Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/05/2008 G Issue 13027
الخميس 24 جمادى الأول 1429   العدد  13027
إضاءات نفسية
د. محمد بن عبد العزيز اليوسف

زاوية تهتم بكل ما يتعلق بالطب النفسي والتنمية البشرية وتطوير الذات.. نستقبل كل أسئلتكم واقتراحاتكم.

فن الاستماع

* السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

سعادة الدكتور محمد اليوسف حفظه الله، أنا من المتابعين لزاويتك وقد شدتني إضاءة كتبتها في آخر زاوية عن الاستماع الجيد وأنه أساس التواصل الناجح وبحكم عملي كمعلم واهتمامي بالأنشطة غير المنهجية وتطوير مهارات الطلاب المختلفة عندي سؤال لك:

كيف أعرف إن كنت مستمعا جيدا أم لا ؟؟ مع الشكر الجزيل.

- أخي العزيز.. أشكرك أولا على اهتمامك بهذا الموضوع وحرصك على تطوير مهارات طلابك المختلفة وليت جميع المعلمين يهتمون مثلك بهذه الجوانب المفيدة فعلا لتحقيق النجاح في الحياة وتطوير المهارات الشخصية.. ويكفي أن نعلم أن الكثير من الدول المتقدمة أضافت إلى مناهجها الدراسية الرئيسية ما يتعلق بمهارات التواصل الاجتماعي ومهارات بناء الثقة وتأكيد الذات بالإضافة إلى تنمية التفكير النقدي الموضوعي والتشجيع على التأمل والابتكار لإدراكهم أهمية بناء هذه الأساسات لدى الطلبة منذ مرحلة مبكرة كونها حجر الأساس لبناء إنسان متحضر قادر على مواجهة تحديات العصر بمختلف أشكالها.

بالنسبة لسؤالك يعتبر الاستماع فناً ومهارة قابلة للتطوير ويمكننا تقسيم مستويات الاستماع إلى خمس مستويات تبدأ من مرحلة الصفر ونعني بها عدم الالتفات نهائيا للمتحدث بشكل مقصود إما لعدم أهمية الموضوع بالنسبة للشخص أو بهدف إرسال رسالة واضحة للمتكلم بأن الموضوع غير مهم وغير مرغوب، ثم يأتي المستوى الأول والأقل للاستماع وهو الاستماع التظاهري حيث يمكن أن يهز المستمع رأسه متظاهرا بالموافقة على الكلام بينما هو في الحقيقة لا يعي جيدا ما يسمع أو هو شارد الذهن وقد يفاجئه المتحدث بسؤال عن ما كان يتحدث عنه فيكتشف أنه كان في أوقات معينة يتظاهر بالاستماع فقط. أما المستوى الثاني وهو الشائع جدا عند الكثيرين ربما دون أن يشعروا فهو ما يطلق عليه الاستماع الانتقائي والمقصود به أن الشخص ينتقي جزئيات معينة من الحوار ويركز عليها مهملا إما بقصد أو دون قصد ما سواها. يحدث ذلك كثيرا في الحوارات الجدلية مثلا عندما يبدأ كل طرف بالتركيز فقط على الزاوية التي تخدم قضيته من كلام الشخص الآخر فيتحول ما يفترض أن يكون حوار بناء إلى جدل عقيم بلا نهاية. يبرز هذا النوع من الاستماع لدينا لاشعوريا أيضا عندما يكون لدى الشخص افتراض أو حكم مسبق يجعله يميل تلقائيا لانتقاء ما يخدم افتراضه أو حكمه المسبق من الكلام مهملا تماما ما قد يشير إلى عكسه أو ضده.. مثال على ذلك الطبيب الذي يميل مسبقا إلى تشخيص معين قد يهمل بعض المعلومات المهمة التي يطرحها مريضه ويركز فقط انتباهه على جوانب أو شكاوى معينة.. أو القاضي الذي يبدأ بتبني حكم مسبق فيبدأ دون قصد في انتقاء عبارات معينة من الكلام دون غيرها. ويحدث أحيانا أن هذا الطبيب أو القاضي عندما يتم تذكيره بجزئيات معينة من الكلام يكتشف وكأنه لأول مرة يسمعه لأنه ببساطة كان يمارس الاستماع الانتقائي دون أن يشعر.

أما المستوى الثالث للاستماع فهو الاستماع بتركيز كامل وهذا بلا شك يحتاج مجهودا أكبر بحيث يمكن للمستمع من هذا النوع أن يعيد صياغة ما سمعه بالكامل فهو يعيه جيدا ولكن بشكل أفكار ومعلومات مجردة، ولذلك فحتى هذا المستوى من الاستماع ورغم صعوبته إلا أنه ليس المستوى الأعلى لأن المستوى الرابع الذي يفوقه هو ما يطلق عليه الاستماع التعاطفي، ويقصد به ليس فقط الاستماع بتركيز جيد لكل الكلمات بل وحتى قراءة واستشفاف ما تحمله هذه الكلمات من قيمة عاطفية وشعورية لصاحبها ومحاولة تبني موقفه بالكامل وفهم مرجعياته الثقافية والاجتماعية وإدراك وضعه النفسي الراهن... مثلا تأتي أم تسأل عن حالة طفلها المريض وتقول: كيف حالة ابني يا دكتور، أخشى أن تكون خطيرة ؟؟.. هنا إذا استقبل الطبيب السؤال مجردا من الحالة العاطفية للأم فقد يبدأ بسرد تفاصيل طبية عميقة لها وكأنه يعطي محاضرة لأحد طلاب الطب ظنا منه أن هذه الأم تبحث عن شرح علمي تفصيلي للحالة، بينما الأم في الحقيقة تعبر عن مشاعر قلق وتوتر وتبحث بالدرجة الأولى عن التعاطف والتطمين من شخص موثوق به.

من هنا كان الاستماع التعاطفي هو أعلى درجات الاستماع ولاشك أن هذا المستوى يحتاج إلى استعداد ذهني واستقرار نفسي جيد، ومن غير المعقول أن نتوقع أن هناك من سيمارس هذا النوع من الاستماع طوال الوقت لأننا في النهاية بشر ومعرضون دائما لتقلبات المزاج وتعكر الحالة النفسية مما يجعلنا نمارس مستويات متفاوتة من الاستماع بين الحين والآخر.

الأدوية النفسية والإدمان

* هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان لأنني أعرف شخصاً يتناول أدوية نفسية من أكثر من خمس سنوات وحتى الآن لم يتركها؟

- أخي الكريم.. هناك أكثر من 100 اسم لأدوية تستخدم استخدامات مختلفة في مجال الطب النفسي، والطب حاليا يتجه بشكل عام إلى الاستفادة من الدواء الواحد في عدة مجالات ولذلك فقد يخفى على البعض أن الطبيب العام وأطباء الأعصاب مثلا يلجأون أحيانا إلى وصف أدوية هي بالأساس تصنف كأدوية نفسية لكنها تستخدم أيضا كعلاج لبعض أنواع الصداع النصفي وكذلك ما يسمى بالصداع التوتري وغيرها، كما ينطبق الأمر كذلك على بعض أدوية الأعصاب والقلب التي يتم استخدامها أحيانا بجرعات متفاوتة لأغراض نفسية مختلفة. ما أريد الوصول إليه هنا هو أن إطلاق لفظ تعميمي على الأدوية النفسية أنها جميعا تسبب الإدمان أمر غير دقيق إطلاقا بل إنه يمكننا تصنيف الأدوية المستخدمة في الطب النفسي إلى خمسة أصناف رئيسية ومن هذه الخمسة أصناف يوجد صنف واحد فقط هو الذي قد يسبب الإدمان إذا استخدم لفترات طويلة وهو ما يطلق عليه (المهدئات الصغرى) كالفاليوم والزاناكس والليكسوتانيل والأتيفان وما شابهها من نفس المجموعة. وهذه الأدوية تحديدا لا يتم صرفها إلا من طبيب نفسي متخصص وبوصفة طبية خاصة ومقيدة حيث يتم صرفها عادة لحالات معينة ولفترات قصيرة ومحددة حسب رؤية الطبيب المعالج.

بينما تقع بقية الأدوية في التصنيفات الأخرى المختلفة وجميعها لا تسبب الإدمان بمعناه الطبي الفيزيائي، ولذلك يمكن وصفها من أطباء بتخصصات مختلفة بل إن الكثير منها يمكن صرفه أيضا من الصيدليات بدون وصفة طبية.

أما بالنسبة لربط الفترة الزمنية لاستخدام الدواء بالإدمان عليه فهذا أيضا غير دقيق حيث إن هناك الكثير من الأمراض المزمنة التي يحتاج المريض معها لاستخدام الدواء بشكل متواصل ليس لأنه مدمن عليه بل لأن حالته تستدعي ذلك، فالسكر والضغط مثلا أمراض مزمنة لم يكتشف الطب حتى الآن علاجا يشفيها بالكامل ولذلك فالمريض يحتاج للدواء لمنع تفاقم أضرار المرض وحمايته - بإذن الله - من آثاره السيئة.

كذلك الأمر ينطبق على الأمراض النفسية فهي ليست مجموعة واحدة أو صنف واحد بل يوجد أمراض نفسية مزمنة كالفصام العقلي مثلا والذي لم يكتشف له علاج شافي حتى الآن لكن المصاب به يحتاج إلى أدوية تسيطر على أعراضه وتمنع تفاقمها - بإذن الله - ولذلك قد يحتاجها المريض مدى الحياة بسبب طبيعة مرضه وليس لأنه مدمن عليها.

وفي المقابل هناك أمراض نفسية كثيرة كاضطرابات القلق والتوتر وصعوبات التكيف مع ضغوط الحياة واضطرابات النوم والجنس النفسية وكذلك أعراض الاكتئاب التي يمكن الشفاء منها تماما - بإذن الله تعالى - باستخدام أدوية لفترات محدودة والتوقف عن استخدامها بعد ذلك.

وهكذا ترى أخي الكريم أنه لا يمكن الحكم على شخص بأنه أصبح مدمنا على دواء معين دون النظر لعدة عوامل أخرى منها طبيعة مرضه وحاجته للدواء وكذلك البرنامج العلاجي المتفق عليه.

شكرا لك

إضاءة

كف عن المقارنة بالآخرين فلكل منا مميزاته وعيوبه

دكتوراه في الطب النفسي
كلية الطب ومستشفى الملك خالد الجامعي - الرياض


e-mail: mohd829@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد