج البياني، و(عباس محمود العقاد ت1964م) اتخذ المنهج العلمي الفلسفي متماهياً مع الاتجاه النفسي عند (هازلت)، أما (طه حسين ت1973م) فقد راق له النقد الاجتماعي كما هو عند (تين)، وقد سماه بعض الدارسين بالاتجاه الفني العلمي.

لقد أدت المراوحة بين الذات الفاعلة، والذات المتلقية إلى استبعاد المادة الأدبية بوصفها المسيطرة على العملية النقدية. فالاهتمام بالمتلقي يتوسل بالإدراك المؤدي إلى بناء جديد للمعنى، لم يكن مقصوداً رئيساً للذات الفاعلة، فالمعنى المنشود ليس هو المعنى المرسل، بمعنى أن المتلقي بما يملكه من وسائل وخلفيات ثقافية، وظروف متحكمة ينتج المعنى الذي يخدم راهنه، غير عابئ بمقاصد الذات الفاعلة، وقد أعيدت قراءة التراث الشعري، بعيون العصر وآلياته، على يد (جابر عصفور) و(كمال أبو ديب) وآخرين، كانوا أقرب إلى التوازن ك(محمد نجيب البهبيتي) وفكرة النظام والنسق والبنية التحتية، وسائر الفرضيات ألقت ظلالاً قاتمة على النص، وحققت هاجس الانقطاع المضاعف، على أن (المنهج البنيوي) بوصفه آلية نقدية، يركن إلى النظام اللغوي في تحديد المعنى، فيما يركن المتلقي إلى أثر البنية لا إلى نظامها، ومن الصعوبة بمكان التفريق المقنع بين نظام البنية وأثر البنية في تجسيد المعنى، ولكن النقاد يعولون على مثل ذلك، وفي ظل التحولات المتسارعة تجاوزت المركزية المتلقي إلى (النسق الثقافي)، فكان تفكيك الدلالة بواسطة النسق الثقافي، لا بآلية اللغة، ولأن المشهد مرتهن للطوارئ، فإن التعويل على أي مركز يعد مرحلة انتقالية.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد