Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/10/2009 G Issue 13526
السبت 21 شوال 1430   العدد  13526
بين الكلمات
الدكتور النجيمي ونزعة الإقصاء..
عبد العزيز السماري

 

عاد الأخ الفاضل والدكتور محمد النجيمي في رده الأخير في يوم الثلاثاء 17 شوال، العدد 1430 لجريدة الجزيرة، ليرفع من مساحات سوء الفهم بين ما أردت الوصول إليه، وما يحاول أن يفرضه على فهم القارئ، وهو أسلوب إقصائي له نسق عريق في تاريخ صراعات التيارات عند المسلمين، فما كتبت عنه هو أن الفصل بين الدين والعلم أضحى حقيقة ثابتة في العلوم التجريبية لأنه لا يمكن أن تجري بحثاً تجريبياً دقيقاً، ويكون الغيب من ضمن تركيبة العوامل المادية المؤثرة على تكرار نجاح أو فشل التجربة العلمية، وأن المجتمعات المسلمة والمرجعيات الفقهية والمناهج التعليمية لا تزال غير مدركة لهذا الفصل التاريخي، والسبب هو تغييب تدريس تاريخ الفلسفة في المناهج التعليمية..، ثم تناول - حفظه الله - فصل الدين عن الحياة، وعن التشريعات العامة، وهذا لم أتطرق إليه بل أشرت في مقال سابق أنه يُواجه بالرفض من قبل المجتمعات المسلمة..

ما يفعله الأخ الدكتور الشيخ النجيمي في بعض ردوده يدخل في باب خلط الحابل بالنابل، إذ كان الطرح عن الفلسفة الوضعية، والتي آذنت بدخول البحث العلمي التجريبي إلى مرحلة جديدة مضمونها أن التحدي الحقيقي للإنسان هو في العمل المستمر من أجل اكتشاف أسرار القوانين الطبيعية في الحياة، وكان من أهم إنجازات تلك الفلسفة أن سيطر الغرب على المنجزات العلمية في القرون الأخيرة، بينما اغتالت القراءات الخاطئة للإسلام هذا المنهج بعدما وقف بعض علماء الدين ضد العقل والفكر والعلم التجريبي، وليس ضد السحر المحرم أصلاً، فالتحريم كان لمنتجات الكيمياء وما يصنعه الإنسان من عناصر مشابهه للذهب والفضة والجواهر والطيب، كذلك حاول حفظه الله أن يبرر منع تدريس العلوم التجريبية في المعاهد العلمية في فترات سابقة على أنه منع من أجل التخصص في اللغة والعلوم الشرعية، ووجه الغرابة في الأمر يا فضيلة الشيخ أن التخصص في العلوم لا يمكن أن يكون في مرحلة الطفولة أو في العام السادس من عمر الإنسان..!!

أما دلائل الإعجاز العلمي في القرآن فهي أدلة ضد المسلمين، لأنهم حفظوا القرآن أربعة عشر قرناً، وفشلوا في التوصل إلى تلك الحقائق العلمية بسبب قراءات بعض علماء الدين الخاطئة للإسلام، والإكتفاء بمنهج الاستمتاع بتلاوة القرآن الكريم، ثم تعطيل العقل من خلال إخضاعه قسراً بأساليب التكفير والتبديع والتفسيق، وهو ما أدى إلى تهميش إبداعات العقل ثم إنطوائه التاريخي في تكايا الدراويش، ليتركوا إبداع وصناعة أعظم الإنجازات الإنسانية لإفرازات الفلسفة الوضعية في منهج الحداثة الغربية....!، كذلك يا فضيلة الشيخ هل يحتاج القرآن الكريم لدليل علمي غربي على إعجازه؟، وألا يكفيه إعجازاً أنه كلام الله عز وجل..

أسعدني كثيراً خروج الشيخ من البحث عن الليبرالية في القواميس إلى حيث الواقع، فقد اتضح لي من رده الأخير أن فضيلة الدكتور قد توصل إلى أن الليبرالية هي في حقيقة الأمر ما يدور من حركة اجتماعية وفكرية وسياسية حول السوق، فقد أشار إلى مدرسة شيكاغو، وهي أحد أهم معاقل منظري الليبرالية الجديدة، وأيضاً إلى الحراك الليبرالي الذي تجاوز الجغرافيا والتاريخ في انتشاره بعد سقوط جدار برلين، ولعل الشيخ الدكتور أدرك من خلال اطلاعه الأخير على أن الليبرالية واختراقها للحدود الجغرافية والشرعية أصبحت واقعاً لا يمكن صده بإغلاق الأبواب والنوافذ، ولن يجدي أيضاً إنكار سيطرتها الحالية، كذلك لا يجب أن يعني انتشارها السريع الإصلاح، وصعود أول درجات سلم الحضارة، وذلك لأنها تصبح فتاكة في اقتصاد وحياة المجتمعات المتخلفة إذا كانت تطبيقاتها متحررة من القيود، وقد يهدد توحشها الاقتصادي رفاهية الشعوب بسبب آثارها المروعة مثل اتساع رقعة الفقر وارتفاع معدلات الجريمة والبطالة بين الطبقات الدنيا في المجتمع، وأن لا سبيل لكبح جماحها إلا من خلال الضوابط التي تحمي المواطنين من عنفوانها المفترس..

هذا ما كنت أود الوصول إليه، لكن الشيخ الدكتور أبى إلا أن يضع الأفكار والمعاني في غير مواضعها من خلال فرض القراءات الخاطئة لغرض إقصاء الكاتب أو دعوته للتوقف عن الكتابة، لا لسبب إلا لكونه صاحب مهنة، ويكتب في الشأن العام، لكن ما لم يدركه الشيخ الدكتور أن الكتابة حق طبيعي لكل إنسان في المجتمع، وربما خفي عليه أيضاً أن أكثر الكتاب أصحاب مهن، فمنهم الإداري والمحامي والمعلم والمهندس والفقيه والقاضي ورجل الأعمال وغيرها، بل إنه لا توجد مهنة كاتب أو مثقف أو مفكر، وإن وجدت فهي خروج صريح عن أخلاقيات الحق الإنساني في التعبير والنشر، ودليل على إنتفاء حق التفكير والنشر الطبيعي للإنسان...

لكن وجه الغرابة في رده الأخير - حفظه الله - دعوته لشخصي المتواضع أن أبتعد عن الإلهيات والعقليات، وعن المنطق الأرسطي في فهم الماورائيات، وهو اتجاه في التفكير كان له رواد في القرون الأولى بعد ترجمة كتب اليونانيين، وتكمن الدهشة في أنني لم أتطرق من قبل لهذا الأمر، بل إنه فلسفياً أصبح علماً مندثراً ومنسياً، ويعتبر الخوض فيه من باب إضاعة الوقت بعد ثورة العلم الحديث، وموقفي منه نابع من موقف شيخ الإسلام في رده على المنطقيين، وعلى أن المنطق الأرسطي فاسد في أمور العقيدة والغيبيات.. لكن لعلني أدركت ما يرمي إليه الشيخ الدكتور، فهو بهذه التهمة الغريبة وغير الصحيحة يستدعي بصورة لا إرادية أزمنة مضت، ولا يزال يعيش في أجواء مصطلحاتها ومنطق مواقفها العدائية وأساليبها الإقصائية، برغم من أنه عفا الله عنه في بداية مقدمة رده الأخير أنكر أنه يريد إقصاء الطرف الآخر..

كان الإقصاء في ذلك الزمن يعتمد على التشكيك في عقائد الآخرين، وتوقيت الزمن الذي لا زال يعيش فيه الدكتور النجيمي هو على وجه التحديد زمن الوثيقة القادرية أو الاعتقاد القادري الذي صدر في بغداد عام 408 هجرية ضد المثقفين والمفكرين ليكون بمثابة الحكم الساري على أصحاب الرأي والفكر والعلماء المخالفين للرأي السائد، وكانت الوثيقة في وقتها تعتبر إعلاناً بإنتهاء المرحلة الذهبية في حضارة الإسلام، وبدء عصور الانحطاط، والتي انتهت بالوصول إلى زمن اختصر فيه الفكر في الكتيبات والرسائل القصيرة، وأختزل فيه الطب في قوارير مياه الزعفران.. ويبدو أن الأخ الشيخ الدكتور محمد يحيى النجيمي من خلال مداخلاته المتكررة ضد الكتاب ربما يستعد لإصدار وثيقته النجيمية ضد أصحاب الرأي المخالفين لآرائه، لكن ما لم يدركه - حفظه الله - أن الوطن تجاوز رؤيته الأحادية وإدعاءاته غير الصحيحة، وأقلع في رحلة شعارها: العلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصمين إلا في النفوس المريضة..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد