Al Jazirah NewsPaper Friday  30/10/2009 G Issue 13546
الجمعة 11 ذو القعدة 1430   العدد  13546

الجار قبل الدار والجار ولو جار
وسيلة محمود الحلبي

 

الكون بأكمله جيرة وجيران، فإذا نظرت يمينا ويسارا تجد بيتا لجار، فالإنسان لا يعيش وحده، بل يعيش في مجتمع ينعطف إليه وعندما أوصى جبريل عليه السلام بالجار لم يحدد نوعه، فهناك معنى عام للجار، ولم يحدد الدين مواصفات وشروطاً للجار الذي يستحق البر - مذهبه أو ملته أو دينه - وكأن الفضل يجب أن يعم كل الجيران.

والجار قبل الدار.. مقولة شائعة بين الناس، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار، والجار الصالح من السعادة بل وصل الأمر إلى درجة جعل فيها الشرع محبة الخير للجيران من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه). والذي يحسن إلى جاره هو خير الناس عند الله: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره).

وقد جعل الله حاجة الناس إلى بعضهم البعض حتى يأتي التعاون بصورة فطرية بينهما، وهنا يظل الترابط كما قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. ولم يقل لتناقضوا أو لتحاربوا أو لتتباغضوا، فالتنوع المغزى منه هو التعارف والتقارب، وأن يحسن بعضنا إلى بعض، ويقضي بعضنا حاجة بعض، ويجب علينا الموازنة في الجيرة بين المحافظة على الخصوصية والتواصل الاجتماعيبحيث لا يؤذي الجار جاره، بل يجب أن يكون معاونا له على الاستقامة، وإن ظهر فيه عيب يخفيه ويعالجه بالحكمة، وكأن الجيران جسد واحد، ولديننا الإسلامي منهج في بيان حقوق وواجبات الجار، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالتعاون، والنصيحة الطيبة، والعون والمحبة سر الإحسان في معاملة الجيران؛ لأن الحب للجار ناشئ من الحب لله، ويجب أن يكون الجار حريصا على جاره، أمينا على مصالحه، ودودا لا يسيئ إليه أبداً. وفي الوقت نفسه يكون على دراية بضرورياته، عونا له إذا احتاج إلى المساندة أي يجعل بينه وبين جاره رباطاً أساسه التعاون، فالله عز وجل قال في كتابه العزيز{ وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}.

فقد أوصى ديننا الإسلامي بأن يكون الجار موطن رعاية كاملة للإنسان وحباً وتقديراً ورعاية لمصالحه ويتضح هذا من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

ولو تذكر الإنسان عقائد دينه، وأنه من التراب وإلى التراب، وكلنا من نسب آدم، وساعة الموت مباغتة، سيحسن علاقته مع الله، ويرحم جيرانه ويعامل الناس جمعيا بخلق حسن، فإذا غابت الأخلاق تجد الظلم يحل محل العدل، والإساءة محل البر، والكلمة الخبيثة بدلا من الكلمة الطيبة، والفساد يشوه الإصلاح. قال رسول الله صلوات الله عليه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهذا دليل على أن الرسل من قبله جاؤوا بمكارم الأخلاق، ولكن قد يكون الناس نسوا بعضها، فأتى حبيبنا ليكملها، ويقول الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ويظن بعض الناس أن الجار هو فقط من جاوره في السكن، ولا شك أن هذه الصورة هي واحدة من أعظم صور الجوار، ولكن هناك صور أخرى تدخل في مفهوم الجوار، فهناك الجار في العمل، والسوق، والمزرعة، وغير ذلك من صور الجوار، وللجار حقوق كثيرة، أهمها: رد السلام، وإجابة الدعوة لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة، كف الأذى عنه، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير وتنوعت أساليبه في ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: مَن لا يأمن جاره بوائقه). (ولما قيل له: يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها. قال: لا خير فيها، هي في النار).

(لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه). تحمل أذى الجار وإنها والله لواحدة من شيم الكرام ذوي المروءات والهمم العالية، إذ يستطيع كثير من الناس أن يكف أذاه عن الآخرين، لكن أن يتحمل أذاهم صابرًا محتسبًا فهذه درجة عالية من الأخلاق قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}(المؤمنون:96) وقد ورد عن الحسن - رحمه الله - قوله: ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى, ومن حقوقه أيضا تفقده وقضاء حوائجه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم). وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول, ومن الحقوق أيضا: ستره وصيانة عرضه، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، وقد كان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية، يقول عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

وأما في الإسلام فيقول أحدهم:

ما ضر جاري إذ أجاوره

ألا يكون لبيته ستر

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتى يواري جارتي الخدر

قال الله تعالى في كتابه الكريم{اعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) وحدد العلماء دائرة الجيرة إلى مدى أربعين داراً من كل جهة من الأمام والخلف واليمين والشمال.

أما مظاهر التقصير مع الجيران فقد باتت كثيرة جدا منها مضايقة الجار: وهي تأخذ صورا عديدة كإيقاف السيارة أمام بابه ومن ذلك وضع القمامة أمام بابه وغيرها لاحصر لها فيجب التنبه لها.

احتقار الجار والسخرية منه: كأن يسخر منه لفقره, أو لجهله, أو لأصله وقبيلته, أو السخرية بملبسه أو أولاده ونحو ذلك.

كشف أسرار الجار: فمعلوم أن الجار أقرب الناس إلى جاره وهو أعرفهم غالبا بأسراره فمن اللؤم كشف السر, وإشاعة أخباره للناس.

قلة النهوض لحماية الجار: ومما يدل على شرف الرجل وطيب معدنه حمايته لجاره, وحماية الجار من مفاخر العرب وله في ذلك الحكايات الكثيرة وهي لا تخفى عليكم.

قلة التفقد لأحوال الجيران: فهناك من الجيران من هو محتاج، ومنهم من عليه ديون, ومنهم من هو مريض, ومنهم المطلقات والأرامل.

قلة التناصح بين الجيران، كثرة الخصومة بين الجيران: فتجد بعض الجيران كثير المشاكل مع الجيران والتشاجر معهم وكثيرا ما تكون الأسباب تافهة. قلة الوفاء للجار بعد الرحيل: فمن الناس من ينسى جيرانه بعد أن يرحلوا عنهم أو العكس. ومن المروءة أن تكون وفيا لجارك، ويدخل في ذلك ذكرهم بالخير والثناء عليهم.

وبعد، إن سعادة المجتمع وترابطه وشيوع المحبة بين أبنائه لا تتم إلا بالقيام بهذه الحقوق وغيرها مما جاءت به الشريعة، وإن واقع كثير من الناس ليشهد بقصور شديد في هذا الجانب حتى إن الجار قد لا يعرف اسم جاره الملاصق له في السكن، وحتى إن بعضهم ليغصب حق جاره، وجميعنا يعرف أن للجار حقوقا كثيرة على جاره مع المدنية وتغيير عاداتنا الاجتماعية.. وقديماً قالوا الجار وإن جار.. وفي مجتمعنا المعاصر كثير منا لا يعرف من هو جاره، ما هو اسمه.. وكيف هو حاله.

كلمة حق:

فلنمد أيدينا لجيراننا مصافحين متعاهدين على الأخوة والوفاء ما عشنا.

للتواصل -wasilah1952@hotmial.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد