Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/04/2010 G Issue 13708
السبت 25 ربيع الثاني 1431   العدد  13708
 
قراءة في مجموعة (عناق) القصصيّة للقاص السعودي جمعان الكرت (2-2)

 

يمثّل صوت الشخصية (عمرو) الصوت المعارض لصوت سيد القبائل، الصوت الذي يرفض أن تفرض عليه شروط الحياة والإقامة في المكان الواحد، ولما لم يقتنع الصوت المركزي (أزد) برأي صديقه عمرو، يطلب منه أن يهاجر إن لم يرض بالبقاء في المكان الذي ضرب فيه (أزد) خيام قبائله، ويهاجر، غير أنه يهاجر حاقداً، وستكون هجرته فيما بعد استنفارا لعودته، وقد كلل بالمنعة والقوة، ليعود ويحارب صديقه (أزد). وهنا إشارة رمزية واضحة أيضا إلى الصراع القبلي، والاقتتال بين قبائل أزد نفسها، ولهذا الصراع خلفية تاريخية حقيقية كما تشير المصادر التاريخية؛ إذ عرف عن قبائل الأزد شدة خصوماتها، وتطاحنها على الكلأ والماء، ومواضع الرعي؛ وذلك دفاعا عن بقائها، واستمرارا لشروط هذا البقاء. ويشير المقطع السردي التالي إلى هذا الصراع التاريخي: (أثناء ذلك سمعوا حوافر أقدام خيول عارمة، ولمع سيوف شاهرة.. الأرض تطويها أقدام خيولهم.. وقفوا على قمة عالية، ما إن شاهدهم أزد ورجاله حتى تناثروا في طرقات القرية، وهرعوا إلى حصونهم ومنازلهم الحجرية يستنجدون بالسيوف والرماح. إلاّ أنّ الخيول انقضّت كالصقور، وتدحرجت رؤوس الرجال قبل اختبائهم. ضرب عمرو برمحه الأرض وقال بصوت مهيب: الصخر يصلح للحياة!! وكان يلمح وجه الماء الممتقع بحمرة قانية). ص 12.

ولا ينسى الخطاب القصصي أن يشير - وذلك قبل الحروب بين هذه القبائل - إلى أن (أزد) وقومه، وعندما استقروا في جبال السروات، بدؤوا بتشكيل أفق جديد لحياة جديدة، قوامها الزراعة والرعي، ثم تطوَّرت هذه الحياة نفسها، مع تطوُّر هؤلاء القوم وزيادة خبراتهم الاجتماعية والمعرفية، والحضارية. ويشير الخطاب القصصي إلى رقيهم وأفراحهم، في مراحل ازدهارهم من خلال احتفائهم بالحياة ومسرّاتها، ورمزيا تشير عبارات وظّفها الخطاب القصصي إلى هذا الاحتفاء، ومن هذه العبارات: (السحب تهمي بمطرها، والقمر يضيء بوجهه، والشمس تشعل دفء الحياة.. والوادي يشدو بشفيف الماء.. وكان أزد يثني جذعه متناغما مع إيقاع الطبل, وكان الرجال خلفه يرقصون في نسيج متشابه). ص 12.

وفي القصة الموسومة بـ(النسبة) يستفيد الخطاب القصصي من فرز الأيديولوجيا وخلفيتها المعرفية، لكي يدين واقع التخلف العربي، ومأساة الشباب العربي في هذا الواقع المكبّل بالإحباط والروتين، والعلاقات الإدارية المعقّدة التي تفسد طموح الشباب، وأمله بأفق إنساني كريم، وحياة أكثر إشراقا وفرحا، وبخاصة واقع الجامعات العربية المعاصرة التي لم تستطع أن تستوعب طموح الشباب، وتواكب أفقهم المعرفي المتوثب صوب تحصيل العلم والمعرفة، فبدلا من أن تدفعهم لاستنفار قدراتهم المعرفية والعلمية لتحصيل العلم فإنها تحبطهم، وتمنعهم من الوصول إلى أهدافهم، وتحرمهم من أن يختاروا الدراسة التي تلائم قدراتهم المعرفية، ورغباتهم في كسب العلوم والمعارف الحضارية، فبطل القصة شاب طموح يسميه الخطاب القصصي بـ(علي)، أفنى حياته في التحصيل المعرفي، واستنفر عزيمته وقدراته، فقرأ وتعب، وبذل جهودا غير عادية في سنوات دراسته، وحصل على شهادة الثانوية العامة، وبمعدل، قدره 95 بالمائة، وهي نسبة عالية جدا، وظنّ أن هذه النسبة تخوّله لأن يدرس الاختصاص الذي يحبّه، ألا وهو الطبّ أو الهندسة. وتأبط شهادته وحلمه، وتوقه، ودرجاته، وتوجّه إلى الجامعة، وكله أمل بأن يقبلوه في فرع الطب، أو الهندسة. تقول القصة: (حزمة أحلام كانت تتوسد ذهنه.. مستقبل مضيء يذيب كلّ نتوءات الحياة القاسية التي عاشها.. وظيفة جيدة تتناسب وقدراته العالية.. إذ كان يطلق عليه معلموه العبقري، وأحلام أخرى كان يحملها علي وهو يخطو خطواته الأولى على عتبة الجامعة). ص 13.

ومنذ بداية القصة يفرز السرد القصصي خطابه المعرفي، المعادي لبنية الجامعات العربية المعقدة، والمتخلّفة، وبشكل مرمز، فبدلا من أن تكون ممراتها مضاءة، ودافئة، ومشعّة، ومزينة جدرانها بأنواع من الزينة البهيجة التي تضفي الأمان والطمأنينة على طلاب العلم والمعرفة الجدد، فإنها - هذه الممرات - في المبنى الرمزي الحكائي تحيل إلى الخوف وفقدان الأمان والبهجة؛ لأنها طويلة وباردة، تقول القصة: (أثناء سيره في الممرات المستطيلة الطويلة والباردة كان يلمح العابرين، وهم يسيرون، وفي أيديهم أوراق تختزل مشقة سنين.. وعلى وجوههم علامات الترقّب.. وضع رزمة الأوراق الخاصة به على طاولة موظف.. كانت عيناه الجاحظتان تدحرجان خلف نظارة سميكة.. الملف ممهور بنسبة 95 بالمائة) ص 13. وفي البنية الإشارية العميقة يمكن أن يشير مفهوم النظارة السميكة إلى أن الموظف لن يفكر بإنصاف علي، ومنذ الوهلة الأولى؛ فسماكة النظارات تشير إلى عقل الموظف المقفل، وتشير إلى عدم الرؤية السليمة، أو إلى التمترس خلف مكتبه محاطا بروتين صارم معقد، وقد أعمى بصره عن رؤية الحقيقة، وقد تشير إلى عقل هذا الموظف المتحجّر، أو إلى قلبه القاسي الخالي من أي شفقة أو رحمة. ويشير الخطاب القصصي إلى أنّ روتين الجامعة وفساد إداراتها، وفساد موظفيها، والظلم الذي يسود مكاتبها، سيحرم (عليا) من أن يدخل القسم الذي يريده، والذي هو أهل له؛ نظرا لدرجاته المرتفعة؛ فالموظف صاحب النظارات السميكة عامله بجفاء وببرود، على الرغم من توسّله له أن يسجّله في الاختصاص الذي يريده، وأحبط حلمه في قراءة الاختصاص الذي يريده، تقول القصة: (لم تنبض أنامل ذي النظارات السميكة بأدنى أحاسيس أو مشاعر، لعلّه يقبض على سنة القلم ويغيّر التخصص.. بل ظلّت أنامله تمسّد وبهدوء سطح الطاولة الناعم). ص 15. ويعود الخطاب القصصي إلى الإشارة إلى بنية الجامعة الروتينية والمخالفة للوائحها نفسها، وإلى أجوائها الكابوسيّة التي تدفع طلابها إلى النفور منها، باعتبارها فضاء للإحباط واليأس من جهة، وفضاء لقتل طموح طلابها من جهة أخرى، حيث يصبح فضاؤها فضاء طاردا ومنفرا، وكاويا حارقا من جهة، ورطبا دبقا من جهة أخرى، أي فضاء كابوسياً خانقاً للأحلام والمنى، ومعاديا لما يطرحه من شعارات تحضّ على تحصيل العلم والمعرفة.. والمقطع السردي التالي يشير إلى ما ذكرناه: (أثناء خروجه (أي خروج علي) كان يجول ببصره في الممرات، إذ تعلوها أوراق تشي بعبارات مائية.. لم يعرها كثيرا من الاهتمام.. فالكثير ممّا يكتب كما يظنّ لا يقرأ.. وإن قرئ لا يطبق.. ثمّة رطوبة فادحة شكّلت قتامة على نظارته، أزاحها بذؤابة عمامته.. الحرارة العالية والرطبة الدبقة تنشرها مدينة جدة بكرم فيّاض). ص 14.

وتنتهي القصة ليخالف الموظف القوانين، وبدلا من أن يسجّل (عليا) في قسم الطبّ أو الهندسة فإنه يحيله إلى قسم لا يرغب بدراسته وهو قسم العلوم، وفي هذا القسم ينطفئ وهج علي المعرفي، وحلمه، ويتراجع معرفيا، ويتعثّر في دراسته، ويفشل فشلا ذريعاً فيها، ولا يتخرّج في هذا القسم، بل ظلّ الفشل يلاحقه كل سنة، إضافة إلى سخرية مرّة جارحة تلاحقه من معارفه، الذين يستنفرونها ضدّه كلما شاهدوه: (وأربع سنوات وهو يتغصص بمواد لا يرغبها.. أكثر ما يوجعه سؤال بريء يطرحه الناس متى تتخرج يا ذكي). ص 15.

وفي ظلّ هذا الفضاء الجامعي الأسود والمحبط لن يتخرج علي، بل سيزداد نفورا من الدراسة ومقاعدها، ومن أروقة الجامعة الحارة والخانقة والموحشة، والرطبة والدبقة في آن، بل سيلجأ للبحث عن وظيفة بسيطة تسدّ أبسط حاجاته المعيشية، ويجدها، ويقبل بها، كمعادل موضوعي بديل من خيبته في الحصول على الشهادة الجامعية، وتنتهي القصة بخطاب ساخر من الوظيفة نفسها، ومن مديره في الوظيفة، هذا المدير الذي كان زميلا لعلي أيام الدراسة الأولى، وكان أكسل الطلاب معرفيا، وتحصيلا علميا، وها هو الآن يصبح مديراً له، وما كان من (علي) المتفوّق إلا أن يرضى بأوامر هذا المدير الجاهل، وهذا أصعب عليه من فشله في دراسته. تقول القصة: (صباح يوم كان يسير باهتزاز في ممر بارد، وبين يديه ملفات خضراء.. وضعها بإحكام في أدراج حديدية.. وانعطف بعدها نحو صوت يتسرب من بين مسافات باب خشبي مصقول.. يوجد بداخله موظف يعرفه تماما). ص 15.

إن هذه الخيبة العامة في فضاءات الشخصية المركزيّة (علي): فضاءات الجامعة، والوظيفـــة الحكوميـــة، وفضاءات اليأس والهزيمة التي أصابته على المستوى النفسي، وعلى المستوى الاجتماعي من خلال سخرية الناس به، لهي في نهاية المطاف تجسّد الخيبة العامة التي تحاصر المواطن العربي أنّى كان، وكيفما كان، وفي أي موقع مؤسساتي كان، وفي حلّه وترحاله، وأفقه التخيلي والواقعي في الآن نفسه.

قراءة: د. محمد عبدالرحمن يونس
قاص وروائي وباحث وأستاذ جامعي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد