Al Jazirah NewsPaper Monday  26/07/2010 G Issue 13815
الأثنين 14 شعبان 1431   العدد  13815
 

صبراً جميلاً آل الطيب.. فمصابكم مصابنا
عبدالوهاب طه

 

رحمك الله وغفرلك أبا معتز، فقد أعاد لي رحيلك الفاجع صوراً شتّى من الأشجان والأحزان على راحلين أستعوض الله فيهم أحسن العَوَض، وأسأله سبحانه أن يجمعني بهم في دار هي خير من دارنا، وبين أهل هم خير من أهلنا.

إذ فقدتُ في يوم الأحد 8 رجب 1431هـ والشمس تأذن بمغيب جديد، خالتي الغالية بعد أن كانت لشجرتنا الوارفة الظلال الممتدة الجذور نسخة لا تتكرر من فنار الإسكندرية الشهير يرشد التائهين في الليالي الداجية، ثم أتانا بقضه وقضيضه الأحد 15 رجب فكان ما كان وهل شيء أقسى على قلوبنا من أن تخلو الساحة من نجمك الساطع وضوئك اللامع وحضورك ذي الأثر الماتع؟!

ولئن قيل في الموت قَدماً:

الموت نقّاد على كفه..

جواهر يختار منها الجياد

فقلد كنتَ في تقديري، جوهرة ثمينة، بل كنتَ بين الناس عِقد ماس.

ولأن الدنيا أبا معتز، لها أوجه متباينة بين الشدة والرخاء، وفيها حقائق عديدة يظل الموت أكبرها وآكدها، فقد قال فيه الشاعر (وأحسبه الحطيئة) فأنا أكتب من الذاكرة:

مَن لم يمت عَبطةً يمت هَرٍماً

وللموت كأسٌ، فالمرء شاربها

وكان موتك بين الحاليْن، فلم تك عيطة: أي صبياً لَم يزل غضاً تعوزه التجارب، ولم تكن في المقابل هَرِماً بلغ من العمر عتياً، فمتَّ تنزّلت على قبرك شآبيب رحمة الله، في سنِّ كان رسولنا الكريم يتمنّاها ويلحُّ في طلبها في حال حركته وسكونه ونعلم أنه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الكرام الطيبين، كان يتعوذ من أرذل العمر.

وإذ أنت اليوم في ركاب الراحلين، فإن العَبْرة تكادُ تخنقني فلا أملك مقالاً أعبر به عن مشاعري الدفينة سوى ما قاله عمرو بن معد يكرب الزبيدي:

ذهب الذين أحبهم

وبقيتُ مثل السيف فردا

وهل ترانا إلا عليك حزانى يا سلطان الصناديد، جبهة الجماعة، ويا قلبها النابض، يا من عهدناك كارّاً لا تعرف الفرار، صامداً لا تعترف بالنكوص، جلداً لحادثات الليالي (كما هي وصية جدّك الإمام الشافعي) ومقارعاً لخطوبها لا تلين لك قناة.

أما عن معرفتي إياك، وتتلمذي على يديك نَهلاً وعَللا من كؤوس المهنة التي أفردتُ لها في قلبي مساحة شاسعة من الحب الصادق الصافي، فإن القول يطول، ما يدعوني لأختزل فأقول:

«.... وإن أنسَ فلن أنس تلكم الليلة الشاتية التي لامست فيها قدماي ولأول مرة أرض الرياض الفيحاء في التاسع والعشرين من صفر 1399هـ لألتقي في اليوم التالي ثلاثة من فرسان اللغة والعلم النافع هم: محمد عبدالجواد «فلسطيني/ أردني»، عبدالهادي الطيب «فلسطيني من قطاع غزة»، محمد الغريب ناصر «مصري»، الأول والثاني كانا يعملان متعاونين في الفترة المسائية، فيما يمارسان مهنة التدريس للمرحلة الابتدائية، صباحاً، وأما الثالث، فكان قدومه إلى الرياض في أعقاب تجربة له قضاها في التدريس بين حواضر اليمن السعيد وبواديه، وأتممتُ بانضمامي إلى هؤلاء الثلاثة رابع الأركان التي منها انطلق العمل جاداً وحثيثاً يقوده حادي المسيرة الماهر أبو بشار بغية استكمال «مداميك قسم التصحيح» إذا صح التعبير، استشرافاً لغاية سامية رسم الخطة المحكمة لتحقيقها، فتوالى على القسم آنذاك (80-81م) سعيد غالب الشيباني (من اليمن، إبراهيم الدسوقي توفيق (من مصر)، والطيب عبدالله (من السودان)، ثم عُزز جمعنا بأساتذة متعاونين كان أبرزهم: نزار بشير، شمس الدين درمش، حمودة زلوم، أسامة السيد، وعدنان نقشبندي. وكان جلَّ هؤلاء من أفذاذ العلم والأدب.

ثم أقدم الشاب وقتذاك «عبدالباسط شاطرابي» الذي أثبت مقدرة فائقة في التدقيق اللغوي مشفوعة بسرعة في الأداء، ما دعا الراحل إلى اختياره نائباً له، وقد آل إلى هذا الأخير أمر «رئاسة التصحيح» لاحقاً، قبل أن تتبدل الحال في أعقاب ارتحال «الجزيرة» إلى مبناها الراهن، حيث أعاده - رحمه الله- «أبو بشار» إبان عودته مجدداً لقيادة دفة الجزيرة ليتولى رئاسة التصحيح في «المسائية» فلبى النداء الكريم حتى إذا توقف ركض المسائية أشار إليه أبو بشار بأن يتولى تحرير صفحة الرأي فسيرها بمهنية عالية المستوى حتى رست بجهده الخارق وبعون الله على شاطئ الأمان، ثم ولاّه أمر الإشراف على صفحتي وجهات نظر فختم بهما حياته العملية الفاعلة. وحالياً يقود قسم التصحيح بحنكة الرواد واقتدارهم أحد خريجي مدرسة الراحل المقيم، عوض الله أحمد النعيم أعانه الله وزملاءه وسدد خطاهم.

ومما لا أزال أذكره للفقيد العزيز مرتبطاً بالسنوات الأولى لعملي في التصحيح زاويته الخفيفة الظل «صور مقلوبة» وكفى باسمها معبّراً عنها، وقد افتنَّ المخرجون في إبرازها على صدر الصفحة بما يشبه شخصياً يقف منتصباً وهو يتأمل ظله المنعكس أمامه على صفحة ماء ساكن، وله- رحمه الله-، كتاب يتيم بعنوان (الصحافة واللقافة) جمع فيه باقة مختارة من طرائف التصحيح وملحه،كما لم يخل الكتاب إياه من بعض الحكايا الإنسانية المشوقة الجالبة للمتعة والراحة النفسية وقد أهداني- رحمه الله- وبعض الإخوة الزملاء نسخاً من ذلك الكتاب حيث لا أزال أحتفظ بنسختي وأحافظ عليها لذكرى عطرة، ولا أنسى للراحل ولعه الطاغي وحبه للاحتفاظ بروائع الشعر والحكم والأقوال المأثورة.. ومن مواقفه المشهورة قدرته الفائقة على حلحلة صعوبات العمل ومشكلاته، ومن ذلك أن الإعلانات كانت في مطالع الثمانينيات الميلادية على قدر من الكثافة ربما تصور معه أحدنا أنها لن تنجز إلا على حساب المواد اليومية للجريدة، فدون إنجازها كما يقولون: (خرط القتاد)، وهنا يأتي دور أبي معتز الذي ينبري للموقف فيعمد إلى تقسيم ذلك الكم من لإعلانات مهما كان هائلاً، يقسمه بين المصححين على قلتهم إذ ذاك فيتولون تصحيحها وفق آلية أرشدهم إليها بحيث يتم التركيز على اسم المعلن ورقم وثيقته وتاريخها والمرور العابر لما هو في حكم الإنشاء من نص الإعلان، ويمضي زهاء الساعة أو يزيد قليلاً نكون قد أتينا على ذلك الكم العصي وتحولنا إلى غيره من عمل الليلة أو مواد التقديم.وقرأت ما كتبه حول سيرتك الحميدة، نجلك الذي له من اسمه نصيب (أمجد) ذلك الذي كان يغشاك في المكتب إذ هو يافع برفقة أخيه الشقيق الأكبر، فكنا لا نسمع له صوتاً وهو يخاطبك لفرط حيائه - حفظه الله - أقول قرأت ما كتبه أمجد فأغادني، لطفاً وتفضلاً، إلى الزمن الجميل النبيل، لثلاثة عقود من الزمان حفلت ذكرياتها بالنقيضين (من صاب ومن عسل) وذكرت أوقات فراغنا تلك القليلة حيث كنا نستمع إليك وفي يد أحدنا إما (ساندوتشاً) أو كوب شاي وأنت تحكي لنا بين آن وآن عن بداياتك الأولى في سلك التدريس، وكيف وقع اختيارهم عليك لتعمل في تلك المناطق القصية من تراب المملكة الطاهر، نعم، لقد كانت لك قصة طويلة من الحب والعرفان مع أهل الباحة وبلجرشي الذين بادلوك حباً بحب وعرفاناً بعرفان، إذ خبروك علماً وأنت لما تزل دون العشرين من العمر.

ثم افترقنا لبضع سنين عمل خلالها- رحمه الله- مشرفاً على مجلة الجيل (لسان حال الشباب بالمملكة) وبقيت في (الجزيرة) التي يشاء الله أن أفارقها ويعود أدراجه إليها (أبو معتز) لألتقيه قبل ثلاث سنوات أو نحوها معزياً في وفاة ابنه (معتز) وكنت إذ ذاك في حال لا توصف من الأسى المرير أغالب نفسي وتغالبني، فيما الراحل وقد بدا صوته لحظتها خافتاً هدّه الداء العياء وأضعف نبراته، بعد قوة، إرادة النفس الطموحة ونضال القلب الكبير، وكأنه الذي يعزيني، ثم لا يلبث فيسألني مستوضحاً؟

كيف صحتك؟ وماذا عن أولادك وإلى أين وصلوا من المراحل الدراسية؟ وأين تعمل الآن؟ وهل تجد راحتك في عملك الجديد.. إلخ مما يعدُّ لعمري فهماً حقيقياً لمعنى الحياة والممات.

وختاماً: طبت أبا معتز وطاب مقامك حياً وميتاً، وبارك الله في زوجك المكلومة الصابرة، وبنيك الأخيار المحتسبين، وفي عقبك البررة الكرام وسائر أهلك في غزة الصامدة والرياض المجاهدة، وليس لي في هذا المقام المهيب غير الدعاء لنا ولك: (اللهم ثبّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، (اللهمّ أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) وارحم اللهمّ فقيدنا العزيز واجعل الجنة هي داره، واجعلنا من الصابرين في الضرّاء الشاكرين في السرّاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الرياض

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد