Al Jazirah NewsPaper Tuesday  06/05/2008 G Issue 13004
الثلاثاء 01 جمادى الأول 1429   العدد  13004
دراسة استراتيجية .. من دمر الدولة العراقية وكيف يمكن أن تنهض ثانية!
عبد الإله بن سعود السعدون *

يعتقد الكثيرون من المراقبين السياسيين في الشرق الأوسط بأن الحملة الأنجلو-أمريكية على العراق في 2003م لم تصاحبها خطة لما بعد الحرب ولهذا وقعوا في فوضى عارمة قادها الجياع لنهب وتدمير المباني الحكومية وسرقت المتاحف وكل ما هو عراقي من مال عام إلا وزارة البترول والخارجية فقد وضعت عليها حماية محكمة لمنع تخريبها وتدمير محتوياتها لأهميتها بالنسبة للقوى الغازية وأن الحملة لديها أجندة سياسية معتمدة على تفكيك أركان الدولة. ولابد من تسجيل حالة سلبية أساسية لتراكم الحكم غير الواعي والانفرادي للعهد البعثي طيلة ثلاثين عاماً من التسلط القمعي الذي ركز الخوف والقلق في جميع أبناء الشعب العراقي يشكل مناخاً مناسباً للفورة الاجتماعية التي رافقت سقوط الحكم وبروز الفوضى الانفجارية في الشارع العراقي وقوات المحتل استأنست بحالة التفرج على هذه المأساة الإنسانية التي تكاملت بإلغاء الجيش العراقي وقوات الأمن والإعلام الرسمي وكل هذا أدى إلى تهديم أركان الدولة وتركها مفتوحة للمخربين والعابثين من القوى الإرهابية وكأنها دعوة لتصفية الحسابات القديمة على حساب أمن واستقرار العراق.

وبرز اللاعبون الرئيسيون في مباراة تدمير الدولة العراقية الموحدة وذات الوجه العربي وإيجاد سيناريوهات جديدة مشبوهة تخدم مصالح كل لاعب في هذه اللعبة التي تصب منافع نتائجها على اللاعبين الجدد وعلى حساب استنزاف دماء الشعب العراقي وبكل طوائفه وأعراقه وأصبح هو الكرة التي تموت الآن ركلاً وتقاذفاً في بركة دماء أبنائه الأبرياء!

ويكم تحديد هويات هؤلاء اللاعبين بالتسلسل الآتي حسب عمقه في درجة التخريب لأسس وأركان الدولة العراقية:

1- المحتلون: وجناحا هذه الحملة الغازية انكلترا والإدارة الأمريكية والتي وضعت أسس الخدعة الدولية التي شرحها المستر باول وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية استناداً على تقرير المستر تبينيت رئيس جهاز المخابرات الأمريكية، والذي حدد بالصور والوثائق البيانية امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وعلاقته الوثيقة بتنظيم القاعدة الإرهابي مما يهدد السلم العالمي ولابد من إسقاطه بحملة عسكرية وتخليص الشعب العراقي من ديكتاتورية حزب البعث ورئيسه الذي خنق حريات الشعب ودمر اقتصاده وهدر أمواله في حروب إقليمية هددت المنطقة بكاملها بالخطر وصدق مجلس الأمن هذه الخدعة الدولية ومع هذا لم يصدر قراراً دولياً صريحاً بتخويل الولايات المتحدة بغزو العراق عسكرياً واستباحة استقلاله وسحق حرية شعبه وجاءت نتيجة هذه الحملة الغازية أن استشهد مليون قتيل عراقي ومثله في معوقي الحرب والتفجيرات التي استمرت أكثر من خمس أعوام حتى الآن دون الوصول إلى خارطة طريق يسترشد من خلالها إعادة أسس الدولة العراقية الحديثة!

وبعد اكتشاف هذه الخدعة الدولية سقط رموزها فكان مستر تينيت رئيس السي آي أيه أول ضحايا الحملة فاستقال بظروف غامضة بعد ثبوت كذب تقاريره المعتمدة على معلومات المعارضة العراقية التي رافقت الغزو الأمريكي وكان كولن باول أشجع الفريق حين إعلانه اعتذاره الدولي لتصديقه هذه الأكذوبة التي أدت إلى غزو العراق وترك الخدمة في وزارة الخارجية الأمريكية وتقاعد راغباً بهذا القرار الشخصي وخشية من تشويه تاريخه السياسي لدى الشعب الأمريكي والعالم الحر وكان آخر الصقور خذلاناً المستر رامسفيلد مهندس الحملة عسكرياً، وساعد في تبرير هذا الغزو غباء ورعونة الدبلوماسية العراقية آنذاك والتمويه بفخر لإمكانية وأحقية العراق لامتلاك أسلحة رادعة ومنها الدمار الشامل مما أثار خشية العالم بأسره لخطورة موقفهم بدلاً من الإثبات الفعلي لخلو العراق من هذه الأسلحة ورافقت الحملة العسكرية المعارضة المتحالفة مع أمريكا من الأحزاب الكردية وحلفائها من الأحزاب المذهبية في الوسط والجنوب ورحبت بالغزو وقدمت له خدمات لوجستية واستخباراتية وبرضى وتأييد إيران التي استبشرت بهذه الحملة لتخليصها من عدوها اللدود الرئيس صدام وفتح باب الهيمنة على مقدرات الشعب العراقي لها عن طريق حلفائهم من الأحزاب المذهبية (المجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة وفيلق بدر) وأول فقرة في مخططهم لتدمير الدولة العراقية نشر ثقافة الطائفية والعرقية وتمشياً مع هذا النهج ظهرت تشكيلة مجلس الحكم فأسس أول لبنة خبيثة في جسم المجتمع العراقي وجره إلى جهنم الطائفية البغيتة والمحاصصة الأنانية!!

وتوالت الحكومات المذهبية تتخبط في أفيون الانفلات الأمني الذي أسال الدم البريء في شوارع المدن العراقية ودمر حياتهم واقتصادهم وهدد بقاءهم فهاجر أكثر من أربعة ملايين مواطن عراقي من وطنهم هائمين في دول الجوار العربي وبعض الدول الأوروبية دون أي شكل من أشكال العناية من قبل المجتمع الدولي ولا تهيئة الجو الأمني المستقى الذي يساعد على عودتهم إلى مدنهم وبيوتهم والتي نهب معظمها رجال الميليشيات المجرمة والتي اعتمدت النهب والقتل أسلوباً لنشاطها العدواني من أجل تصفية كل القوى المعارضة لوجودهم الغير أخلاقي في المجتمع العراقي، ومع ارتفاع الخسائر الباهظة بين صفوف الجنود الأمريكان الذي بلغ عددهم حتى الآن أربعة آلاف قتيل وآلاف عديدة غير معلنة من الجرحى والمعوقين وكلفة شهرية تصل إلى اثنى عشر مليار دولار من الخزينة الأمريكية دون الوصول لمشروع سياسي عراقي أمريكي يحقق لهم السيطرة على الناتج البترولي وتنظيمه بقانون يضمن المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى ويحقق هيمنة احتكارية لشركات البترول الأمريكية وتحالفاتها الأوروبية لاستنفاذ الاحتياطي العراقي من البترول المخزون تحت الأرض وتكبيل العراق بمعاهدة استراتيجية تضمن سيطرة أمريكية على القرار السياسي وتحقق وجوداً عسكرياً أمريكياً دائماً على شكل قواعد عسكرية وتأكيد رسمي عراقي بعدم تشكيل أي خطر يهدد مستقبل الدولة الصهيونية إسرائيل ويصبح العراق دولة فيدرالية مقسمة إلى ثلاثة أقاليم، كما بشر بذلك الرئيس كلينتون في عهد رئاسته وأكده قرار الكونغرس الأمريكي (الغير ملزم) بتقسيم العراق إلى أقاليم ثلاثة بدلاً من الحرية والاستقلال للوطن العراقي الذي وعدت به الإدارة الأمريكية آنذاك وتحقيق دولة مستقرة تنعم بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأمام الأحداث الدامية التي عاشها العراق لأعوامه الخمسة نسي هذه الشعارات الخادعة ورضي فقط أن يعيش آمناً دون أي مطالب إنسانية أخرى.

2- الأحزاب المذهبية والعرقية التي تحالفت مع المحتلين: ما يسمى بالمعارضة السياسية للنظام البعثي المندثر لم تكن إلا صناعة تجميعية أمريكية إيرانية وينطبق هذا الوصف على الحزبين الكرديين الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالبي والوطني الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني والتي كانت تمارس حكماً ذاتياً مستقلاً عن الإدارة البعثية المركزية في بغداد منذ 1991م وتحت الحماية الأمريكية بعد هزيمة (أم المشاكل) وظهور (المؤتمر الوطني العراقي وتحرك سياسي ملحوظ لأحمد الجلبي رئيس المؤتمر وصنيعة المخابرات الأمريكية التي انقلبت عليه مؤخراً بعد أن أسقط بدافع مذهبيته نحو إيران وقدم لها معلومات مهمة عن الوضع الأمريكي في العراق. ورافقه الوفاق الوطني بقيادة إياد علاوي الذي راهن عليه الأمريكان ولكنه خسر الرهان بعد ضربه للفلوجة والنجف فسقط مذهبياً وسياسياً وجميع هذه القوى السياسية التي استولت على السلطة باسم اللعبة السياسية عملتهم ذات وجهين إيراني أمريكي وقد استطاعت أن تهيمن على السلطة في العراق وتغرس أنيابها بالكرسي معتمدة على أكذوبة سمعت بالانتخابات والتي لم تكن إلا تزويداً لإرادة المواطن العراقي البسيط من أي مذهب أو قومية كان بتوجيهه باسم التأثير المذهبي نحو هذه القائمة أو الأخرى وفوق رؤوسهم بنادق المليشيات المذهبية وفاز تكتل الطائفة الشيعية تحت اسم الائتلاف العراقي الموحد برقم قائمة 555 ولم يعرف من أشخاصها سوى عبدالعزيز الحكيم رئيسها، أما المرشحون الآخرون فتم التوافق على نسب فوزهم ضمن أعداد القائمة البالغة 130 نائباً حسب تمثيل الأحزاب الدينية المشاركة بهذا التكتل المذهبي وكأنهم قد رسموا خطة سياسية مسبقة للاستيلاء على الحكم بهذا التكتل الضخم واستباق ذلك بوضع مادة في الدستور المورد للعراق (يختار رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة من الكتلة التي تفوز بأكثرية مقاعد مجلس النواب) وهكذا طُبخت ما يسمى بالعملية السياسية بمطبخ لم ينس حتى الملح والبهار طائفياً، حيث استولوا على تشكيل الجيش والقوات الأمنية وحولوا ميليشياتهم المسلحة نحو الجيش والأمن لتحمي هيمنتها على مستقبل العراق الصابر وأصبح المشهد واضحاً بسيطرة شيعية مذهبية تدار في أحزاب موالية لإيران وأخرى كردية لها أجندتها السياسية وعلاقاتها المميزة مع المحتل تهدف إلى رفع شعار الفيدرالية لكسب المزيد من الأراضي العربية في العراق كمحافظة كركوك والموصل وبعض المدن الأخرى في منطقة ديالى حتى شمال بغداد. وهدفهم المستقبلي إنشاء دولة كردستان الكبرى من ديار بكر في تركيا حتى العاصمة بغداد! أما الأكثرية الصامتة من الشعب العراقي إما مقتول أو مهجر خارج الوطن وترفض هذه الأحزاب المذهبية أي مشروع وطني جامع يقوم على أسس الانتماء الوطني والعروبي له أهداف وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية. ويسعى هؤلاء اللاعبون إلى تمزيق العراق لأقاليم صغيرة متناحرين على موارده الطبيعية خدمة لمصالحهم الذاتية الحزبية الضيقة وتنفيذاً لأجندات سياسية إيرانية تسعى جاهدة لتدمير الدولة العراقية، وقد بدأت مرحلة سقوط هذا التيار المذهبي في وجدان حتى من انتخبوهم لابتعادهم من خدمة مصالحه العليا بل أخذوا في تناحر حزبي يدعو لتصفية شريك الأمس وإزاحته عن الطريق من أجل منافع حزبية ذاتية كما حدث في البصرة الفيحاء من تقاتل حزبي سمي بصولة الفرسان والمؤلم أن نهاية هذه (الصولة الشجاعة) جاءت بتوجيه إيراني.. إن هذا القوى المذهبية تتجه نحو التصفيات المتتالية فيما بين أطرافها على حساب أمن واستقرار المواطن العراقي وتتجه نحو مشهد مظلم لا يعلم إلا الله كيف سيشكل في المستقبل القريب!

- للمقال تكملة في العدد القادم -

* محلل إعلامي
كفاءة الدكتوراه في العلاقات الدولية - جامعة أنقرة - عضو هيئة الصحافيين السعوديين



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد