Al Jazirah NewsPaper Saturday  17/01/2009 G Issue 13260
السبت 20 محرم 1430   العدد  13260
الحقيقة المطلقة
د. عبدالله بن سعد العبيد

 

كيف لنا أن نقرر حقيقة الحقيقة، أهي مطلقة أم نسبية؟ سؤال حيرني كثيراً وأضحى يشغل تفكيري نهاراً وليلاً، هل يمكن أن نقود الحقيقة في مسارها؟ أو ليست الحقيقة أيدولويجية يتم تيسيرها برغبة ما نحو صفة وحراك وخطاب معين. لو كانت الحقيقة متمثلة في كائن لبحثت عن مكنوناتها وأوصافها وشموليتها.

لو كانت الحقيقة كيانا ملموسا لصعب أيدلجته وتحويره وتسييسه، لكنها مدلولات تخيلية تتسم بالمراوغة وكل ما هو غير حقيقي. أهي وعي حر متمرد على قيوده؟ أسئلة كثيرة هبت هي وغيرها فجأة لتعلن انتماءها إلى مستودع مكنون من الأسرار والمعطيات، منجم يستوعب المقدس، ويحتضن الملكية، وينادي بمحاكمة الخطيئة.

أردت البحث عنها ممتطياً صهوة الفهم الموضوعي المجرد الرصين المستند على معطيات علمية بعيداً عن الذات التي غالباً ما تحيل الموضوعات إلى تخيلات وتصورات ملونة بألوان الذات وطبيعتها النرجسية.

بيد أنني لم أتمكن حتى اللحظة من الإجابة عن تلك الأسئلة، لكنها دعوة إلى الحوار ومصارحة الأنا، وفهم الآخر، ويمكننا في هذا المقام تقديم جملة من المسائل المتعلقة بالإجابة، وفي هذا السياق لا بدّ أن نفرق بين مصطلحات عدّة منها الحقيقة الأبدية، والحقيقة المزدوجة، والحقيقة الموضوعية، والحقيقة الواقعة.

يشير مصطلح الحقيقة الأبدية: Eternal Truth إلى استحالة دحض مجموعة من المعطيات والمبادئ خلال تطور مسيرة المعرفة الإنسانية، ويندرج هذا المفهوم في تصورات الإنسان عن الخالق الأزلي القديم، والكون المخلوق، والموجودات الحادثة، والحياة الآخرة، ونحو ذلك، فالله عزّ وجلّ حقيقة أبدية مطلقة لا تقبل الشك والدحض والبطلان، والقرآن الكريم كتاب إلاهيٌ مُنزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة موعد محسوم، لجزاء المؤمنين الجنة، ومعاقبة الكافرين النار.. إلخ.

وتُشكل الحقيقة المطلقة أو الأبدية ميداناً مقدساً لا يقبل التشكيك أو تجاوز خطوطه الحمراء، كما أنه يشكل قطيعة كلية ومطلقة مع التصورات والإمكانيات النسبية لاختلاف معنى الميدانين أي الميدان المطلق والميدان النسبيّ.

أما الحقيقة المزدوجة: Twofold Trut فتشير إلى إمكانية الفصل بين الحقيقة في الدين، والحقيقة في الفلسفة، فما يراه الدين أوحتى اللاهوت حقيقة قد لا يكون كذلك في الفلسفة، والعكس صحيح أيضاً، ويندرج جلُّ موضوعات هذه الحقيقة في مناقشة أصل العالم وتطور الخلق فيه، ويؤكد مصطلح الحقيقة الموضوعية: Objective Truthالمعرفةَ الإنسانية التي لا تتوقف على إرادة الذات ورغباتها، إنما تتوقف على محتوى الشيء وانعكاساته على اكتساب المعرفة الإنسانية، ومن المهم القول إن تصورات الحقيقة الموضوعية لا تتفق مع تصورات المثالية الذاتية التي تقوم على تقبل الإنسان والوقوف عند رغباته من قبيل الإيمان بالخرافات والأساطير ونحو ذلك، وتقود الحقيقة الموضوعية إلى معرفة علمية استقرائية رصينة، تمنح وعياً مستنداً على أدلة تصدقها المسيرة المعرفية، ويكتسبها الوجود المبدئي للإنسان، أما الحقيقة الواقعة: Actuality Truth فهي التصورات التي تنشأ وليدة واقعها بكل تمظهراته وقوانينه، وتعمد بشكل أساسيّ على الظاهرة المتداولة اليومية المتغيرة بتغير الزمان والمكان، فالإنسان الأمريكيّ قد يكون أو قد يُصوّر بوصفه بطلاً ومخلصاً للعالم من خطر النيازك والكويكبات والانفجارات الكونية، والفايروسات الفضائية بفعل تطوره العلميّ التقنيّ، وهذه حقيقة واقعة يومية في المجتمع الأمريكيّ وعند بعض المتأمركين في دول العالم لكنها ليست كذلك في مجتمعات أخرى كالمجتمعات العربية والإسلامية مثلاً.

إذن يمكننا القول إن الحقيقة المطلقة لا يمكن تفنيدها، وهي متعلقة بطبيعة الإله وخلق الكون والموجودات، والحقيقة النسبية متغيرة ومتشكلة بحسب الزمان والمكان، واختلاف الأمم والشعوب.

إذن فقد انتقلت الحقيقة المطلقة في ميدان عقديّ إلى حقيقة نسبية في ميدان عقديّ آخر، والحديث في اختلاف الميدان العقديّ يمكن سحبه إلى الميدان العلميّ أيضاً، فقد اكتشفت البحوث الحديثة في ميدان علم التشريح المقارن بين الإنسان وغيره من الكائنات، أنّ اللون الذي يدركه الإنسان ليس هو بالضرورة اللون نفسه الذي تدركه بقية الحيوانات أو الحشرات، فمثلاً يرى الإنسان قميصاً أحمر، ويُدرك أنّ ذلك حقيقة، فهذا القميص المتعين هو إدراكٌ يتصف بجزيئات يصطبغ بهذا اللون، لكن حشرة مثل الذبابة لا ترى اللون الأحمر في هذا القميص نفسه، لأنّ صورة القميص تنعكس على مجسات العين عندها باللون البنفسجيّ، وهذا يحيلنا إلى استنتاج أنّ الحقيقة اللونية في هذا المجال لا تعدو كونها انعكاسات عيانية يستقبلها الدماغ ليحولها بالتالي إلى تصورات تكتسب صفة التعريف لدى وعي الإنسان الذي يُترجمها بدوره إلى معان ودلالات محددة، فإذا ما نقل الوعي الآني إلى محتوى تصوري مفاده أنّ هذا القميص لونه برتقالي وهو في الأصل أحمر فإني سأعمد إلى بيان ذلك التصور من خلال تحميل دلالته وتسويقها.

إنّ وصول الصورة المرئية إلى الدماغ وتحليلها وتحويلها إلى معانٍ ودلالات، وتقديمها بوساطة الكلمة المسموعة، عملية معقدة صاغتها القدرة الإلهية في أحسن تقويم، ومسألة اقتناص الحقيقة منها مسألة ليست بالسهولة التي يمكن التشدق بها.

تدخل (الحقيقة) بوصفها مصطلحاً مطاطاً في إمكانيات هائلة وطرقٍ متعددة من الصيرورة المستمرة التي لا تعرف الثبات، لأنها تكون في حالة إعادة مستمرة لمفاهيمها، فما كان خيالاً في الأمس البعيد أو القريب أصبح حقيقة اليوم، وما يكون اليوم خيالاً سيكون غداً حقيقة، وما تراه أنتَ حقيقة راسخة في معتقدك ودينك وشريعتك قد لا يكون حقيقة خارج إطار دينك وتوجهك العقدي، وما يعتقد به مجتمع معين من حقائق قد تبدو لهم ثابتة، لا يعتقده مجتمع آخر، وما ترسخ من تصورات عتيقة قد ينفيه العلم الحديث بدراساته التحليلية في صنوف المعرفة المتنوعة الجديدة، لكن يبقى السؤال: هل يحق لنا احتكار الحقيقة؟، هل يحق لنا مصادرة حقائق غيرنا الثابتة عندهم لنحولها إلى حقائق نسبية عندنا؟، هل يمكن اغتصاب جميع الحقائق النسبية كي تبقى حقائقنا هي الأساس، أم هل يمكننا الإدعاء بموسوعية حقائقنا ومطلقيتها بمعزل عن حقائق غيرنا، أم يمكننا تقديم الحقائق على طاولة النقاش والمحاورة بعيداً عن التجريح والتنكيل، واغتصاب حقوق الغير في الحديث والمناقشة وإبداء الرأي والرأي الآخر.

إنها دعوة إلى المستقبل، إنها دعوة إلى البحث عن المعرفة والتفتيش عنها، إنها دعوة للتنقيب في كنه الأشياء والتصورات، وعدم التسليم بالعُرف والتقليد الأعمى الذي لا يستند إلى المعرفة الموضوعية القائمة على معطيات الوحي، والنص، والعقل ولنتذكر بتأمل قوله تعالى{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (24) سورة النور الآية.

والله من وراء القصد،،،



dr.aobaid@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد