Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/05/2008 G Issue 13027
الخميس 24 جمادى الأول 1429   العدد  13027

فيض الضمير
في أغمات مع المعتمد بن عباد 4-5
د. محمد أبو بكر حميد

 

استقر المطاف بالمعتمد بن عباد وأسرته أسيرا في أغمات في أواخر سنة 484هـ، وكان قد سبقه إليها عدد من ملوك الطوائف، ولكن لأمر لا يزال لغزا من ألغاز التاريخ المحيرة أذاق الزعيم الإسلامي العادل المتقشف يوسف بن تاشفين المعتمد بن عباد صنوفا من الإذلال لم يذقها لغيره، ولم يرحم عزيز قوم ذل، ولم يكن بين ملوك الأندلس من هو أعز منه ولا أعظم منه، ورغم أن المعتمد سلك مسلك الملوك الآخرين في الاستعانة بأعداء المسلمين على إخوانه المسلمين إلا أنه كفر عن مسلكه ذاك بما أبلاه في معركة الزلاقة الشهيرة، وهو بهذا أول من أفاق من سكرته وطلب الاستعانة بقوة المرابطين ودعا يوسف بن تاشفين لعبور البحر ودخول الأندلس في المرات الثلاث جميعا، وصم أذنيه عن ما يخوفه به زملاؤه ملوك الطوائف بأن يوسف سينقض عليهم، وظل يكرر عليهم مقولته الشهيرة (رعي الغنم في مراكش خير من رعي الخنازير في قشتالة)!.

ألم يتذكر الزعيم العظيم يوسف بن تاشفين كل ذلك، لم تشفع للمعتمد هذه المحاسن، وأهمها أن المعتمد فتح لابن تاشفين الجزيرة كلها وساعده للقضاء على دولته وكل دول الطوائف إعلاءً لشأن الإسلام الأندلس؟! أم أن ابن تاشفين لم يغفر للمعتمد استعانته الأخيرة بعدوه الرئيس الفونسو ملك قشتالة التي اضطر إليها بعد أن هاجمته قوات ابن تشافين وأصبحت حياته وملكه مهددين؟ ربما عد ابن تاشفين استعانة المعتمد الأخيرة بالفونسو نكوصا عن كل ما قدم من خير وتكفير عن علاقاته السابقة بذلك العدو الذي يتربص بالإسلام والمسلمين فحقد عليه لذلك الفعل لا لشخصه، وربما كان ذلك مبلغ اجتهاده، إذ إننا لا نستطيع أن نصف يوسف بن تاشفين بالقسوة والظلم لأننا لم نعرف شيئا من ذلك في تاريخ حياته باستثناء ما فعله بالمعتمد بن عباد!!.

وهكذا تجرع المعتمد بن عباد في سجنه بأغمات الأمرين مرارة الذل ومرارة القهر، فالذل كان لأن ابن تاشفين لم يوفر لسيره وأهله حتى الكفاف من الطعام الذي يحفظ له كرامته الإنسانية من البحث عن الرزق وهو سجين، فاضطرت بناته للاشتغال بالغزل لتوفير لقمة العيش لوالدهن وأمهن وإخوانهن، ويقال إنه تم تقييد المعتمد بالسلاسل والأغلال في آخر سنواته بعد ثورة أحد أبنائه في الأندلس.

أما القهر فهو لأن العلاقة الشخصية بينه وبين ابن تاشفين مرحلة من توثيق العرى الذي لا يتوقع له الانفصام، وكان المعتمد يبالغ في الاحتفاء بابن تاشفين ويستقبله عند وصوله الجزيرة استقبال الزعماء الفاتحين، وهو أمر بلا شك لائق بكليهما، فقد قابل يوسف بن تاشفين هذا الإكرام باللائق من الاحترام للمعتمد فكان دائما يقول لأصحابه عن المعتمد عندما يكونون بالأندلس: (إنما نحن في ضيافة هذا الرجل وتحت إمرته، واقفون عند ما يحده). ويتحدث التاريخ عن رسائل مودة ومحبة وشوق تم تبادلها بين المعتمد بن عباد ويوسف بن تاشفين، ومن طريف ما حدث في المراسلات بينهما أن المعتمد أرسل ليوسف أبيات ابن زيدون الشهيرة ليعبر عن شوقه له:

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا

شوقا إليكم ولا جفت مآقينا

حالت لفقدكم أيامنا فغدت

سودا، وكانت بكم بيضا ليالينا

وكان ابن تاشفين البربري لا يجيد العربية، فلم يفهم قصد المعتمد وظن أنه يطلب منه جواري سودا وبيضا حتى شرح له أصحابه قصد المعتمد بأنه الشوق إليه، فقال لهم: (والله جيد، اكتبوا له في الجواب: أن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده)!! ولا نملك إلا أن نقول هذا التعبير الضعيف الجاف من رجل لا يتقن اللغة العربية يحمل كل الصدق والإخلاص والبراءة فلم يعرف عن يوسف بن تاشفين غدر ولا مكر ولا نفاق، فقد عاش طاهر الذيل زاهدا تقيا لا سواد في صفحته إلا ما فعله بالمعتمد الذي لم يكن يتفق مع نخوته وفروسيته ومروءته!

ظل المعتمد بن عباد على يقين من تلك الصفات الحسنة التي تحلى بها يوسف بن تاشفين، ولم يجعله الأسر والسجن يغير رأيه فيه ولا يمكن لملك شديد الاعتزاز بنفسه مثل المعتمد أن يلجأ للنفاق أو المداهنة ليسترحم عدوه ليخرج من سجنه، لهذا نرى أن المعتمد عندما أشاد بيوسف بن تاشفين في قصيدة نظمها في السجن وتذكر فيها أيام الصفاء والتلاقي بشجن صادق كان صادقا حين هتف مشتاقا ومتذكرا فضل يوسف على تثبيت عرى الإسلام في الأندلس بعد انتصار الزلاقة:

وقلبي نزوع إلى (يوسف)

فلولا الضلوع عليه لطارا

ولولاك يا (يوسف) المتقى

رأينا الجزيرة للكفر دارا

ويوم العروبة ذدت العدا

نصرت الهدى وأبيت الفرارا

ولكن يبدو أن قلب ابن تاشفين لم يرق لهذا النداء، ولم تتحرك فيه نوازع الأريحية المعروفة عنه، فأمسك المعتمد عن ذكر ابن تاشفين في شعره، وتجرع مرارة مصيره صابرا محتسبا، ولم يبق له إلا الشعر ملاذه وسلواه يبثه شكواه بعد أن زال ملكه وتفرق عنه الناس، وكثرت معاناته وآلامه من ذل الأسر وشظف العيش وخطر المرض.

ولم تحتمل اعتماد الروميكية زوجة المعتمد ذل الأسر وهي المرأة الباذخة المدللة التي فرش لها المعتمد الأرض مسكا وجعلها تخوض فيه بناء على رؤيا رأتها في المنام (!) ماتت الروميكية كمدا بعد أن غاض جمالها وذوى عودها، ودفنت على مقربة من معتقل زوجها، فتضاعفت أحزان المعتمد، وأحس أن سنده الذي يعينه على الصبر قد هوى، فخارت عزيمته وازداد سجنه عليه ضيقا، فصدرت عنه من معتقله طائفة مؤلمة ومؤثرة من القصائد كلها تحسر على الماضي وبكاء على الحاضر، ورثاء حزين للنفس منها قوله:

أبناء أسرك قد طبقن آفاقا

بل قد عممن جهات الأرض إطلاقا

سارت من الغرب لا تطوى لها قدم

حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا

فأحرق الفجع أكبادا وأفئدة

وأغرق الدمع آماقا وأحداقا

قد ضاق صدر المعالي إذا نعيت لها

وقيل إن عليك القيد قد ضاقا

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 777 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد