Al Jazirah NewsPaper Monday  27/07/2009 G Issue 13451
الأثنين 05 شعبان 1430   العدد  13451
الهموم ملازمة للعقل
عبد الله بن إبراهيم بن حمد البريدي

 

وصلتني رسالة قصيرة بالجوال من صديق عزيز، فيها بيت من الشعر (العامي) مع علمه أني لست متذوقاً ولا محباً للشعر العامي، وهذا البيت يقول:

من يشتري قلبٍ همومه ملايين

ويبيعني قلب من الهم خالي

فلم أتردد في إرسال رد عليه ببيت شهير من الشعر الفصيح يقول:

أفاضل الناس أغراض لدى الزمن ِ

يخلو من الهم أخلاهم من الفِطَن ِ

وكنت متيقناً أنه سوف يتصل لأنه لا يحب الشعر الفصيح، ونادراً ما يفهم بيتاً منه.. وبالفعل اتصل عليَّ سائلاً عن معنى هذا البيت، فقلت له:

البيت الذي أرسلت لي، تتمنى فيه مَن يبادلك قلبك المليء بالهموم بقلب خالٍ منها، أليس كذلك؟

فأجاب: نعم..

فقلت له:

يا صاحبي، لا يُوجد قلب خالٍ من الهمّ، إلا قلب رجل مجنون أو أبله أو معتوه... فعددت له ما استطعت وما عرفت من مفردات الجنون، فهل تقبل أن تكون مجنوناً؟

فقال:

لا، ولكن ألا أستطيع الجمع بين العقل والخلو من الهمّ؟

فأجبته:

أبداً، ولا يمكن الجمع بينهما، فهما متضادان تضاد الشمال والجنوب، والليل والنهار، ثم إنَّ مِن علامات نضج الإنسان واكتمال عقله كثرة همومه!

فالهمّ يطارد العقلاء من بدء النضج إلى الموت، ولا تفارقهم الهموم وهم أحياء إلا في حالة زوال عقولهم ودخولهم عالم المجانين، هنا تأتي السعادة (الوهمية) والنعيم (السراب) الذي يعيشه المجنون، والذي يراه العاقل الشقاء والجحيم الدنيوي التام!

وتابعتُ قائلاً:

ألم تقرأ يوماً أو تسمع هذا البيت:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم؟

فقال: بلى، لقد سمعته ومرَّ عليَّ كثيراً، لكني لم أفهمه.

فقلت له:

إن شقاءك وهمومك التي تعاني منها سببها عقلك، فالهمُّ إذاً نعمة لأنه شرط أساسي للانتساب لعالم العقلاء، تماماً كما أن الخلو منه بطاقة دخول لعالم المجانين، فالعقل والهم متلازمان أيها الرفيق.. ألا ترى (فلاناً) وذكرت له رجلاً به (خفة عقل) وهو اسم أطلقه القدماء تلطفاً للمجانين حتى لو كانوا مجانين متوسطي الجنون، فسألته:

أترى في رأسه شيباً؟

قال: لا، وهو ذو صحة يُغبَط عليها أيضاً مع كبر سنه!

ثم ذكرتُ له شاباً لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره وقد غزاه الشيب، ونحل جسده مع أنه كان إلى ما قبل سنوات قليلة ذا جسم ممتلئ صحة ونشاطاً وسألتُ صاحبي:

ما الذي أشعل شيب هذا الشاب وأنهك جسده؟ وما الذي طرد الشيب عن رأس ذاك الرجل وملأ جسمه صحة وحيوية؟

فلم يجبني، فذكرتُ له البيتين التاليين:

والهم يخترم الجسيم نحافةً

ويشيب ناصية الصبي ويهرم

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسامُ

فقال لي صديقي:

الآن اقتنعت، ولا أريد قلباً خالياً من الهمّ، لأني والعياذ بالله لا أريد أن أكون مجنوناً، ولكن صدقني أنَّ ما ذكرتَ لي من أبيات لا يقولها إلا مجنون، أقصد أنه رجل بينه وبين الجنون شعرة فقط، أي أنه على حافة الجنون!

فقلت له:

أبداً يا أخي، لا تصفه بالجنون، فلقد وصفه غيري وغيرك بأنه:

مالئ الدنيا وشاغل الناس، إنه المتنبي، وهو القائل أيضاً:

وكم من عائب قولاً صحيحاً

وآفته من الفهم السقيم ِ

وهو القائل:

ومن نكد الدنيا على الحُر أن يرى

عدواً له ما من صداقته بُد

وهو القائل:

لا تحقرنَّ صغيراً في مخاصمة

إن البعوضة تدمي مقلة الأسد

وهو القائل.. فقاطعني صاحبي قائلاً:

يكفي يكفي رحم اللهُ والديك، وماذا ترك هذا لغيره من الشعراء والحكماء؟

من العقل أن أحب الشعر الفصيح، فأنا من اليوم من محبيه بل من عاشقيه!



Al-boraidi@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد