Al Jazirah NewsPaper Tuesday  25/08/2009 G Issue 13480
الثلاثاء 04 رمضان 1430   العدد  13480
أدركوا اليمن قبل أن يدرككم..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

.. ربَّما يكون لكل شيء في ذاكرة الإنسان صورتان:

- صورة ذهنية - وصورة حقيقية.

واليمن ظلت تتنازعه الصورتان حتى أذن الله بزيارتين عرفت فيهما ما لم أكن أعرفه من قبل،

أما الصورتان: فصورته الذهنية من خلال عمالته التي تجوس خلال البلاد، قبل الخطيئة الكبرى التي اقترفها - صدام حسين- باحتلال الكويت، وتعاطف معه من تعاطف وبينهم اليمن، ثم عودة المياه إلى مجاريها، وطي ذلك الملف الذي انطلقت أقتابه وإن ظلت آثاره موغلة في النكاية والحزّ إلى العظم، والذي انهارت معه القومية العربية انهياراً لا قيام بعد:

- وصورته الحقيقية من خلال زيارتي عمل طُفْتُ أرجاءه والتقيت بنخبة وتعرفت على منطوياته ونقبت في مكتباته وعرفت اهتمامات أبنائه وطموحاتهم التي لا تحد.

ولا شك أن المسافة شاسعة بين الصورتين، كنت في الصورة الأولى لا التقي إلا بعمالة أمية تمارس سائر المهن بطرق بدائية حتى تكاد تكون شريكة للمواطن إذ منحتها السلطات المحلية من الحقوق ما جعلها تتوغل في الأسواق والمزارع والمصانع وسائر المهن، وفجأة فقدت كلَّ شيء، أو قل تنازلت عن كل شيء تحت وابل التجييش العاطفي الذي أحكم صنعه الإعلام العراقي، وخرجت لتشكل عبئاً اقتصادياً لما تزل الدولة تتجرع مرارته، ولما تستعد العمالة عافيتها، فالعمالة الآسيوية المتدفقة كالطوفان بغير تدبير ولا تقدير قطعت عمل كل خبير، إذ لا مجال للمنافسة لا من حيث الإمكانيات ولا من حيث الأجور، وفقد اليمنيون سوقاً تسقيهم ماءً غدقاً.

وفي الزيارتين الرسميتين اكتشفت اليمن السعيد، يمن الشاعر والأديب والسياسي والمفكر يمن الطموح المكبل بالفقر والطائفية والقبلية والقات وهي علل يعرفها اليمنيون ويضيقون بها، ولكنهم لم يفكروا جدياً للخلاص منها وكنت أقول في نفسي متسائلاً: أين هذه الصفوة من تلك العلل؟ وتداعيات الذاكرة تعيد إلى الذهن مشكلة السودان الذي لا تقل نخبه عن نخب اليمن، ومع ذلك يعيش تحت وطأة الكسل والعرقية والإقليمية، ونهره العظيم لما يزل محتفظا ببكارته وصفائه وتدفقه المهدور.

والراصد الواعي ينتابه الغثيان حين يستعرض أوضاع السودان واليمن على الرغم من توفر الإمكانيات الطبيعية والبشرية.

ولما لم تكن المسألة مرتبطة بالمساءلة عن الفوات الحضاري والمدني فإنها تمتد إلى ما هو أهم، إنها تعني الوجود والعدم، فالسودان واليمن يسرعان نحو الهاوية، حتى لقد مس (البشير) ما لا يمكن توقعه ولا قبوله، إذ عُدَّ من مجرمي الحرب وطورد قانونياً وإنسانياً، وكل الذي فعله الحيلولة دون تمزيق السودان، واليمن اليوم يعيش تحت وطأة متعددة المصادر.. الفقر والبطالة والانفصال الحوثي المدعوم من دول ثورية لا تريد للمنطقة أن تأخذ أنفاسها بعد حروب ثلاثة أتت على الحرث والنسل، وكذلك حراك الجنوب ورغبة الانفصال، ولا أحسب اليمن قادراً على تجاوز هذه التحديات بنجاح، وليس من مصلحة الأمة العربية والإسلامية أن تقطع بأن ما يحصل في اليمن شأن داخلي تلي الحكومة المركزية حسمه ولا سيما أن الحكومة تواجه أزمات عريقة لا يمكن تلافيها تحت أي ظرف محتمل، وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي والقبلي والطائفي والإقليمي، وتلك هي محاور الصراع، وإذا استطاعت الدولة تهدئة الأوضاع لمجرد أخذ النفس فإنها لن تستطيع اجتثاث سائر الأزمات التي تفرز مثل هذا الصراع بين الحين والآخر, وبخاصة أن المستفيدين من هذه التوترات قد يحركون واحدة منها أو أكثر متى أرادوا ذلك ولا سيما أن الفتن المماثلة في السودان والصومال ولبنان أدت إلى نتائج مضرة بالمصلحة العربية، ولم نذكر العراق في هذا السياق لأنه بيت الداء ورأس كل علة. وأمام هذه الترديات التي أحكم الأعداء صنعها وجدد المواطنون تنفيذها أصبح العالم العربي مهدداً بالضياع، ولن تُسوّي أوضاعه بمبادرات فردية تمارسها الدولة ذات الشأن، فاليمن اليوم يتقدم بخطوات سريعة نحو الهاوية، وسقوطه في أتون الفتن سيمكن الطامعين من تنفيذ أطماعهم في المنطقة، والمتابع للأحداث يُدرك أن وراء الأكمة ما وراءها، وهل أحد يتوقع ما بلغته الأمة العربية من هوان لن يكون في المنظور القريب تلافيه، لقد انهارت القومية العربية بغزو الكويت، وانهارت البوابة الشرقية بسقوط بغداد على يد التتار الجدد وانهارت من قبل معنويات الأمة العربية بحرب الأيام الستة، وانهارت سيادة الأمة العربية بتبعات (الكامب ديفيد) وانهارت القضية الفلسطينية بانشقاق الفلسطينيين على أنفسهم، وتلك الانهيارات المتلاحقة فتن يرقق بعضها بعضا، وتبع ذلك انهيار الثقة بين الدول العربية وتعارض المصالح وتعدد الانتماءات والأحلاف، وكل دولة تدعي أن سياستها هي الأكمل والأقدر على إنقاذ الأمة، وهذه الانهيارات تبعتها أزمات اقتصادية وانفجار سكاني وبطالة خانقة وتهالك في البنية التحتية حتى بلغ الوضع حداً لا تستطيع معه أي دولة أن يمتد نظرها إلى مشاكل غيرها وكأن الأمة العربية وقد قامت قيامتها وكأني بكل قائد يردد: اللهم إني لا أسألك إلا نفسي، حالة من الذهول مكنت المتربصين من استغلال الموقف والإمعان في انهيار الماديات والمعنويات، لقد خرجت الدول العربية من المشهد السياسي وأصبحت قضاياها ومصائرها تُدار خارج أرضها على حد:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم

ولا يستأمرون وهم شهود

ومتى أخذ اليأس والإحباط طريقه إلى الإرادة العربية حقق الأعداء مآربهم وذلك الانهزام النفسي ما يبغيه الأعداء المحدقون والأباعد.

إن على جامعة الدول العربية أن تضع القادة العرب أمام مسؤولياتهم، فالوضع العربي لم يكن محتملاً، والبوادر تنذر بشر مستطير، لقد ضاعت دول عربية كبرى ولم يكن لها أي تأثير، فهي إما مشغولة بملء الأفواه الجائعة أو سد الحناجر المتوترة أو حفظ الثغور المهدرة أو فك الاشتباكات القبلية والطائفية والإقليمية الدامية أو تهدئة التوترات المتعددة، والدول المغزوة من الخارج لا تستطيع إنقاذ نفسها بنفسها، إن الوضع في اليمن - كما في سائر البلاد العربية- مخيف، ولا سيما أنه صراع طائفي محكم الصنع صراع ينطلق من عدة مواقع ويعتمد العنف المسلح ويدعم من جهات ثورية تعتمد تصدير الطائفية كهدف رئيس ومعلن وتحت سمع العالم وبصره وقد يكون بمباركة خفية، والأطماع والأحلام التي تساور هذا المد الطائفي لن يتحقق منها شيء ولكنها ستحول المنطقة إلى بؤرة فتن عمياء، والحرب يملك الأطراف تحديد بدايتها ولكنهم لا يملكون نهايتها، وإذا أحرقت الأرض ولم تجد الحرب ما تأكله بقيت ذيولها لعقود طويلة وتلك حروب الخليج شاهد عدل، واليمن الذي يواجه ثلاث جبهات بإمكانيات متواضعة لن يصمد وحده ولن يتجرع المرارة وحده ولن يكونن مرتهناً للنتائج وحده، ولهذا لا بد من مباشرة الأحداث ومحاولة فض النزاع واحتواء المشاكل التي تنتابه بين الحين والآخر بإرادة عربية تقودها جامعة الدول العربية، فحراك الجنوب وتململ القاعدة ومواجهة الحوثيين وتفاقم الأوضاع الاقتصادية ستحول اليمن إلى بؤرة فتن لا تحيق باليمن خاصة، ومن حق الأمة العربية بل من واجبها وعبر جامعتها أن تقرر أسلوب المواجهة وأن تبادر المشكلة قبل استفحالها وأن تتقدم إلى الساحة بكل إمكانياتها لنزع الفتيل ومواجهة أطراف النزاع على قدم المساواة ونقلهم من ساحات القتال إلى موائد المفاوضات ودعم الاقتصاد حتى يأخذ أنفاسه ويواجه مشاكله بقدرات ذاتية.

ومع أن الوقت متأخر وحالات الضعف والتردد تنتاب كل الأطراف إلا أن الوضع العربي عامة وأوضاع اليمن على وجه الخصوص لا تحتمل التسويف ولا التردد، وأحداثه ليست داخلية ولا يمكن تصديق الادعاءات الكاذبة، والأمة العربية مستهدفة ونهم الأعداء لن يقف عند حد التقسيم الطائفي والعرقي والعودة إلى زمن دول الطوائف إن مصطلحات سياسية يتداولها المشهد السياسي والإعلامي تنذر بالخطر فهناك (البلقنة) و(اللبننة) و(الصوملة) و(السودنة) وكلها تنطوي على حروب داخلية ممولة من الخارج.

فهل يُدرك العرب اليمن قبل أن تدركهم مشاكله؟ أرجو ألا يطول زمن الانتظار والتردد فالأمر جد خطير، وعسى ألا نكون فردوساً ثانياً مفقوداً.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد