Friday  12/11/2010 Issue 13924

الجمعة 06 ذو الحجة 1431  العدد  13924

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

           

قال أبو عبدالرحمن: وأما المسألة الثانية: عن كون النبيِّ يُرسَل إلى قومه خاصة كما ورد بذلك النص الشرعي الصحيح، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل الثَّقلين، واستشكال ذلك بأن موسى عليه السلام أُرسل إلى فرعون وقومه من بني إسرائيل، وأن اليهودية والنصرانية قبلتا أقواماً ليسوا من بني إسرائيل، فبيانه من وجوه:

*؛ فأهل القرية هم قوم النبي وإن لم يتَّحدوا نسباً، وبهذا كان كل نبي مرسلاً إلى قومه خاصة.

*، ولم تكن الأرض المقدسة أرضاً لأهل الكتاب قبل ذلك، وإنما هو وعد من الله لهم، وكان لهم فيها أدنى القبلتين حتى نسخ الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هذه القبلة إلى قبلة بها أول بيت وضع للناس.

*.

والوجه الرابع: إذا كان النبي في قومه عرقاً، وقد ساكنهم في أرضهم مَن ليس منهم فهم من قومه، والدعوة شاملة لهم؛ لأنهم بالمواطنة قوم له، وسنة الله الشرعية ألا يُبقي من كفر بالله بإطلاق، بل واجب جهاده إن كان الله أمضى بقدره الكوني أن جعل للرسول قدرة على الجهاد، وقد يتولى الله إهلاك الكافرين بلا جهد بشري كما فعل بقوم فرعون.

الوجه الخامس: أنه لا يؤثر أن رسولاً أو نبياً أُرسل لأهل الأرض كافة، وأما الجن فإنما نعلم أنهم اتبعوا كتاب موسى عليه السلام، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله إليهم كافة، ولا نقول على الله إلا بعلم، ولا نتجاوز ما ليس لنا به علم.. ونعلم أن من كان في أرض القوم من غير نسبهم فهو منهم، ونعلم أن الرسول إذا بغى عليه من جيرانه أو الأباعد وهو في مَنَعَة من قومه فعليه جهادهم لحماية قومه ووطنه، وتدخل دعوته إلى الله ضمناً؛ فيكونون من قومه، ولا يلزمهم الدعوة إن فروا عنه وكفُّوا.

والوجه السادس: أن الذين تهوَّدوا أو تنصَّروا من غير بني إسرائيل إما مواطنون في حياة النبي عليه السلام، فهم من قومه، وإما أمم آمنت بدينه بعد أن توفاه الله إليه، فهؤلاء اختاروا دينه، ومن وفد إليهم ممن ليس له كتاب فيدعونه ويقبلونه إذا دخل دينهم؛ لأن دينه حق لم ينسخ بَعْدُ.. ومرَّ أخذ الله الميثاق على كل نبي أن يؤمن بمن جاء بعده من نبي وينصره، وهكذا آمن لوط بإبراهيم ونصره عليهما الصلاة والسلام، ولا ندري هل للوط عليه السلام شريعة غير شريعة إبراهيم، ولا ندري هل كانت نبوة لوط عليه السلام قبل مناصرته لإبراهيم عليه السلام أو بعدها وإن كان الراجح أنها بعد ذلك عندما قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}.. وأما بعد أن توفى الله الرسل فالصواب أن من تنصَّر أهدى ممن تهوَّد؛ لأن اليهودية نسخت، ولأن النصرانية باقية قبل التحريف وبعده عند الحواريين على الصفاء، ثم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل غير الإسلام.

*، ومن ذرية إبراهيم موسى وعيسى عليهما السلام، وهما ومن اتبعهما مسلمون وإن كانت تسمية أتباعهما باليهود والنصارى، وإن كانت قبلتهم غير قبلتنا وقبلة مَن قبلهم من الأنبياء عليهم السلام؛ لأن ذلك شريعة لا ملة، والشريعة تنسخ، ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله قبل النسخ وبعده، وهكذا من أخطأ قبلته بعد أن يتحرَّاها باجتهاده.. والمحقق عندي أن دعاء الخليل وابنه الذبيح عليهما السلام في قولهما كما قص الله عنهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} *سورة البقرة / 129* كان دعاء لذرية إسماعيل؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل، ولم يُبعث من ذريته غير محمد صلى الله عليهم وسلم، ودعاؤهما مشترك، ودعاؤهما عن رسول واحد، وفي دعائهما إشارة إلى أمية قومه وأنهم ليس لهم كتاب، وأنهم بحاجة إلى رسول يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى مخاطباً أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} *سورة الحج / 78*؛ فحقق الله له وجود مَن سماهم مسلمين؛ ولهذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أول مسلم من أمته المُسمَّين المسلمين، وكان المسلمون أولى بإبراهيم عليه السلام؛ لأن الله استبقى لأمته أشياء من شريعته، وإسماعيل عليه الصلاة والسلام على شريعة أبيه عليهما السلام، ولكنها زالت على الصفاء بعد انتشار الأوثان، وكون العرب أميين لا يأثرون كتاباً؛ لهذا صدق عليهم في الفترة قوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} *سورة سبأ/ 44*، وقوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ{6} لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} *سورة يس/ 6 - 7*، وهم غير مطالبين بالشريعة والإيمان تفصيلاً؛ لأنه لم ينزل عليهم الكتاب بعد، ولكنهم محاسبون على الإيمان بالله إجمالاً على وحدانية التقديس والكمال، وابتغاء ما في الأديان القائمة على شرط التقديس والكمال، وأول ما في إرث المسلمين لإبراهيم اتباعُ قبلته، وإرثهم شريعته في المناسك كما قص الله عنه، والكعبة قبلة الأنبياء كافة قبل موسى عليه السلام.. قال {قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{95} إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} *سورة آل عمران/ 95 - 97* وبقيت القبلة إلى بيت المقدس أحد المساجد الثلاثة المقدَّسة من عهد موسى إلى أول هجرة محمد صلى الله عليهما وسلم؛ إذ صرفت بمسجد قباء تحقيقاً لحنين عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام.. قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} *سورة البقرة/ 144* ويدلك على أن القبلة شريعة الأنبياء عليهم السلام أن الله أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت ورفع قواعده لا بإحداث البيت الذي هو قبلة.. قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{125} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{126} وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} *سورة البقرة/125 - 127* ومما ذكره الله من شريعة إبراهيم التي نحن عليها ما ورد في سورة الحج وآخر سورة النجم وآخر سورة الأعلى، وما ورد في الأحاديث الصحيحة من سنن الفطرة.

وأما قولهم: ((إن المسلمين افترقوا في العقيدة الإيمانية، وتصدَّى بعض الخلفاء لفرض وحماية أفكار اعتزالية))؛ فهذا حق، وهو لم يوجد عند السلف مِن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، ولم يوجد عند الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم رضي الله عنهم، ولم يتَّبع المسلمون وعلماؤهم إكراه المأمون، بل أطاعوه في المعروف، وعصوه في المنكر، وصبروا على القتل والأذى، ولم يَدْعُ الإمام أحمد رضي الله عنه - وقد صبر على الضرب والأذى - على المأمون، ولم يخرج عليه، وقال: (لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان)، وهذا برهان قاطع على عصمة عَلَن المسلمين، وفجور العَلَن عند غيرهم الآن.. وهذا التفرُّقُ لم ينشأ منهم أنفسِهم، بل كان الثمرة القبيحة لما زرعه أهل الكتاب، وفي طليعتهم يهود، وزنادقة الأمم المغلوبة، وكل ذلك عمل ظلامي، وأنتم تعرفون لبيد بن الأعصم، وميراث الجعد بن درهم، وعبدالله بن سبأ ورفاقه لعنهم الله، وفضائح الباطنية وإخوان الصفا (بل الكدر).. ثم إن افتراق أهل القبلة - ولا يكفَّر أحد منهم مات على ضلالة إلا الباطنية والجهمية - إلى فرق، وأنوثَتهم بالغفلة عن الكيد الظلامي، وبُعْدَهم عما أمروا به في سورة التوبة مِن اتِّباع السلف، ضاعفَ عليهم العقوبات الدنيوية حتى صرنا إلى ما صرنا إليه اليوم، وأصحاب الجمهور من غثاء السيل ذوو طُرُقٍ جعلوا المساجِدَ معاهد وملاعب للوثنية.. وهكذا ما ذكروه عن الحكام من تجاوزات، ولكنهم لم يفصلوا الدين عن الدولة، ولم يستبدلوا الإسلام بدستور آخر، ولم يحملوا الأمة على ما يوجب الخلاف بينهم؛ وإنما حصل بينهم بغي بقتال بعضهم بعضاً طمعاً في الحُكْم، وهذا من عقوبات الله في التفرق.. ووجد الضلال المبين عند الباطنية، وكفى بنماذجهم قُبْحاً المعز لدين الله الفاطمي - وكذب وخسئِ ما أعز الدين، والملتقى عند الله - الذي ادعى الأُلوهية، وأبو سعيد النجس القرمطي الذي قتل ثلاثين ألفاً في زمزم، وشهر سيفه على الكعبة يقول: (أنا بالله، وبالله أنا.. تخلق الخلق وأفنيهم أنا)، وأخذ الحجر الأسود عشرين عاماً.. ومثله رفاقه كالجنابي الأعصم وعموم الفاطميين الذين أباحوا (قبحهم الله) الأمَّ والأخت والصبي.. وهؤلاء قادة العمل الظلامي، وليسوا مسلمين ولا كرامة.. ووجدت دويلات التجزئة التي أعانت على الدولة العباسية ولم تُعِنْها؛ فكانت وبالاً على المسلمين، ومنهم من ليس على نحلتنا، وها هو سيف الدولة تجده أدبيَّاً من جرَّاء شعر المتنبي الباطني كأنه واحد من الصحابة رضي الله عنهم، وسيرته تاريخياً يندى لها الجبين؛ لكثرة مظالمه وإن كان له يد في إحياء الأدب العربي وعلومه، ومدحوه بكثرة إغاراته على الروم ولم يكسب شبراً واحداً للرقعة، بل زاد الرومَ احتياطاً وتكتُّلاً واستعداداً، وهو مثل المنصور بن أبي عامر الممدوح بكثرة إغاراته التي هي مجرد نهب وفرار، وهو أولُّ إذلالٍ وتفرقة للدولة الأموية العربية المسلمة؛ فكان ذلك تمهيداً لدويلات ملوك الطوائف قبحهم الله تعالى، وكان سبباً لتخطيط الروم واستعدادهم وتجمُّعهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، واصطادوا ملوك الطوائف واحداً بعد واحد كاصطياد الفراخ من عُشِّها؛ فسقطت الأندلس، ومُسِحت حدود رقعتها من خارطة العالم العربي، ولم يبق فيها من يقول: (الله الله) مع أن ثلث مراجعنا من عندهم، وبقي المورسكيون متكتِّمين على دينهم الإسلامي، وحلَّت الكارثة بالمشرق بالباطنية الذين استقدموا التتار، وأشفق المسلمون على زوالهم وزوال دينهم لولا وعد الله بحفظه وأن المسلمين لا يطول عذابهم؛ فنصرهم الله على يد ابن قلاوون، وكان للإمام ابن تيمية الذي يبغضونه - رحمه الله تعالى - يدٌ في جمع الصف، وإنهاض هِمَّة المسلمين، وتوحيد العرب الذين عادوا إلى جاهلية النهب والسلب وكان هذا المجد مما جعله الله على يد آل فضل الكرام؛ فكان حسام الدين بن مهنا رضي الله عنه ذا اليد الطولى في حرب التتار، ولم يُعْطَ حقَّه تاريخياً، ثم وَحَّد الله المسلمين على خلافة آل عثمان، ولم يكد لهم غير الصفويين خذلهم الله، وهم الذين استنهضوا البرتغاليين في هيضتهم وأعانوهم؛ فلما انتشر في الخلافة العثمانية الجهلُ والبدع والخرافات والظلم والعنصرية خذلهم الله أمام عدوهم، وهذه سُنّة الله في عقوباته الجزئية لمن أبقاهم من الملل الثلاث.. ثم توالى الضلال المدلَهِمُّ في العالم العربي والإسلامي بفصل الدين عن الحياة والدولة الذي استعاروه من أهل الكتاب بإكراهٍ منهم أو ضغوط تحتها وعيد حول الكرسي.

وأما العمل الظلامي المندسُّ في عتمات بلاد المسلمين كالذي كشفه أبو حامد الغزَّالي - رحمه الله تعالى - في فضائح الباطنية فقد أسلفت لكم مصادره، وأن المسلمين بالرَّصَد، وأن المسلمين عرفوا بعض أهله، وعرفوا بعضَ كيفيةِ التدبير الظلامي.. وَمَنْ لم يعرفوه باسمه، وما لم يعرفوا كيفية تدبيره فهم يعلمون علم اليقين أنه كيد خفي؛ لأنه خلاف دينهم، ولأنه سِرِّي، ولأنه من جنس ما اكتشفوه.. وأما أن الحركيين من المسلمين قاموا بعمليات إرهابية فاجعة، وباستباحة العمليات الانتحارية التي يرى المسلمون أنها غير مباحة: فذلك حقيقة تاريخية لا ننكر وقوعها، وهي تُؤلم كل سلفي، وهي في الجملة مُستعارة من سلوك أهل الكتاب، وهي ثانيةً آتية من جهل بالدين مهما تشدَّقوا بأنهم أعلم الناس بالدين، وهي ثالثة وليدة ظلم فادح أوقعه أهل الكتاب بأمتنا وديارنا ومواردنا وحرياتنا الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية مع عجزنا عسكريَّاً عن المواجهة؛ فكان ذلك العمل الحركي عملاً صبيانياً، وإضراراً بالمسلمين لا حدَّ له؛ فَقُتِل الأبرياء، وأُبِيدت مرافق المسلمين وهي بالمليارات، ولم تُزحزح العدوَّ شبراً بل زادته ضراوة، وهم غير محروسين ولا معصومين من اندساس عميل بينهم أو منهم، وكثير بسبب الفقر أو حبِّ الشهرة والأتباع باع دنياه بآخرته وكان عميلاً أجيراً مثل مَن ابتلاه الله بعد المباهلة حسن شحاتة، ومثل أوزون، ومثل صالح الورداني.. وأعظم آفةٍ الجهلُ بدين الله؛ للبعد عن السلفيَّة مع التشُّدق بفهم الدين، وأهم عناصر هذا الجهل عنصران قبيحان جداً:

أولهما: عدم تفريقهم بين نسخ الحكم وتغيُّر الواقعة؛ فحكم الله في الجهاد باق لم ينسخ، ولكن يسقط عنا حُكْم ما لم ينسخ إذا كنا في واقعةٍ غير قادرين فيها على الجهاد، والله لم يجعل علينا في الدين من حرج، ونهانا عن التهلكة، وما ألقى بنفسه إلى التهلكة مَنْ شق الصفوف وحده إذا التحم القتال ليُرهب العدو، وليحصل على الشهادة.. بل من الكبائر فرار المسلم من الزحف، وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.

وثانيهما: مشابهة يهود في استباحة الوسيلة المحرَّمة لغاية يدَّعون أنها شريفة؛ فهذا الظلم الذي يقوم به بعض الحركيين بفعل صبياني محرَّم شرعاً، وقد ألَّب العالَم على المسلمين باسم الإرهاب.. كما أنهم قبلوا الوشب في دينهم لا بمثل قبول فِرَق الطرق بل هادنوا وحالفوا فرقة من الباطنية وهم أشد عداوة للإسلام وأهله من يهود، ومن نوَّر الله بصيرته خلال التضليل الإعلامي وجد هؤلاء هم خُدَّام الظلم الفادح من كل ملة حاربتنا وظلمتنا أناسيَّ ودياراً ومواردَ وحرياتٍ مشروعة.. وفي هذا الخليط من الوشب أحدثوا مقولة سافلة، وهي (ضرورة وحدة الصف قبل وحدة الهدف) معاكسةً لقول عبدالناصر: (وحدة الهدف قبل وحدة الصف)؛ فأما مقولة عبدالناصر فهي خاطئة في ظرف استعمالها؛ لأنه جاء وفي الرقعة خير كثير من عرب أصلاء، وعرب بالتربية التاريخية، وكلهم على ملة الإسلام.. وفيهم طائفيون ومليون؛ فكان التعاون مع الأوَّلين الأخيار بداية اتحاد الهدف، وأما مقولة الحركيين فباطلة بإطلاق، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بمشرك.. ولن تُنْصَرَ أمَّتُنا بتميُّز العُدَّة الحربيَّة، ولا بالكثرة - مع أن العالم الإسلامي اليوم من أكثر الأمم -؛ وإنما نصرنا بالله ثم باتِّحاد الهدف الذي يتَّحد عليه الصف (وقد مرت رسالة عمر لأبي عبيدة رضي الله عنهما في مصابرة الروم وهم أربعمئة ألف مقاتل، والمسلمون أقل من العُشر، وإن في الرسالة لعبرة، وإن في انتصار المسلمين في ذلك المأزق اليقينُ بتحقُّق وعد الله على شرعه)، ولن تكون وحدة الهدف مجدية إلا على ما يرضاه ربنا من صفاء الدين (السلفية)، وسلامة السلوك، وتكوين المجتمع، وصدق وجود اليقين في القلوب بتحقُّق وعد الله على شرطه، ولنا سعة في تغيير ما بنا بالدعوة فيما بيننا إلى ما عليه السلف رضي الله عنه، وفي تكثير سواد الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها.. وبيدنا اليوم بعد الله المدافعة بحكمة سياسية، والتضحية بالمصلحة الصغرى لمصلحة أكبر أو لدفع مفسدة أكبر، وفرض علينا تكوين أنفسنا بالعلم والوعي بما حولنا، وتحقيق ما نقدر عليه من وسائل العلم النافع الذي يحقق لنا قوة أو ضرورة أو أمراً كمالياً، ثم يتحد الصف تلقائياً، وهذا آت ولا بد بمشيئة الله حسب وعده الشرعي والمسلمون في سرة الأرض العامرة الآهلة، وهي استراتيجية العالم، وهي المورد الطبيعي لصناع الحضارات؛ فإذا اتحد صفهم بعد اتحاد هدفهم فلهم الغلبة على عدوهم بإذن الله.. ذلك يقين لا شك فيه.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده المرسلين.

 

مِن الكفر والإباحية إلى عقوبات العدميَّة: (10 - 10)
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة