دنياي تمور وتدور..
ساعات سكون وساعات أعاصير..
أغلبها تارة وتغلبني تارات..
تثير بزوابعها كوامن نفسي..
تغرقتني في مشاعر عنيفة..
تختلج فيّ لا أستطيع كبتها..
كثيرا ما ألهبت فؤادي على أبناء أعمامي..
لا أعرفهم.. لم أرهم في حياتي..
ما أقسى هذه الدنيا..
قدّر الله عليّ أن لا أعرف إلا أسماءهم..
حين يهجع الأنام أتقلب في فراشي.. أهذا الأمر حقاً؟!
لم نحن هكذا؟؟ أو تفرقنا الدنيا؟؟
أيعقل أن لي أبناء أعمام من الدرجة الأولى؟؟
آآآآآآآه ياقلبي!! ماحالهم؟؟
أيعيشون دنيا كدنياي؟؟
أترانا نتقاسم الملامح ذاتها؟؟
أم أننا فقط نحمل اسم جدٍ واحد؟؟
أيفكرون فيّ كما أفكر فيهم؟؟
أكانوا يحلمون بأن ينادوا أبي ب ياعم كما أحلم أنا؟؟
أيرددون اسمي واسم أخي كثيراً كما أفعل؟؟
حين أسير وحيداً في الطريق..
أخالني أسمع منادياً ينادي..
محمد..تعال يابن أخي..
ألتفت إلى الوراء..
لا شيء..
فقط.. سراب كنت أظنه عمي ناصر..
عمي ناصر!! ماذا سطّر بناني؟؟
كم حلمت بهذه الكلمة..
أن أنادي... عمي ناصرَ تعال اليوم إلينا..
أريد أن ألعب مع علي.. عامر.. أسامة.. أحمد.. محمد..
لا شيء..
وحدي في الطريق مع دمعتي الحائرة..
محمد.. ابن عمي..
أنا وأنت.. كلانا سُمي على جدي محمد..
فلم قدّر علينا أن نعيش منفصلين؟؟ لكل منا عالمه الخاص..
اسمي واسمك واحد..من محمد حتى آدم..
فقط الفرق أن أبي صالح وأباك ناصر!! فلم هذا الشتات؟؟!!
بربك إلا يحق لي حينها أن أحن إليك.. ويتقطع قلبي كمداً على بعدنا!!
لماذا لم نكن كغيرنا من الأطفال يجتمعون كل صباح عند جدهم..
يحكي لهم قصة الفلاح والطير..
أذانهم مشنفة بحكاية الجد..
حين ينهي قصته..
يعوذهم بأذكار يرددونها معه لا يزال صداها في أذني..
ثم يودع أحفاده بقبلات حانية..
يتسابقون إلى الشارع يلعبون معاً..
أتأمل حالهم..أبحر في تقاسيم الجد...
أيمم بصري صوب الأطفال..
أتأملهم للحظات ثم انطلق معهم..
فقط لأني طفل.. وليس ابن عم..
ولكن الله على كل شيء قدير.. حلم طفولتي تحقق..
إي وربي تحقق.. ناديت عمي..
عم ناصر.. أجابني.. نعم يابن أخي..
لم أحلم هذه المرة.. بل هي الحقيقة..
نطق اسمي..
قال لي: محمد.. الحمد لله الذي جمعنا قبل الممات..
كنت أفكر فيك وأنت طفل صغير..
أتخيل قسماتك.. أهي كقسمات أبيك؟؟
اييييييه..يادنيا..
الحمد لله اليوم أراك شاباً يافعاً...
أنا لا أحكي لكم حكاية من حكايات شهرزاد..
بل هو الواقع..
زار عمي أرض آبائه وأجداده للمرة الأولى في حياته..
غادر العراق بعد أن تحسنت العلاقات مع دولتنا..
سُمح له بقضاء ثلاثة أشهر هنا....
ما أجمل تلك اللحظات لولا أنها انقضت سريعاً..
كان عمي شبيهاً بأخي عبدالله.. كأنهما إخوان.. لا فرق بينهما..
سِوى اللهجة العراقية والدشداشة..
عندما رآنا كان يقبلنا واحداً واحداً.. يرفض أن نقبل رأسه..
فقط هو يقبلنا.. يحضننا..
لم يستطع أن يخفي دموع فرحه..
حكى لي عن أبي.. عن جدي.. عن تجارتهم مع العقيلات..
حكى لي عن أبنائه.. عن شوقهم لرؤيتنا..
لا أنس لحيته البيضاء.. طلعته البهية..
ابتسامته المشرقة.. ما أحلى الأيام لو تعود....
لا حال تدوم في هذه الدنيا..
أزف الوداع..
تفارقنا..
غادر وطن آبائه..
ولا تسألوني عن تلك اللحظات..
فلا أستطيع أن أخرج ذرة من مكنوني عنها..
مضى على لقائنا اليتيم مع عمي سبع سنوات..
لم نرَ عمي بعدها..
كنا نحادثه في الهاتف..
نتبادل الرسائل..
جثم الاحتلال على أرض الرافدين..
قُطعت خطوط الاتصال.. لكن أمالنا لم تقطع..
ظللنا نحاول المرة تلو الأخرى علنا نمسك بطرف خيط عن أهلنا هناك.. لا سبيل.. كل الخطوط مقطوعة..
تقطعت قلوبنا مع هذه الخطوط..
لا نعلم بمصير عمي وأبنائه..
الوضع خطير..
أحد أبنائه طبيب عسكري..
والآخر مهندس بترول..
ومنهم الدكتور..
مناصبهم حساسة..
وقلوبنا قلقة..
كنا نشاهد الدمار والقصف..
فتوجهنا إلى الله..
وأنعم به من ملجأ..
بعد خمسة أشهر تقريباً..
عادت الخطوط..
تمكنا من الاتصال..
والحمد لله كانوا جميعاً بخير..
ولكن..
قدّر الله أن يصاب عمي بكسر مضاعف في الفخذ..
وبدأ سمعه يقل فلم نستطع محادثته..
فقط نكلم أبنائه وأمهم..
في عام 1426هـ حل القدر المحتوم..
انتقل عمي إلى رحمة الله..
دون أن يحقق حلمه بلم شمل العائلة..
رضينا بقضاء الله وقدره..
ولكم تمنينا أن نقبّل جبينه الأزهر قبلة وداع..
أن نواري في الثرى جثمانه..
ولكن.. ما باليد حيلة..
لا نملك سوى الدعاء..
ظللنا نتواصل مع زوجته التي كانت قد زارتنا معه
هي واثنتين من بناته تقيمان الآن في السعودية..
كما كنا نتواصل مع أبنائه الذين لم نرهم أبداً..
لو تقابلنا لما عرف بعضنا بعضاً..
قبل شهرين تقريبا..
أخبرتنا ابنة عمي التي تقيم في السعودية بأن والدتها
وأخاها سيأتيان للعمرة..
لم أتمالك نفسي..
أسوف يتحقق شطر حلمي الثاني؟؟
أيعقل أني سأرى أحد أبناء عمي؟؟
قدمت البعثة العراقية..
وصعب اللقاء بهم في مكة..
ذهبنا إلى المدينة النبوية..
طوال الطريق كنت أتخيل ابن عمي..
لأول مرة في حياتي أرى إنسان يوازيني في قربي لجدي..
مشاعري لا توصف..
فقد بلغ بي السرور مبلغاً لا يوصف..
كنت اصطحب معي ابنيّ عبدالله وفارساً..
وصلنا مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
كان الشوق يحدوني..
للقيا كلا الحبيبين..
زيارة مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
ورؤية حِبّنا أسامة بن ناصر..
تم الاتفاق بيننا أن نلتقي عند باب عمر بن الخطاب
وصلنا الباب من داخل المسجد..
كنت لا أعرف شكله..
فلم أستطع أن أعرفه من بين الأشخاص الذين أمامي..
أو هو الذي عن يساري؟؟
أم تراه ذلك الذي أسند ظهره إلى العمود؟؟
لم أستطع..
هذا فقط ما يمكنني قوله..
كنت أتصفح وجه كل من يقابلني..
أقراء قسمات وجهه..
أأنت من أبحث عنه لسنين طويلة؟؟
أخال كل من في الحرم كان ينظرني..
ما بال هذا الرجل؟!!
عم يبحث؟؟اتصلت عليه..
قال: يا أخي حتى أنا والله مللت تصفح أوجه المارة..
قد أكون بجوارك ولكن لا أعرفك..
قد نكون تقابلنا..
من يدري فكلانا عند الباب..
وكلانا لايعرف الآخر..
أومأ إلى الرجل المتكئ على العمود قائلاً..
ربما أني قد عرفتك أأنت ابن عم أسامة؟؟
قالت: أي وربي أنا هو..
بربك قل لي.. أين هو..
فقد طار شوقي..
قال: أنا أبوعمر..
زوج ابنة عمك..
وأسامة هو ذاك الواقف خارج الباب..
سلمت على أبي عمر..
وذهبنا إلى أسامة..
المشاعر هنا تداخلت..
شعور غريب راود كِلينا..
تعانقنا عناقاً حاااااارا..
اختلطت دموعنا..
سلّم على ابنيّ..
وقف برهة حين رأى عبدالله..
قال..أبا صالح.. أهذا ابنك؟؟
رددت عليه بالإيجاب..
بكى... ثم قال..
لم أكن أتوقع أن الوراثة تصل لهذا الحد..
كأني أمام أخي أحمد..
يالله كنا دوماً نقول..
إن أحمد لا يشبه أحد منّا..
الآن.. عرفت من يشبه..
قد تكون سحنتنا نحن نجدية..
ولكن أحمد يشبهكم بشدّة..
خرجنا من المسجد النبوي..
ذهبنا إلى السيارة..
كنا ننتظر أم علي- زوجة عمي رحمه الله-
مرت بجوارنا حاجّة كبيرة..
اتكأت على السيارة لتستريح..
قال أسامة..
أترى تلك المرأة..
إنها أمي..
ألقيت عليها السلام..
وانطلقنا..
لا أدري أين أذهب...
كل جدار في المدينة ظننته يحدثنا..
ينادينا..
يا ابني العم..
تعالا واستريحا بظلي..
علّي أحظى بشرف لم شملكما..
لم أرد أن أوقف السيارة..
ليظل الهواء الذي نستنشقه واحداً..
لا نريد أن ننزل..
لا نريد أن تُباعد بيننا حبيبات الرمل..
جُلنا في أزقة المدينة وحاراتها..
عل أنفسنا أن تسكن بالبيوت القديمة..
نتذكر فيها منازل أبائنا وأجدادنا..
تمنينا أن نمر على لب الفؤاد..
نجد الهوى
(بريدة)
علّ ظمأنا يروى..
لنحاكي بقايا البيوت الطينية..
لنحدثها بأن حلمنا قد تحقق..
بأننا عدنا معاً..
ابنا عم متشابكي الأيادي..
لم يُسمح لنا..
لا تصريح مع أسامة وأمه للخروج من المدينة..
أم علي..
كانت تحدثنا..
تحكي ماضينا..
أبحرنا معاًً في نظمها البديع..
بسلاسة لغوية..
نثرت لألئ كلماتها..
لم أعد أسبح في بحور الآلام والآمال وحيداً..
كلنا اليوم عضيدٌ..
أمضينا الوقت..
ما بين زيارة للآثار في النهار..
وجلسات شوق وسمر في الليل..
كدنا نصل الليل بالنهار..
رغبة في استغلال الوقت..
مرت أيامنا الأربعة..
كأنها دقائق..
بل ثوان..
كتب الله أن لا تبقى الحياة لأحد..
فكان لا بد لهذا الاجتماع من انفضاض..
توادعنا..
كلٌ غادر مع سربه..
ولأن تفرقت أجسادنا..
فقلوبنا لم ولن تفترق- بإذن الله-
عادوا إلى أبنائهم..
أموالهم..
أعمالهم..
و!!!
و!!!
قطعة لحم مني هناك
أكتوي بنار الشوق لاحتضانها
وعدوني ببذل جهودهم لإعادتها
ل.....!!!
ل........!!
لي أنا..
لزوجتي...
لأبنائي...
لمحبينا..
جمع الله شملنا وشملكم في نعم الدنيا...
ونعييييم الجنة الأبدي..
البتول بنت محمد أباالخيل
القصيم - بريدة