Al Jazirah NewsPaper Friday  30/11/2007 G Issue 12846
الرأي
الجمعة 20 ذو القعدة 1428   العدد  12846

مجالسة الرجال وآدابها
سلامة بن هذال بن سعيدان

 

بادئ ذي بدء فإن المجالسة في مفهومها الضيق قد يقصد بها أي تجمع عارض أو مدروس على النطاق المحدود، ويسود هذه المجالسة في الغالب محادثات تلقائية ذات أغراض متعددة، وموضوعات متجددة، وحالات المجالسة ليس لها طابع رسمي، ولا تحتاج إلى تحضير مسبق، رغم أن بعضها قد يكون مسبوقاً بوعد، وله استعدادات خاصة، ويدخل في هذا المفهوم في معناه الواسع ونطاقه الجامع المجالس والمنتديات، وما في حكمها من لقاءات واجتماعات يحكمها آداب معينة، وتخضع لاعتبارات متعارف عليها، وتدعو الحاجة إليها، وتعتبر المجالس وما يحصل فيها من لقاءات ويجري فيها من محادثات ومناقشات هي الرائد في هذا المجال.

وترتيباً على ذلك فقد دأب العرب على الاهتمام بمجالسهم ومكان استقبال زوارهم وضيوفهم حيث ينظر كل منهم إلى هذه المجالس بأنها وجه بيته، ومنها يأخذ الزائر والضيف الانطباع الأولي عن أهل هذا البيت، وما يتصفون به من سماحة وكرم، وينزعون إليه من تالد أصل وحسب، ويتمتعون به من طارف فضل وأدب، وقد تكون المنازل عناوين لقاطنيها، شاهدة على مظهرهم، وموحية بما هو عليه مخبرهم.

ونظراً لأهمية هذه المجالس في حياة الناس فإن الجلوس فيها يستأثر بالكثير من وقتهم، وسعتها وسهولة الوصول إليها، وإمكانية دخولها، يمثل محل تنافس فيما بينهم، بوصف ذلك في منظورهم يعد دليلاً على كثرة من يرتادها، بالإضافة إلى أ ن الجلوس في الأفنية وتناول الوجبات الغذائية فيها، يعتبر عند العرب سمة من سمات المروءة، وكل هذه الأمور يُتخذ منها مدخلاً نحو الاتصاف بالكرم والحصول على السمعة الحسنة والتطلع إلى شكل من أشكال السيادة، وقد قال الأحنف بن قيس: أطيب المجالس ما سافر فيه البصر، وسكن فيه البدن، وقال المهلب: خير المجالس ما بعد فيه مدى الطرف، وكثرت فيه فائدة الجليس.

والمجالس والمنتديات عند العرب لها سمتها ورسميتها، ويحكم الجلوس فيها أعراف مرعية، وتقاليد سوية، وآداب المجالسة والمجالس والسمو بما يجري فيها من محادثة من الأمور التي دعا إليها الدين وطلب من الناس التأدب بآدابها والالتزام بأعرافها، كما اعتاد أشراف الناس على الأخذ بها، والاهتمام بما تدعو إليه من قيم ومثل حفاظاً على قيمتها ووقارها، وضماناً للاستفادة منها بما يحّول هذه المجالس إلى مدارس لاكتساب الدروس وتعليم النشء، ويجعل من الحديث فيها غذاء للعقول، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب لله، أو أجالس قوماً يلتقطون طيب الحديث، كما يلتقط طيب الثمر لأحببت أن أكون قد لحقت بالله. وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: مجالسة الرجال، وقيل لابنة النعمان: ماذا كانت لذة أبيك؟ فقالت: مجالسة الرجال، وقال الحسن: بن سهل: أشهر آداب العرب ثلاثة وواحدة أربت عليها، فالثلاثة هي الشعر والنسب وأيام الناس، أما التي أربت عليها، فمقطعات الحديث والسمر، وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس، وقد قال الشعبي يمدح قوماً: ما رأيت مثلهم أشد تناوباً في مجلس ولا أحسن فهماً عن محدّث، وقال أحد الشعراء يمدح آخرين:

جلوس في مجالسهم رزان

وإن ضيف ألمّ بهم وقوف

والتأدب بآداب المجالسة يعتبر من المحامد التي يحمد عليها الرجل، والممادح التي يمدح بها، فعلاوة على ما يعطر المنتديات والمجالس من ذكر، ويزينها من فكر، ويستفاد منها من فوائد، ويكتسب منها من آداب، فإن الموجودين فيها يتداولون تلقائياً أحاديث مشتركة، ومداولات جامعة، يترتب عليها عفوياً تبادل الانطباعات وعقد المقارنات، وما ينتج عن ذلك من قياس المعارف والثقافات، واختبار الطبائع والأخلاقيات، والكشف عن المعادن والأعراق، والأمزجة والأذواق، وهذه الصفات والممارسات التي يبديها أحدنا يومياً دون أن يحسب لها حساباً أو يلقي لها بالاً ينطبق عليها شيء من هذا الواقع الذي قد يتحول مع تكرار الاعتياد إلى انطباعات وسماعيات تلقي بظلالها على الصورة الذاتية المعطاة له.

والواقع أن بشاشة الوجه وطلاقته عند الترائي، والمصافحة عند التلاقي من الآداب المطلوبة في جميع حالات المجالسة فالبشاشة هي حبل المودة ومصيدتها، وأول قرى الضيف، وطلاقة الوجه هي عنوان الضمير، والمصافحة تؤكد ذلك، مزيلة ما يمكن أن ينغص اللقاء، وجالبة المحبة والصفاء، وعن طريقها تستهل آداب المجالسة. وقد روي عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلمين يلتقيان، فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا). ثم بعد ذلك يجلس القادم في المكان الذي يخصص له، وهو المكان الذي يؤخذ بيده إليه ويبر، لا الذي يسحب منه ويجر، أو يجلس حيث ينتهي به المجلس، مدركاً أن المكان الذي يرفع إليه خير من المكان الذي يحط منه، وأن الدعوة من بعيد عدة مرات، أفضل من الإقصاء من قريب مرة. وقد ورد في الحديث عن عبدالله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (لايقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا).

وبما أن الآداب والفضائل منبعها الدين ومردها إليه إذ يكمن فيه أصلها، وتنبثق منه فروعها، فقد أباح الدين القيام للقادم من أصحاب الفضل والجاه والعلم الذي لا يكترث بمن قام أو قعد، حيث روى الشيخان أن سعد بن معاذ عندما أقبل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لمن عنده من قومه: (قوموا إلى سيدكم سعد). ويدخل في هذا المفهوم أن الرجل الفاضل والعالم وكل من له قدر إذا أتى قادماً إلى المجلس فمن المحبذ أن يوسع له فيه ويقابل بما يستحق من التقدير والاحترام، من منطلق أنه كريم قوم، وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، طبقاً لما ورد في الحديث الشريف: (انزلوا الناس في منازلهم).

ومما يؤيد هذا النهج، ويؤكد ضرورة الأخذ به من جانب، ويجعل الاهتمام بأولي الفضل محبذاً من جانب آخر، ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع جرير بن عبدالله البجلي، وهو سيد قومه عندما دخل عليه والمجلس غاص بأهله، وجلس حيث انتهى به المكان، إذ ألقى إليه رداءه، وقال له: اقعد على هذا يا جرير.

وكما أن الاتزان والهدوء وحسن السمت في المجالس يعتبر من المروءة، فإن التوسع فيها يعد أيضاً شاهداً من شواهد هذه المروءة، ونوعاً من أنواع المعروف، وكان الأحنف بن قيس إذا أتاه رجل أوسع له، فإن لم يجد موضعاً تحرك ليريه أنه يوسع له، وكان يقول: ما دخلت بين اثنين قط حتى يكونا هما يدخلاني في أمرهما، ولا أقمت من مجلس قط، ولا حجبت عن باب قط، يقول: لا أجلس إلا مجلساً أعلم أني لا أقام عنه، ولا أقف على باب أخاف أن أحجب عن صاحبه.

وانطلاقاً من هذه القاعدة وتكريساً لها فقد قال زياد ابن أبيه: ما أتيت مجلساً قط إلا تركت منه مالو جلست فيه لكان لي، وترك مالي أحب إليّ من أخذ ماليس لي. وقال إياك وصدور المجالس وأن صدّرك أصحابها فإنها مجالس قلعة، أي لا يستقر الجالس فيها.

وكان الحجاج بن أرطأة أول من ولي القضاء لبني العباس على البصرة، وكان شديد الاعتزاز بنفسه وعلمه، ودخل ذات يوم مسجد البصرة، واقترب من حلقة أحد العلماء، وجلس مع الطلبة يستمع لحديث الشيخ فقيل له: لم لا ترتفع إلى الصدر يا ابن أرطأة؟ مكانك يجب أن يكون قرب العلماء وعلية القوم، فقال ابن أرطأة، أنا صدر حيث كنت.

وإذا كان ما ورد ذكره هو أقوال وأفعال سادة في المجالس توضح مالهم من تحفظ على هذا الاستحقاق، حتى لا يحدث ما يطعن في المروءة أو يخدش آداب المجالس والمجالسة، واثقين من أنفسهم إلى الدرجة التي تجعلهم على قناعة بأنهم في الصدر أينما وحيثما كانوا، فما بالك بمن يتهافتون متهالكين على مالا يستحقون سعياً وراء تصدير المجالس لهم، ولله در القائل:

إذالم يكن صدر المجالس سيدٌ

فلا خير فيمن صدرته المجالس

وهؤلاء المشار إليهم من النوع الذين استحكم فيهم الجهل فضلاً عما يعانون من مركبات النقص إلى الحد الذي يجعلهم إذا دلفوا إلى المكان المعد للجلوس كان همهم الوحيد وشغلهم الشاغل الجلوس في الصدر، متجاهلين آداب المجالس والمجالسة، بل قد يصل بهم الأمر إلى التطلع إلى أبعد من هذا، بحيث يراودهم تفكيرهم أحياناً إلى الوقوف في المدخل رغبة في أن يتتابع أهل المجلس نحوهم لاستقبالهم والسلام عليهم، محاولين إقصاء غيرهم من مكانه، وفرض أنفسهم على من لا يعرف لهم فضلاً، تدفعهم إلى ذلك تخيلات فاسدة واستحقاقات كاسدة، وعندما يستقر بهم المكان تجدهم صورة مجسدة ومثالاً حياً لأحد الرجلين اللذين قال عنهما أحد الحكماء: رجلان ظالمان يأخذان غير حقهما، رجل وسع له في مجلس ضيَّق فتربَّع وانتفخ، ورجل أهديت له نصيحة فجعلها ذنباً.

وإذا تجاذب الجلوس أطراف الحديث تأكد لأهل المجلس أنهم من الأصناف الثلاثة الذين قيل فيهم أنهم أسوأ الجلساء وهم: مدعي علماً لا يمكِّن غيره من أن يقول، وجاهل لا يفهم عن غيره ماذا يقول، وبين بين ذو فضول.

والعاقل الأديب لا يتبوأ صدر المجلس، ولا يتعدى قدره، ولا يجلس في مكان يقام عنه، ولا يحتفل بقادم بشكل يؤذي جليسه أو يزعج صاحب المكان، والناس عنده درجات ومنازل بحسب فضلهم وكبر سنهم، ولا يقتصر أدبه على أحد دون آخر، ولا على مجالسة دون غيرها، وإذا جالس العامة يكثر الصمت ولا يصغي إلى بعض أقوالهم وأراجيفهم، ويتغافل عما يجري من سوء محادثة، وكما قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: لجليسي عليّ ثلاث: أرمقه إذا أقبل وأوسع له إذا جلس وأصغي إليه إذا تحدث.

والعشرة لها آداب ومن آدابها البشاشة عند اللقاء، والبدء بالسلام والتوسع في المجلس، والبعد عن أذى الجليس، وكل هذه الفضائل من آداب المجالسة، والالتزام بها مطلوب في كل زمان ومكان، لتدوم العشرة، وتهنأ المجالسة عن كل ما يشوبها ويعكر صفوها ويؤذي الجليس، واحتراماً لهذا الجليس بدون استثناء فقد قال أسماء بن خارجة: ما مدت رجلي بين يدي جليس لي قط، فيرى أن ذلك استطالة مني عليه.

وليس ثمة أمتع لذي اللب، وأحسن موقعاً في القلب من محادثة العقلاء ومجالسة العلماء والأدباء، وما يترتب على ذلك من أحاديث تتفتق عنها الأذهان، وينفسح بها الجنان مرة على سبيل النقل وأخرى من ابتكار العقل وقد قال الشاعر:

وما بقيت من اللذات إلا

محادثة الرجال ذوي العقول

وقد كنا نعدّهم قليلاً

فقد صاروا أقل من القليل

والمحادثة هي التي تنفخ في روح المجالسة، وتعطيها حجمها، وترفع نجمها، وبدونهالا يستقر لها قرار، ولا يكتب لها استمرار، وفيها غذاء للألباب ونداء للآداب وهي موضوع المقالة التالية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد