Al Jazirah NewsPaper Sunday  25/07/2010 G Issue 13814
الأحد 13 شعبان 1431   العدد  13814
 

التجربة الشعرية بين النضوج والنضوب
مشعل الفوازي

 

تعتبر القصيدة كائن حي... وطالما أنها كذلك فهي معرضة لكل ما يمكن أن يتعرض له أي كائن حي آخر، من ربكة في البدايات ومن ثم تطور، ونضج، واستمرارية أو موت، لأسباب مختلفة تتعثر بدايات الشاعر، كما كانت تتعثر خطواته في بداية محاولته للمشي، لكن الشاعر الحقيقي يتجاوز هذه المرحلة في نهاية الأمر.

كان الشاب القرشي عمر بن أبي ربيعة، يتيه في ريعان الصبا، والنضارة، والثراء، وكان لأسرته وقبيلته زمام السلطة، والشرف، والرئاسة، لكن العرب لم تكن تعترف لها بالشعر، ومن هنا بدأت محاولات هذا الشاب الأرستقراطي، ليكمل أمجاد قبيلته، ويسد هذه الثغرة، وكانت محاولاته الشعرية تقابل بالسخرية والاستهزاء من الشعراء، وكان جرير يقول إذا سمعها: هذا شعر تهامي، إذا أنجد وجد البرد. لكن ذلك لم يفُت بعضِد الفتى الطامح لكتابة مجد جديد، واستمر في محاولاته إلى أن كتب قصيدته الرائية الشهيرة، التي قال جرير عندما سمعها معترفا له: (ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر)!

وبالفعل، سجل التاريخ ميلاد شاعر من أعظم شعراء العربية، اسم خالد في الطبقة الأولى من شعراء اللغة العربية، حُفِظ له أنه أول من كتب قصيدة مكتملة في غرض الغزل، بعد أن كان هذا الغرض، يأتي ضمن قصيدة ذات أغراض أخرى ويعتقد بعض الناس خطأ، أن للشاعر مرحلة زمنية لابد أن يتوقف عندها، ولا يستطيع بعدها أن يكتب الشعر، ويدللون على ذلك بحالات معينة.

والواقع أن التوقف عائد للشاعر وليس للشعر، بمعنى أن الشخص ذاته إن لم يستمر في تطوير قدراته، وتوسيع مداركه، ومصادر تلقيه، فمن الطبيعي أن يتوقف كشخص عن التلقي المفيد، وبالتالي يتوقف كشاعر عن العطاء، إذ ليس للسن أي تأثير سلبي في كتابة القصيدة، بل بالعكس فهو تأثير إيجابي فيما يتعلق بعامل الخبرة، والمراس، وتطور التجربة، ولدينا أمثلة كثيرة لشعراء بلغوا مراحل متقدمة من العمر، وهم في كامل لياقتهم الشعرية، ولعل كل من يهتم بالشعر، قد قرأ معلقة زهير بن أبي سُلمى التي يقول فيها:

سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أباً لك يسأمِ

وفي هذا دلالة على أنه كتب هذه القصيدة / المعلقة، بعد أن تخطى سن الثمانين. ومن الشعراء من تبدأ علاقته بالشعر في مرحلة متأخرة إلى حد كبير، كالشاعر زياد بن معاوية الذبياني والمعروف بلقبه (النابغة الذبياني)، وقد أطلق عليه هذا اللقب، لأنه لم يعرف دروب الشعر إلا بعد أن تجاوز الأربعين من العمر.

إذا، فاستمرارية الشاعر من عدمها، تعود له، وعليه أن يدرك نقطة هامة جدا، وهي أن يضع في حسبانه أنه في رحلة مستمرة لصعود مرتفع، وأن المسافة كلما قطعها، تزيد ولا تنقص، وأن يكيف نفسه مع هذه الحقيقة، لتتكون بداخله رغبة مستمرة، وملحة، بالتميز، والتحدي مع الذات أولا قبل أن يكون مع الآخرين، وأن يشعر أنه لم يقدم ما يجب، أو يفترض منه، لأن الشاعر إذا وصل إلى مرحلة الطمأنينة بما يقدم فقد كتب السطر الأخير في تجربته، وقديما قال أحد الحكماء: ويل للشاعر المطمئن. ومع ذلك هناك الكثير من الغيابات الشعرية لأسباب متعددة، وكما يقال تعددت الأسباب والتوقف واحد، ولو أردنا أن نناقش بعض الأسباب التي تؤدي للقطيعة والفراق النهائي بين الشاعر وقصيدته، لوجدنا أن من بين هذه الأسباب ما يلي:

1- عدم تطوير الذات، وبالتالي توقف التجربة في محطة معينة من العمر، وهو ما يسمى بالنضوب الشعري.

2- الإحباط الذي يصيب البعض، وعدم الإيمان بأهمية القصيدة، خاصة في هذا الزمن الاستهلاكي.

3- استمرار القصائد المتداولة على رتم واحد من ناحية الغرض، واللغة، وتقنيات الطرح بشكل عام، مما يؤدي للملل من هذا الجو الجامد على الرغم من حراكه المستمر في نطاق ضيق جدا.

4- عدم وجود البيئة الصحية الملائمة والمشجعة للتحليق شعرا.

5- التشبع من الأضواء.

وهنا، وانطلاقا من فرضية التشبع من الأضواء أجدها فرصة للحديث عن بعض الأسماء التي تمر في الساحة الشعرية الشعبية وتأخذ مكان الصدارة وتتوقف بعد ذلك، وهذا طبيعي من وجهة نظري، لأني أقيس استمرارية الشاعر الشعبي أو توقفه من خلال بعده أو قربه من الأضواء، فالشعراء الشعبيون على قسمين في هذا الموضوع، فمن كان خارج الساحة الشعبية بمنظومتها الإعلامية ومناشطها المتعددة، تجد أنه يكتب قصيدته بهدوء، وباستمرارية لا تعرف التوقف، أما من كان داخل هذه المنظومة فاستمراريته أو توقفه تعود لمدى قربه من الأضواء والعلاقة عكسية تماما، لذلك ترى أنه من النادر إن تجد شاعرا شعبيا واحدا يكون في بؤرة الضوء ويستمر لأكثر من عشر سنوات، حيثُ يذهب ضحية لمحرقة الضوء.

وعندما ننظر إلى الشعر الشعبي، وفق ثنائية النضوج والنضوب، نجد أن هذا الشعر كان يتخذ مسارا تصاعديا منذ ولادته، وهو في حالة تطور دائم، إلى ما قبل بضع سنوات قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، عندها -من وجهة نظر خاصة- أخذ هذا الشعر مسارا أفقيا، وليس تصاعديا، واحتل مساحات غير مسبوقة، واستقطب في هذه الفترة القصيرة جدا، ما لم يستقطبه في عصوره الماضية، لكن هذه المسافات من الأرض التي يقف عليها، وهذه المجاميع من البشر التي تنضوي تحت لوائه، تظل على حساب الكيفية التي خفتت كثيرا منذ أن تحول المسار من الصعود للأفقية.

مجمل القول هو العودة لما بدأنا به من أن الشعر كائن حي، ومتى ما سُلبت منه كينونة الحياة، وتحول إلى ورد مجفف ومعلب للزينة والاستعراض، فإن الموت المحتم مصيره بلاشك، وعلى الشاعر أن يهيئ لقصيدته سبل الحياة، داخل نفسه أولا، وفي محيطها الذي يجب أن تعيش فيه، بعيدا عن عوامل الموت التي تحاصرها من كل جهة.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد