مدينة عنيزة اليوم تتجه وبقوة نحو تنمية مواردها السياحة بعد أن استوعبت الدرس القاسي والمؤلم بفقدان حي الخريزة والجامع العتيق وغيره من الشواهد المادية التراثية وكان ذلك بسبب قلة الوعي بموارد التراث وأهميته من قبل البلديات والمسؤولين عن التخطيط العمراني للمدينة في ذلك الوقت المبكر من التنمية. وعلى الرغم من ذلك استمرت محافظة عنيزة بخلق نوع من التوازن بين الحداثة التي اكتسحت كل شي والتقليدية الحاضن للمخزون الثقافي المادي والمعنوي لذاكرة عنيزة وعملت ولازالت تعمل بجد منذ سنوات بتنمية مواردها التراثية بشقيه المادي والمعنوي.
لاشك أن كل عمل وجهد مبذول تشكر عليه المحافظة والبلدية نحو تفعيل السياحة وتنمية الموارد التراثية ولكن فات على بلدية عنيزة توجيه الاهتمام نحو أعظم ريف يتوسط مدينة في الجزيرة العربية ويعود تاريخه في حدود علمي إلى القرن الثامن الهجري وأعني به فلايح الجناح التي تعد مفخرة لتاريخ عنيزة الفلاحي.
صحيح أن الجناح قد خرج من دائرة التدمير التنموي بفعل نظامه القائم على الصبرة الذي يتيح تأجير الأرض الفلاحية لسنوات طويلة تصل في بعض مزارعها إلى أكثر من خمس مئة عام مما جعلها ضمن أملاك الناس الخاصة والتي لم تستطع الآلة التدميرية الوصول إليه وما زالت هذه الفلايح والحقول تنعم بجمالها تحت ظلال نخيلها الوارف وقال عنها الرحالة الانجليزي داوتي حينما عاش بها عام 1878م وقال عنها: إنها - الجناح - أجمل مكان في العالم يقضي فيه الإنسان وقتاً مع نفسه. وقال أيضا: إن مزارع الجناح أجمل ما في الجزيرة العربية.
لقد أصبح نخيل الجناح والفاخرية والعقيلية ومريبدة اليوم أعظم ريف في المملكة العربية السعودية يتوسط مدينة وكنت أتوقع أن تحافظ البلدية على هذا الإرث المادي والذي يعد واحداً من أهم موارد التراث العنيزي خاصة إذا علمنا أن الجناح كان ولازال سلة غذاء وله الفضل بعد الله بإنقاذ المدينة قبل مراحل النفط من الفقر والجوع لقرون عدة، ويعد أثرياً أحد أهم ما بقي لنا من آثار الاستيطان البشري الشاخص ولكن كل هذا التاريخ والجغرافيا لرئة عنيزة لم يغفر لها لتكافئ اليوم بتمزيق وصال هذه المناطق المصنعة وتدميرها بالخطوط الإسفلتية السريعة وتحويلها إلى مقابر وكل ذلك قد حدث حينما استباحت بلدية المدينة نظام الصبرة تمهيداً للقضاء على أعظم إرث نجدي فلاحي من أجل خط إسفلتي ويبدو أن الأمر آخذ بالاتساع والآلة التدميرية تقف اليوم وتغازل فلايح الفاخرية والعقيلية تمهيداً لتدميرها لتكتمل فصول مسرحية تدمير إرث مدينة وذاكرتها في آن واحد ليعيدوا لنا درس الخريزة والجامع العتيق من جديد مما يجعلنا نستفسر من بلدية عنيزة عن حجم وعيهم بمقدرات المدينة في هذا الجانب؟
إن الحاجة الماسة إلى تطوير هذا القطاع الفلاحي كمورد هام لتسويق التراث المادي والشفوي لا يستقيم بفقدانها وإنما بتنميتها (الجناح - الفاخرية - العقيلية - مريبدة - الروغاني...) بحيث يمكن تأهيلها وتحويلها إلى استراحات ريفية ومتاحف مفتوحة ومواقع لتسويق الإنتاج الفلاحي سواء للتمور أو الخضروات خاصة في المهرجانات مما يجعل الإنسان هدفاً إستراتيجياً في هذه البيئة فهو المستهدف بالانتفاع وليست المركبة وإذا استمر الحال لاشك أن عنيزة ستغني عما قريب قفا نبكي ضاع الجناح.
د. أحمد بن محمد العبودي
كلية السياحة والآثار - جامعة الملك سعود
Alabodi1383@yahoo.com