Al Jazirah NewsPaper Wednesday  25/06/2008 G Issue 13054
الاربعاء 21 جمادىالآخرة 1429   العدد  13054
داء الغلو
عبد الله بن محمد السعوي

من أخطر الظواهر الفكرية التي تنشأ في المجال الديني ظاهرة الغلو، ببعديه الكلي الاعتقادي، المتعلق بكليات الشريعة وأمهات مسائلها، والجزئي العملي المتعلق بجزئية أو أكثر من الشريعة العملية؛ الغلو كضرب من الإفراط النائي عن دائرة الاعتدال الموضوعي...

.. يُعرف بأنه (مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه، على ما يستحق ونحو ذلك) انظر (اقتضاء الصراط المستقيم) ج1 ص 289 وفي (مدارج السالكين) ج2 ص 496: (ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد). لقد شدد الخطاب القرآني في النهي عن الغلو ومجاوزة الحد (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ)، والنص وإن كان متعلقاً بأهل الكتاب ابتداءً فإن الغاية منه لفت انتباه الأمة المحمدية إلى تفادى البواعث التي جرى بموجبها غضب الخالق على الأمم السالفة، والخطاب النبوي (هلك المتنطعون) هو الآخر بدوره حذر من الالتياث بمسلك الغلو ودلنا على أن ثمة هلاكاً وقع للمتنطعين الوالغين في مستنقع التطرف الديني والذين يبالغون إفراطاً في التعبد والتقشف على نحو ينأى بهم عن حد الاعتدال الذي هو في حقيقته موازنة بين الروحية والمادية وبين الدين والدنيا. إن ديننا الحنيف ندد بالسلوك الرهباني الذي يفرض على الإنسان طوق عزلة يفضي به إلى الانفصال عن عالم الحياة؛ وبالتالي الانصراف عن عمارة الأرض وإهدار الحياة في جانبها المادي. إن ثمة مسألة حيوية يجدر الإشارة إليها في هذا المساق، وهي أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره - كما يقول الأصوليون -؛ ولهذا فنعت سلوك ما بأنه أحد مسالك الغلو هذا حكم ذو طابع فقهي لا يؤهل لإطلاقه إلا أرباب الاختصاص وهم هنا العلماء الذين يتوافرون على إدراك محددات التطرف الغالي وملامحه التي توجب نعته بهذا الوصف. المعيار الموضوعي المعتبر لنعت السلوكات العملية وإطلاق الحكم عليها بأنها من قبيل التطرف أو الاعتدال هو المنطق الشرعي المنبثق في تشكله الاستدلالي من نصوص الوحيين، ولو شرعت الأبواب لكل من هب ودب ليخوض في القضايا الشرعية ويتطفل على مفرداتها لدلفنا في حالة فوضوية لا تتناهى تبعاتها؛ فهناك من يطلق وصف التطرف والغلو على كل من رفع صوته منادياً بتجسيد الشريعة كنظام عام يقنن شؤون الخلق وهدفه من ذلك - كما يشير الشيخ يوسف القرضاوي - حفظه الله - هو تنفير: (جماهير الناس من ظهور الإسلام نظاماً حاكماً للحياة) انظر (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) ص (7).

إن الإفراط في التدين وعدم التجسيد الحرفي لمفردات الدين، والمبالغة في مجاوزة السقف التطبيقي المعتبر ينطوي - في منحاه الضمني - على اعتقاد قلبي جازم بنقص الدين وعدم كماله، وأن الشارع فاتت عليه بعض الحقائق، وأن ثمة أموراً لم يستوعبها الدين بل عزبت عنه ولم يستبطنها في ملمحه العام!!

عندما يمارس إنسان ما أنشطة تعبدية من وجهة نظره أنها تعبدية، والدين لم يشرعها بل هو منها براء، فهذا افتئات على مقام الألوهية وتطاول على جناب النبوة؛ لأنه تشريع لأشياء ما أنزل الله بها من سلطان؛ فبات هو المشرع والمشرَّع له!، إنه يباشر تقنيناً إضافياً يستدرك به على الشارع الحقيقي. هذا هو لسان الحال الذي يباينه - نظرياً فقط - لسان المقال. إن الخطوط العريضة والخصائص العامة للإسلام ترمي إلى اجتلاب التيسير وموضعته كركيزة أساس تنتظم كافة مفردات الحياة. التيسير لازمة من لوازم الدين ومقصد غائي من مقاصد الشارع (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، والعمل بخلاف إملاءات هذا المقصد الحيوي هو في حقيقته إقصاء لما تقتضيه الشريعة السمحة ومصادمة صريحة لأدبياتها. الإغراق الغالي في ممارسة كافة التفاصيل الدينية يحمل الإنسان فيما بعد إلى النفور من العبادة والانقطاع عن تجسيدها، وقد يستحيل من التشدد إلى التسيّب، وهكذا هو (المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى). الغلو يفضي بصاحبه إلى اضطراب واسع يتملكه على المستوى السلوكي ويوجد لديه عدداً هائلاً من المسوغات لكثير من الانحرافات ذات البعد الأخلاقي والاجتماعي. المرتكس في الغلو يشرعن لما هو فاقد للشرعية؛ وبالتالي تلتبس عليه الأمور ويفقد حساسيته الخاصة نحو التمييز بين ما تمت ممارسته بدافع الاستجابة للشرع وبين ما يتم الإقدام عليه بدافع شهوة خفية. الارتكاس في وحل الغلو كثيراً ما يحرض المتلبس به على النفور من العمل المبالغ فيه، ومجافاته، بل واستدباره بالكلية، كردة فعل مضادة باعثها التنطع. الارتكاس في الغلو مصدر كبير لعدد من الأدواء ليست ردة الفعل القوية العكسية وفي الاتجاه المخالف إلا واحداً منها، هذا فضلاً عن ضروب المعاناة المنهكة للمتنطع، والمرهقة لفكره، والمربكة لذاته في بعدها السيكولوجي. ثمة من يطلق بحسن نية - وأحياناً بسوئها - على الغلاة وصف الأصولية، وهذا - ولا شك - إطلاق في غير محله؛ لأن مصطلح الأصولية يراد به في منبته الأساسي في الغرب فرقة بروتستانتية تعتقد بالعصمة المطلقة لكل مفردة لفظية في الكتاب المقدس، ويزعم أصحابها أنهم يتلقون على نحو مباشر من الله وهم يناوئون العقل والتفكير العلمي وينزعون إلى توسل القالب الراديكالي لموقعة مفرداتهم الأيديولوجية، ومن هذا المنطلق فإن لفظ الغلاة هو النعت الأقرب إلى الدقة المنهجية وهو التعبير الأولى الذي ينبغي إشاعة استخدامه في متباين الأوساط الاجتماعية. الغلاة ضروب متنوعة، من أشدهم الذين يصمون بالتكفير كل من باينهم الفكرة؛ فهم يحكمون بالكفر على كل من خالف بالفكر فارتأى رؤية مناهضة لرؤيتهم. يقول ابن تيمية: (الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع أنهم يكفرون بالذنب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار المسلمين دار كفر ودارهم هي دار الإيمان) انظر (الفتاوي) ج 19 ص (72).

لتحجيم ظاهرة الغلو وتحسير تمظهراتها واضطرارها إلى أضيق الطريق لا بدَّ من:

أولاً: من تكوين بصيرة مفصلة ومتكاملة لدى القطاع الشبابي بحقيقة الحقيقة الدينية وطبيعة معالمها؛ جمهرة رحبة من الغالين ليس لديهم إحاطة بمعاني الشريعة ولا رسوخ في وعي مقاصدها مما ورث لديهم فهوماً خاطئة انعكست بالتالي على مسلكهم الشخصي في الحياة.

ثانياً: نشر الوعي العقدي المنبثق عن الذهنية السلفية، بحسبها الأصوب رؤية في هذا المجال؛ فالوقاية من الغلو والحصانة ضد بواعثه تتعذران دون فقه عقدي يستوحي تصوراته من منهج أهل السنة والجماعة بوصفه المسلك المنسجم وذاتية الأمة والمتقاطع مع بنيتها العميقة.

ثالثاً: إعادة النظر كرة أخرى في المناهج الدراسية باعتبارها المؤثر الأول في تشكيل الوعي العام ورسم ملامحه؛ فالغلو ليس ظاهرة بسيطة بل ظاهرة مركبة ذات معالم معقدة وبواعثها متعددة الخيوط ومتداخلة بعضها مباشر جلي ماثل للعيان وبعضها غير مباشر فهو غائر في الأعماق اللجية ولكن يبقى الطابع العام لها أنها مشكلة ذات جذور تربوية؛ ولذا فالجانب التربوي في المؤسسات التعليمية المختلفة يجب أن تصرف له الجهود وتنفق في سبيله الطاقات.

رابعاً: تجسير الفجوة بين العلماء والشباب؛ فتوتر العلاقات بينهم وجفاف الترابط يعد رافداً كبيراً من روافد الغلو وأحد أبرز جذوره الضاربة في الأعماق.



Abdalla_2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد