Al Jazirah NewsPaper Tuesday  07/04/2009 G Issue 13340
الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1430   العدد  13340
التراث بين مؤيديه ومعارضيه
عبد الله بن محمد السعوي

 

ثمة انقسام في الوعي تشكل جراء الارتباك في التعاطي مع الزمن بأبعاده الثلاثية التي تمثل فضاءات متلاحمة يستحيل فيها الإنسان من وضعية إلى أخرى؛ فمنذ أمد طويل ثمة من جاهر بالدعوة إلى القطيعة المعرفية مع التاريخ وعدم الإحالة عليه زاعمين أن ذلك هو اللبنة الأولى في سبيل معانقة آفاق التقدم والالتحاق بركب التطور الحضاري.

هذه القراءة التنظيرية تتعاطى مع الجذور التراثية باعتبارها عقبة كأداء لامناص إن رمنا إزالتها من استنساخ تجربة غيرنا والمحاكاة الميكانيكية لمنظومته بعموميتها وتمثل أنماطها بكافة قوالبها، وثمة على الضفة الأخرى مدرسة أخرى تتعاطى مع الماضي بفعل ما يحكمها من نظرة (نستولوجية) فتروم استدعاءه برمّته من دون تفرقة بين غثه وسمينه، ثابته ومتغيره، زاعمة أن الرقي العام للحياة مرتبط به وعلى نحو وثيق، وأن مسلسل الهزائم التي منيت بها الأمة ليست إلاجراء بتّ وشيجتها بتاريخها وهذا ما يحمل هذه المدرسة على الفرَق من كل جديد ومناوأته لحداثته فحسب!، فهي لا تفرق بين الإبداع والابتداع، وهذا ما يفسر لنا في وقت مضى وجود من يرفض التعاطي مع أي منتج حداثي حتى ولو كان مثلا عبارة عن مكبرللصوت حيث كان يصفه بعضهم ببوق الشيطان!ورحم الله الشيخ (عبدالرحمن السعدي) حيث قال لماسئل عن مكبرات الصوت، وفي إجابة تشي بعقلية فقهية متفتحة:(إنها توصل صوت الحق إلى الخلق) والأمثلة في هذا السياق كثيرة، وهي تعبر عن جبلة حذرة وسليقة متوجسة فرضت التقهقر على الراهن الإسلامي وساهمت في تدني سويته في سلم التقدم الأممي. إن المفهوم الغائب عن هذه القراءة الرازحة تحت وطأة (النستولوجيا) هو أن الإسلام لايضع قوالب جاهزة وأطرا محددة لآليات العيش وأنماط الحياة المتحركة ولوكان الإسلام كذلك لما كان ملائما لمواكبة المستجدات ولما كان صالحا لكل زمان ومكان، ولذا شاهدنا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد تغيرت سيرتهم بعد تحولهم من مكة إلى المدينة التي عاينوا فيها منظومة من العادات التي لم يألفوها في المسكن واللباس ونحو ذلك ولم يجدو ضيرا في استهلاكها، هذه المد رسة ذات النزعة القهقرائية تستريب بكل قراءة تتوخى تقصي التراث وفحص مقولاته ومقاربة معطياته ووضعها على طاولة التشريح البحثي، إنها تجرد الإنتاج الثقافي من تاريخيته وإطاره الاجتماعي وتجعله فوق الزمان والمكان وهذا شأن لا يكون إلا للقرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح الثبوت. إن شطط أولئك الذين امتهنوا مهاجمة التراث وسطحية هؤلاء الذين ذابوا في معطياته، قد ولدت ردود أفعال عكسية في منتهى العنف بين الشريحتين إزاء بعضهما بعض تجلي ذلك في موجات التكفير ونزعات التبديع التي لايني المفتونون بالتراث إلصاقها بخصوصهم!، وعلى الطرف المقابل حيث نعاين أن الذين انبتوا عن أصولهم وقلبوا ظهر المجن لتراثهم وغيروا جلودهم وانسلخوا من نسبهم - يريدون بذلك التحررمن قبضة التراث فإذا بهم يقعون فيما هربوا منه حيث سقطوا في تراث الآخر- قاموا بالتهجم على المقدسات والتمرد السلوكي على التشريع وإحالة التهم إلى دعاته ولم يميزوا بين الثابت في التراث والمتغير، المقدس الذي لا يقبل القداسة،الشأن الذي خلق راهنا مضطربا تقوده مدرستان متصارعتان، ولايزال السجال بينهما لايخبو لحظة إلا ويعود كرة أخرى شديد الأوار.وثمة مدرسة ثالثة ارتأت رؤية وسطية تتبناها ثلة رحبة من الفعاليات المعرفية والقيادات العلمية للأمة تميزت بتأبيها على الذوبان الكلي في التراث واستعصائها على الاستنساخ الشمولي لمفرداته والانشداد المطلق إلى مكوناته، كما أنها أيضا رفضت بت الصلة بماضيها وتعاطت مع تراثها بعقلية انتقائية ناضجة تصطفي الصالح وتدع الطالح وترى أن جملة غير قليلة من تراثها هو إفراز لحضارة إبداعية ظلت مصدرا تنويريا للعالم عددا من القرون المتطاولة، وأنه مازال ينطوي على شحنات كثيفة تحفز على صياغة حضارة جديدة تكون مبعث إشعاع يؤهل لقيادة العالم وهدايته نحو السبيل المأمون. أيضا هذه المدرسة الوسطية تنفتح على المنجزات الحضارية والعلمية وتوظفها في سياقاتها السوية، ولا ريب أن هذه المدرسة هي المنسجمة مع روح الإسلام ونصوصه ومراميه المقاصدية؛ إن التقليل من قيمة التراث والإلحاح المتناهي على اجتراح القطيعة معه والتعاطي معه بوصفه الباعث على ذبول روح الأمة وانطفاء شموعها وبدايتها في العد التنازلي، شأن مجاف للحقيقة ومجانب للمنطق.الحامل عليه شعور حاد بالدونية وازدراء لامبرر للذات بالإضافة إلى نظرة إجلالية للغير.هذه الدعوة إلى إقصاء التراث تشكلت انطلاقا من قياس غير موضوعي فقد رأى صانعو هذا الخطاب أن النهضة الأوروبية لم تلامس عوامل التألق الابعد انعتاق أوروبا من أسر الكنيسة وديكتاتوريتها المتسلطة لأن الكنيسة في الزمن القروسطي هيمن عليها التحجر، واستبد بها الجمود فعرقلت المسيرة التقدمية وحالت دون ازدهارها، ولم تتحرك عجلة العلم إلا بعد زحزحة الدين عن التّماس الفاعل مع المشاهد السياسية والاجتماعية، وعزب عن ذهن هؤلاء أن قياس حال الأمة الإسلامية على الواقع الغربي قياس مع الفارق فهو قياس غير منطقي يأخذ مفردة جزئية ثم يرتكب خطيئة تعميم الحكم على المجتمعات الأخرى بأحكام كلية مفتقرة لما يسوغها.هذا الفارق الموضوعي بين الواقع الإسلامي والواقع الغربي وعاه أحد المسلمين فأطلق عبارته الشهيرة: (إن أوروبا تركت الدين فتقدمت وتركناه فتخلفنا) قد يتساءل بعضنا: لماذا هذه الاستماتة المتناهية في استعادة الماضي واستصحابه مع أن التحديات الكثيفة تأخذ بتلابيبنا؟! أليس الانكفاء على التاريخ أمر يشي بالتقهقر والانهزام الذي يراد له عبر هذا الانكفاء شيء من التعويض النفسي؟! وللإجابة عن ذلك من خلال التقدير الشخصي: إن هذا لا يبرر الانفصال عن التراث بقدر ما يدعونا إلى الاتصال به والتأمل المعمق في كيفية الانشداد نحوه وآلية توظيفه، وفي هذا الصدد ثمة عدة أمور يحسن ترقيمها كما يلي:

أولاً: لابد عند القيام بدراسة التاريخ ألايكون المغزى من ذلك التجمد فيه والأوبة إلى الخلف لاستحضاره بكل تفاصيله واستنساخه بكل مآسيه وتمثل تجلياته بدون غربلة لها واقتناء أطروحاته بعيدا عن الفلترة، واستدعاء ملفه المفاهيمي بدون انتخاب لمفرداته، وإنما يفترض أن تكون دراسة حفرية تميز الصفو من الكدر والمشرق من المظلم، دراسة متأملة متعمقة متأنية، تتلمس نواميسه وتتعرف على سننه، وتقف عن كثب على الأصول الحاكمة لمسيرته بعيدا عن القراءة الاجترارية التي تكتفي بالوقوف على الأطلال وتبدو وكأنها تتوخى أن تعود بعقرب الحياة إلى الوراء!.

ثانيا- إننا عندما نؤوب إلى هذا التاريخ فلأنه مكتظ بالصور الوضاءة وحافل بالنماذج المشرقة وهي تمثل جزءا من هويتنا ومن لا يقيم وزنا لهويته ويتنكر لها فإنه لا يحترم ذاته ولا يحمل أي مشاعر إجلالية لها وليست محل تقديرلديه، ومن هذا شأنه فلن يحظى باحترام العالم له بل سيظل قابعا في مكان قصي على هامش الحياة؛ إن في هذا التاريخ محطات للحق والعدل ولنا فيه مُثل راقية ومفردات قيمة وقيم أنيقة تملي اللحظة الحضارية مناداتها وتجسيدها في برهة زمنية باتت فيه الأمة تستمد الأخلاق والأفكار والمثل، كما لو كانت تستورد موارد الصناعة والزراعة، ويضاعف الشأن خطورة هذا التدفق الهائل للعولمة الذي يلغي كل خصوصيات المجتمعات الفكرية والثقافية كما يبتلع اقتصادها ومواردها المالية.

ثالثا- عندما نستدعي تاريخنا المترع بالانكسارات والوقائع المريرة يفترض أن نستعيده مستصحبين العقلانية ومتكئين على الموضوعية في أنقى صورها، وفي إطار امتياح العبر منه (لقدكان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وليس في إطار النعرات المذهبية والعصبيات الدينية والعرقية والقومية التي تروم تفتيت تنويعات النسيج الاجتماعي وتمزيق مكوناته وبث بواعث الاحتراب بين تعبيراته وتشتيتها إلى أحزاب تدلف في سياق تصارعي يلتهم أخضرها ويابسها.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد