شهر رمضان قرة عيون الموحدين، وبهجة قلوب المسلمين، جعله الله مثابة للتائبين وأمنا، شهر رمضان شهر تهفو إليه القلوب الظامئة، وتأنس به أفئدة الخلص الكمله.
|
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، قال العلماء: أنزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم كان جبريل ينزل به منجماً: أي مفرقاً على حسب الوقائع، والحوادث، ولأوامر، والنواهي، والأسباب على مدى عشرين سنة.
|
جاء في مسند الأمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍ مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلون من رمضان.
|
شهر رمضان شهر النفحت الربانية، والكرامات الآلهية، شهر رمضان شهر الصيام والقيام، شهر تحبير القرآن، شهر العتق والرحمة الغفران، شهر البر والصدقات، شهر تفتح أبواب الجنان، وتضاعف فيها الأجور الحسان، شهر تقال فيه العثرات وتجاب فيه الدعوات، وترفع الدرجات وتغفر الخطايا والسيئات.
|
مرحباً أهلاً وسهلاً با الصيام |
يا حبيباً زارنا في كل عام |
قد لقيناك بحب مفعم |
كل حب في سوى المولى حرام |
قال العلماء المحققون: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يبشر الصحابة بقدوم شهر رمضان، وهذا فيه جواز التهنئة بقدوم رمضان.
|
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، هذا كما أشرنا في الحديث الآنف الذكر أن الصيام فرض علينا كما فرض على الذين من قبلنا وهما أمتا موسى وعيسى عليهما السلام.
|
ثم إن هاهنا وقفات حول هذا الشهر الكريم الذي أطل علينا بنفحاته وحل علينا بكيانه وبركته فلابد أن يكون لهذا الشهر أثر بالغ في زينة أقوالنا، وحيلة فعالنا وسمو اخلقنا ولناخذ الأهبة لمعادنا ومآلنا:
|
أتى رمضان مزرعة العباد |
لتطهير القلوب من الفساد |
فأد حقوقه قولاً وفعلاً |
وزادك فأتخذه للمعاد |
فمن زرع الحقوق وما سقاها |
تأوه نادماً يوم الحصاد |
الوقفة الأولى: في قوله تعالى في الحديث القدسي كما في البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
|
فقد خص الله سبحانه الصوم بأنه له من دون سائر العبادات كلها لحكمتين: إحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها مالا تمنع منه سائر العبادات.
|
الوقفة الثانية: سرية الصوم بين العبد وربه، وما سواهما من العبادات ظاهر فربما فعله تصنعا ورياء.
|
الوقفة الثالثة: اتفق العلماء على أن من أعظم حكم الشريعة هو نقل الناس من حال إلى حال، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه في قوله في آية الصيام: (لعلكم تتقون..) فتتقون في الصيام قيل معناه: تضعفون، لأنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي!!
|
والنفس إذا شبعت عاثت وتمردت وسعت في شهواتها، وإذا جاعت خضعت وسكنت وعادت لربها.
|
ففي حديث ابن مسعود المتفق عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ذلك أنه يكبح جماح الشهوة، ويكسر حدتها حتى لا تطغى فتقذف بصاحبها في مهاوي الردى، فاالنفس إذا إمتنعت عن ملاذ الحلال الذي لاغنى لها عنه طلبا لمرضات الله وخوفا من عقابه فجدير بها وحري بها أن تتمرن وتتروض على الامتناع عن الحرام الذي هي غنية عنه. وذلك محسوس مشاهد كيف أن الناس يقبلون على الخير في رمضان بروحانية سامقة عليه ونفس راضية مرضية.
|
الوقفة الثالثة: على كل مسلم أن يستهل هذه الفرصة التي لا تعوض وهي أن مدَّ الله بعمره فأدرك رمضان قبل أن يتخطفه المنون. لذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: صعد المنبر ذات مرة فقال: رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ، رغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له..) وقوله رغم أنف: أي لصق أنفقه بالرغام هو التراب. كناية عن الخيبة والخسران.
|
إذ هبت رياك فاغتنمها |
فإن لكل عاصفة سكون |
ولا تغفل عن الإحسان فيها |
فما تدري السكون متى يكون |
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}، فالله الله باستغلال ساعات ودقائق هذا الشهر الفضيل. فإن كنت ولا بد عاجز عن قضائها في طاعة الرحمن. فلا تقضها في العصيان وطاعة الشيطان، فإن النفس إن لم تشغلها بالحق أشغلتك بالباطل.
|
الوقفة الرابعة: أن في الامتناع عن التمتع بلذائذ الدنيا تعريف للمسلم بقدر نعم الله وفضائله ولا يعرف قدرها إلا بفقدها مما يبعث على استشعار منَّة الله علينا بها وهذا ما أشار إليه سبحانه في آية الصيام بقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
|
الوقفة الخامسة: أن الصيام يبعث في النفس الشفقة على الفقراء، والعطف والرحمة بالبؤساء، فإن الإنسان إذا تجرع مرارة الجوع وذل المسغبة عرف أحوال الفقراء، واستشعار حالهم، وساعدهم اليتيم ذي المقربة، وتفقد المسكين ذي المتربة.
|
قيل ليوسف عليه السلام وكان كثير الجوع: لِمَ تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجِياع!!.
|
وكذلك يعرف الإنسان ضعفه ووهنه وقلة حيلته إذا فقد الطعام والشراب وهذا مدعاة لشكر آلاء الله ونعمائه. قال تعالى: {فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ}.
|
الوقفة السادسة: يقول العلماء: ينبغي للمسلم أن يكون الحامل له على الصيام والقيام هو الاحتساب، وطلب الأجر والثواب وهذا هو مناط تحقيق الأجر المذكور في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً).
|
فهنا شرط كون الحامل هو الإيمان والاحتساب لا التقليد لأهل بلدته وعشيرته، أو الرياء، أو النفاق أو السمعة.
|
الوقفة السابعة: حري بنا أن نفعل الصيام كمظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية وذلك أنهم يتساوون في أدائه صياماً وقياماً وإفطاراً، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، حاكمهم ومحكومهم، وأبيضهم وأسودهم على حد سواء، لذا فإني أهيب بنفسي ومن بلغ ألا يكتفوا باعطاء الإخوة الوافدين موائد الإفطار فحسب!! بل يدعونهم إلى بيوتهم، وينزلون إليهم ليفطروا معهم ويأنسوا بهم، ويحققون ومضة من معاني أخوة الإسلام.
|
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا....}.
|
الوفقة الثامنة: تواترت أقوال الأطباء الحذاق أن الصيام فيه تطهير للبندن من الاخلاط الرديئة، والفضلات الخبيثة التي تورث الأدواء، وأنه يريح المعدة والجهاز الهضمي من ترسب الفضلات والرطوبات المضرة بالجسم. قال صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدام وعاء شراً من بطنه..).
|
الوقفة التاسعة: قال المحققون: إن من تمام الصيام وكماله فعل الواجبات وترك المحظورات والمزجورات.
|
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه..).
|
الوقفة العاشرة: من أعم حكم الصيام المران على ضبط النفس، والسيطرة عليها، وكبح جماحها والامساك بزمام خطامها حتى نتمكن من قيادتها والنأي بها عن الانهماك في ملذتها و شهواتها، وتعبيدها لله، حتى تتحول من نفس شهوانية بهيمية إلى درة زكية آدمية!!.
|
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ}، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.
|
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، وتجاوز عن حوبنا وزلاتنا، وأعده علينا سنين عديدة وأزمنة مديدة انك خير مسؤول وأكرم مأمول.
|
- محافظة رياض الخبراء |
|