Al Jazirah NewsPaper Saturday  17/01/2009 G Issue 13260
السبت 20 محرم 1430   العدد  13260
غزة.. توقف المشهد.. واختلطت البراءة بالموت!
حسين أبو السباع

 

صرخ الأطفال ودوي المدافع فوق رؤوسهم والقتلى يتساقطون بالعشرات ويملؤون شوارع المدينة، يتساءلون: بأي ذنب نموت؟ بأي عقل وبأي منطق؟ نموت تحت الأرض وفوق الأرض من الجو ومن البحر، الموت يلاحقنا في كل اتجاه وكل صوب،

ولا تعليق، ولا طرد سفراء، الشعوب تمصمص شفاها، وتقول: يا رب لا نملك غير الدعاء، والحكومات لا تحرك ساكناً لا بمصمصة الشفاه، ولا حتى بالدعاء، والأطفال يموتون بالعشرات، كل يوم صورهم تملأ شاشات الفضائيات، كأنهم نائمون، البراءة تختلط بالموت، بعيون نصف مغمضة، ونصف مفتوحة تنتظر أن تستيقظ يوم البعث لتشكو إلى الله ضعف حالنا وقلة حيلتنا، أو بأدق تعبير (تخاذلنا)، تباً لكل سياسات الأرض، تباً لكل سياسات السلام المبني بجماجم الأطفال، وضع الأساس الهش بالجماجم، وتم البناء بالأشلاء.

لم ينج من المذبحة أحد، الكل أمام القصف شهيد، حتى من لم يمت، فلقد أصابه الموت ألف مرة، وفي حين ننعم نحن في كل بلاد الأرض بالدفء في بيوتنا، يقبع سكان القطاع في منازلهم أو بجوار المهدمة منها يمزقهم البرد.. تباً لكل شعارات السلام.. تباً لكل دور يحمل شبهة تواطؤ من قريب أو بعيد.. سيناريوهات تتكرر، الموت نفسه يتكرر، المشاهد هي ذاتها أيضاً تتكرر، وبعد استشهاد أكثر من ألف فلسطيني أكثر من ثلثهم أطفال، لا يمكن السكوت، حتى ولو بالكتابة التي نشهد فيها الله أننا قمنا رغم عجزنا بدور ما في المعركة.

قال لي أحد الفلسطينيين: (لا نريد أن تكتبوا عنا، ولا نريد منكم معونات ولا إغاثة، العالم تركنا نواجه المذبحة وحدنا، بلا شريك).

كثير من الإعلاميين حين سئل عن تعليقه عما يحدث في غزة، سكت ولم يعلق، وقال: أبلغ تعليق هو الصمت مثلما يفعل العالم.

لكن إلى متى يكون الصمت هو شعارنا نحن العرب في كل مواجهة مع إسرائيل ومن ورائها أمريكا؟ ولأجل ماذا لم يتم اتخاذ أي إجراء تجاه هذا الكيان العنصري البغيض؟ والفضائيات تعرض صور القتلى والعالم كله يراها ويشعر بالعجز أمام هذا الاختبار الصعب لكل حكومات الأرض، والسؤال ماذا ننتظر حتى نعلق معهم أي محادثات رسمية أو نطرد سفراءهم من أراضينا، أو نرفض مقابلتهم إلى أجل غير مسمى. كل شيء من هذا لم يحدث ولن يحدث، بل ومن المستفز أنه بعد انتهاء المجزرة الدائرة على أهالينا في قطاع غزة، ستقوم الدول التي تشجب وتدين العدوان الآن باستقبال مسؤولين إسرائيليين وسيجلسون معهم على طاولة واحدة، وسيكون العنوان الرئيس في كل صحافة العالم الصادرة في اليوم التالي لانتهاء المجزرة (استئناف المفاوضات بين ؟؟؟؟؟ وإسرائيل)، حقيقة حتى الآن لا أعرف من ستقبله إسرائيل ليتفاوض معها، وعلى أي أساس، لكني أعتقد أن هذا هو العنوان الذي سيتصدر الصحف العربية والعالمية، وكأن الألف شهيد الذين سقطوا في المذبحة لا قيمة لهم، وكأنهم لم يولدوا أصلاً، ولننسى الماضي، ولنفتح صفحة جديدة مع العدو، وسيقول الضعفاء وقتها: السلام.. السلام.. وأعود لأتساءل: السلام مع من؟ ولأجل من؟ ومن بيده إقرار السلام، بيده إقرار الحرب، كل قطرة دماء سالت على أرض فلسطين منذ بدء احتلالها وإلى الآن في رقاب من يقرر السلام ويقرر الحرب، والأكثر في رقبة من يستجدي هذا السلام الواهي الضعيف أو كما سمي في الماضي (سلام الحملان) أو سلام الاستسلام.

يا سادة.. هذه المعركة التي تدور رحاها الآن فوق أرض قطاع غزة لم تستهدف أطفال غزة وحدها، بل استهدفت كل واحد منا، كشفت عجزنا، لنظهر أمام أبنائنا الذي لا يكفون عن السؤال أمام شلال الدم الهادر من القنوات الفضائية: ماذا قدمتم من أجل أطفال غزة؟ والإجابة طبعاً لا تكون إلا مثلما يسأل الطفل سؤاله المعتاد: كيف ولدت ومن أين جئت؟

العجز أمام الموت، والعجز أمام إنقاذ المصابين، والعجز أمام مواجهة العدو الغاشم تقضي على البقية الباقية فينا من رجولتنا ونخوتنا واحتمالنا.

حقيقة كنت أتمنى ألا أكتب عن غزة، وعن المذبحة، وأرد بالصمت مثلما تفعل حكومات العالم، لكني لم أستطع أن أرى نفسي مستسلماً للصمت، مثلما تفعل الخراف أمام سكين الجزار.



aboelseba2@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد