Al Jazirah NewsPaper Tuesday  07/07/2009 G Issue 13431
الثلاثاء 14 رجب 1430   العدد  13431
مَنْ فَقَد بصره قويت بصيرته
د. عبدالمحسن بن عبدالله التويجري

 

في بعض الأحيان نرى الأعمى بصيراً، وأحياناً أخرى لا معنى للمعادلة الخاصة بتحديد من هو أعمى ومن هو بصير، وربّ العالمين أعطى أشياء ومنع أشياء أخرى بما في ذلك الحياة، فهو سبحانه لا بد مستعيدها في يوم من الأيام، وقد لا نستطيع الإجابة عن سؤال قد يخطر على الذهن، وهو: فلان...

... يتوفى في عمر الثلاثين وآخر في عمر التسعين؟ نسلّم بهذا والعلم عند الخالق سبحانه باستثناء ما نعرف من أسباب كالمرض مثلاً وإن كان ليس كل السبب لأن المشيئة بالمرض في أحيان وأمراض محددة جزء من المشيئة التي قضت بالوفاة، ومن يعامل ويتعامل مع الأعمى قد ينسى أنه يفعل ذلك؛ فهو أمام الرجل الذي قد يتفوق عليه في كثير من الأمور.

ومن فقد بصره أكرمه العلي القدير بمزيد من الفاعلية في حسه وإحساسه، فقد يكون السمع منه مرهفاً لا تفوت معه ثانية من وقت يسمع خلالها المتحدث ويستوعب ما يطرح من فكر بشكل عادي وأحياناً قد يكون متميزاً، كما أن الذكاء يلاحظ أحسنه لدى بعض من هؤلاء فنجد أنهم يتمتعون بعوض يشدّ منّا الانتباه.

وندرك مباشرة أن أحدهم له شخصية قوية تتمتع بحصانة ذاتية يلاحظها أولاً من يقوم بمساعدته متى استعان بمساعدة على الطريق، وقد يعجز هذا المساعد أن يفوز بفرصة يؤثر معها على قرار قد قرره.

ومن يذكر رجلاً فقد بصره أو يقابله سيرى ويحسّ أنه أمام مشهد متميز لحالة من الصبر والرضا، وقد يقول قائل: وهل بيده قدرة يبدل معها من حاله؟ وأظن أن في هذه الملاحظة بعضاً من التجاوز، فحاله ظاهرة ومؤكدة سواء عاش حياته بالصبر والرضا أو ما هو عكس ذلك، فقد يأتي الجواب من آخرين أن الفرق شاسع بين الرضا والسخط، وبين الصبر والجزع.. وأياً كانت الأسباب فنحن أمام رجل يتمتع بقدرة على الصبر والرضا تثير الانتباه.

كما يعمد بعض من فقدوا بصرهم إلى تعلم جديد لا يفكر فيه من هو مبصر، وإذا قرر ذلك فالعائد إتقان متميز، وقد قيل الكثير من الأساطير حول القدرة والمقدرة، ولكنها تظل في دائرة لا يصدقها أحد، حتى من قال بها هو الأبعد عن تصديقها.

ولا بد من إدراك الرحمة التي يسبغها الخالق عزّ وجلّ على من شاء نقصاً في بعض حواسه، ويتمثل ذلك في مقدار ما يحظى به من شيء يعوض ويؤدي نفس الوظيفة التي حرم منها.

هل نقف عند العوض والتعويض، أم نذكر - وهذا صحيح - أن الحرمان يزيد من طاقة الجهد والاجتهاد، فهو حافز يحقق أفضل النتائج، وهذا الحديث عن البصر والبصيرة ربما أنه أمر يقود إلى الاعتقاد بأن البصر إحدى وسائل البصيرة، فيرى البصر شيئاً والبصيرة تراه وترى أبعاده وما قد يخلف من نتائج، فالبصيرة أكثر فاعلية من البصر، وبواسطة البصيرة يزن الأشياء فتتعمق أبعادها وتأخذ بكل طاقة ممكنة لتخرج بما هو أفضل بفعل البصيرة.

والبصيرة التي تؤثر في أمور الإنسان مع الكون كله متوافرة لدى الأعمى والبصير وإن تباينت القدرة وقيمة العائد، وقد أمكن معرفة الكثير أو ما هو أكثر عن البصر من الناحية التشريحية والوظيفية وما قد يتعرض له من متاعب، وليس بنفس القدر نجد هذا في البصيرة.

سبحان رب البصر والبصيرة يدبر ما يشاء ويعلم، ومشيئته في حكمته سبحانه، ولكننا أمام مشهد نستطيع معه أن نتعلم الكثير ونستنتج أكثر، فبقدر ما يؤديه مَن حُرم من أحد حواسه من مسؤولية يجتهد معها ليحقق طريقاً نحو الأبعد والأقيم من الجوهر ما تتاح لنا الفرص لتعلم شيء نستفيد وبه نفيد الحياة والناس.

إن فَقْد البصر ليس آفة ولا عائقاً أو نقصاً فقد يكون ثرياً وخلاقاً من خلال ما يبعثه من الحوافز نحو أشياء من شؤون الحياة والناس وفي مجالات العلم والاكتشاف، وحين الامتزاج بأحد قد فَقَد إحدى حواسه فسيرى حالة من عمق الإيمان بالخالق سبحانه في صبره، وبهذا يتعبد خالقه عز وجل.

هذا التفاعل المثير بين الحدث ورد الفعل المقابل له ومن خلاله ومن خلال ذلك تتكون خواطر وأفكار تعزز الإيمان بالله والقضاء والقدر بخيره وشره لا نشك فيه ولا ننكره.

إنَّ ما بين الخالق والمخلوق كثير وشامل؛ فهي تعليمات ومنهاج لعبادته، وكذلك ما قد تأتي به المشيئة، من خلال من يعيش معنا الحياة أو أحداث تتم فيها ولشخصه. من قدر ما الشمس واضحة فلا نحس بخاطر يقودنا للتأمل، وكذلك المشاهد الكثيرة القادرة على بعث التأمل والعبرة والاستنتاج، وهذا من وسائل تعميق الإيمان. إن درة المصادر لمن يبحث عن الحقيقة جميعها في الإنسان والكون. والله الموفق.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد