Tuesday  16/11/2010 Issue 13928

الثلاثاء 10 ذو الحجة 1431  العدد  13928

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

           

أكثرتُ من المقالات في الرثاء في الصحافة، ثم أقللتُ بعد ذلك ؛ لأنّ الإنسان يكرر نفسه في الرثاء، ولأنّ كثيراً من طلبة العلم الشرعي قليلاً ما يشاركون في الرثاء في الصحافة، ولعلّ مأخذهم التورُّع من الإسراف في النعي..

وهذا جعل لي فرصة تأمُّل قصيرة ولم يمنعني من المشاركة؛ لأنّ المراثي شعراً ونثراً من سيرة العلماء قديماً وحديثاً ؛ وإنما المحذور شدَّة التحسُّر الذي يكون نعياً غير مبرور، وكذلك المبالغة والتزيُّد ؛ لأنّ الكذب ليس من خلق المسلم.. ولقد رحل معالي الدكتور غازي القصيبي رحمه الله تعالى ولم أرثه في الصحافة مع عِظَمِ واجبه عليَّ؛ لما أعلمه علم اليقين من ظاهر حياته الدال على تديُّنه وصدقه وحبِّه الخير ؛ ومما أعلمه أنه لا يستلم راتبه في الوزارة وإنما يوزِّعه على من حوله، وبعد وفاته استلمت شيكاً من وكيله هو آخر ما وصل إليَّ من مبرَّاته التي تصرف للمستحقين عن طريقي.. ويوجب حُسن الثناء عليه بما أعلم أنه ظُلِمَ بغير حق من ذوي الجمود، وضيَّعوا كل حبل من الخير يكون عليه مَحْمَلُه ؛ وإنما اكتفيت بصدق الدعاء له، والعمل على إنجاز ما بدأته من كتيِّب ألَّفته عنه فيه الجد والتمحيص بعلم والدعابة وعرك الأذن.. وأمّا معالي الدكتور أبو ياسر محمد عبده يماني رحمه الله تعالى فله واجب مؤكَّد لدى أخي الدكتور محمد العوين الذي عايشه في وزارة الإعلام، وهو الذي عَلِمَ كيف يبذل ويواسي ويشجع مرؤوسيه من المستخدم إلى أعلى ذي وظيفة قيادية ؛ ولكنني أتكلّم عن معاليه بما علمته عنه علم اليقين، وأول معرفتي به عندما عاد إلى الوطن وكان مدرساً في الجامعة، وكنت مدعواً لحفل ثقافي إلاّ أنّ أخي سراج الدين إبراهيم رحمه الله أخطأ المكان ؛ فدخلنا على معاليه مفاجأة وهو في ندوة ثقافية قاصرة على قلَّة من خاصَّته؛ فدُهشتُ من تواضعه وحسن استقباله، وكان العائدون يومها من ذوي التخصُّصات العالية يزمُّون آنافهم ؛ فأشركني في الحفل سماعاً ومداخلة، ولما رأى قلقي من أجل الحفل الذي دُعيتُ له وصف المكان فأحسن الوصف.. ثم لمّا كان وزيراً للإعلام عَمُرَتْ صلتي به وبمعالي الدكتور عبدالعزيز خوجة وكيل الوزارة يومها ؛ فوجدت كرم المعاملة، وصدق التشجيع لكلِّ طويلب علم، ثم تأكدت صلتي به في جدة وقد كثرت رحلاتي وإقامتي بها ؛ فرأيت من فعل الخير السرِّي ما لا يصدر إلا عن صدق إيمان وحِسْبة، وما قدَّمتْ له عن حال مستحق إلا استزادني توثيقاً ؛ حتى إذا استيأست من التجاوب وصلتني نفحته: شيئ منه شخصياً، وشيئ فيما يظهر لي عن مجمَّعات خيرية يرأسها، وشيئ من الأستاذ صالح كامل جزاهم الله خيراً.. ولما توفي الشيخ أبو محمد عبدالحق والد أبي تراب الظاهري رحمهما الله تعالى تحمَّس لطبع بعض كتبه في دار القبلة كالجمع بين الصحيحين تصويراً مع أن الخط صعب القراءة، كما أن الموضوع مخدومٌ بما هو أوعب وأدق عند أمثال أبي عبدالله الحميدي وأبي محمد عبدالحق الإشبيلي (ابن الخرَّاط)، وأمثال هذه الكتب عبء على دار القبلة، ولكنه رحمه الله لا ينظر إلى ربح مادي ؛ وإنما ينظر إلى حفظ العمل عن الضياع لأمثال عبدالحق، وينظر إلى التشجيع العلمي والنفع المادي بمكفآة الكُتب لطلبة العلم، ورأيت بعيني مواساته وتوصيته لأبي تراب الظاهري.. وعندما أُصبتُ بجلطة خفيفة بحمد الله ذُهلت من حميد سجاياه صلة بالرِّجْل وبالهاتف وبإلزامي المجيئ من مكة إلى جدة لإجراء فحوص بعض المختصين، ثم إلحاحه عليَّ بالعودة إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض.. ولشدَّة قيام معالي الدكتور رحمه الله بالواجبات في حضور المواسم الثقافية والرسمية، والقيام بحق الميِّت تعزية للأهل ورثاء بقلمه: كان شديد العتب عليَّ وكنَّا في جنيف ؛ إذ لم أرثِ أبا تراب، وكان المجلس مليئاً بطلبة العلم، ومهما حاولت إقناعه بأنني في سفر بعيد عن الصحافة لم أعلم بوفاته إلا بعد أربعة أشهر، وأنني دعوت له، وأن رثائي تأخر سنة بغير اختياري.. على الرغم من كل ذلك أحرجني بالعَتْب، وقال: يُقبل هذا بالنسبة لغير أبي تراب ؛ لما أعلمه من عميق صلتكما.. ولمعالي الدكتور محمد عبده رحمه الله خصِّيصتان:

أولهما: أنه قاموس مفتوح الصفحة لكل ما دار بين وعن أهل الجيل في الصحافة، وقد ينسى طالب العلم ثناء من يعتد بثنائه كالعوَّاد والزيدان وضياء الدين رجب وعزيز ضياء ؛ فإذا هو يذكِّرك بما يبهج نفسك من عبق الثناء محدِّداً ذلك بالتاريخ سواء أكان في جريدة أو جلسة، وقد عَمُرَتْ حياتي الثقافية بهؤلاء الأخيار فيما بين عامي 1386هـ و1389هـ بمكتب رئيس تحرير جريدة البلاد الأستاذ عبدالمجيد شبكشي رحمه الله.

وثانيهما: أنني يومها غير متزمِّت ولا متحفِّظ مما يتحفَّظ منه ورَّاد مشربي العلمي ؛ فأنس بي من أجل ذلك، ولكنني كنت مشاغباً مناكفاً في أمور أثقلتُ بها سمع معاليه، وتطوَّرتْ بعد نسيانٍ في مُدَّة طويلة؛ وذلك منذ مداخلته لي بجريدة الجزيرة.. ولما أحسستُ يومها بذلك، وأنا لا أريد أن أكون عاقَّاً له: أشعرته بتحرُّجي مما يدور بيننا من نقاش ينتهي بعدم اقتناع الطرفين إلا من جهة واحدة إذا قلت: ((يلزم من كذا كذا)) فإنه ينفي ذلك بحسن القصد الذي ينفي بطبيعته ما أعدُّه لازماً؛ فأظهر لي أنه مسرور بالنقاش، وخجَّلني بكثرة الثناء.. إلا أنه رحمه الله يسمع مني أكثر مما يُبْدي لي من الرد أو الموافقة؛ فانصرفتُ عن تكدير خاطره حتى تأزَّم الموضوع في جريدة الجزيرة، ولكنني ما غفلت عنه بالدعاء الصالح، وما زلتُ على صدق الاعتقاد بأنه إن أخطأ أو أصاب إنما كان صادق القصد في التدين لربه بما يعتقد أنه حق.. هذه اعترافات بما أعلم، وليست نعياً محذوراً، وأسأل الله جلَّت قدرته الذي وسع كل شيئ رحمة وعلماً أن يتغمَّد الفقيد بواسع رحمته، وأن يقدِّس روحه وينوِّر ضريحه، وأن يغسله بالماء والثلج والبَرَد، وأن ينقِّيه من الذنوب والخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس.. وخير وفاء له أنني أعددتُ في هذه العشر المباركة أُضحية أشركتُ فيها معالي الدكتور محمد عبده يماني ومعالي الدكتور غازي القصيبي ووالديهما.. تقبل الله منا صالح الأعمال ؛ وإنما أعلنتُ ذلك لأغيظ كلَّ جامدٍ يحمل إخوانه المسلمين على ما لا ينبغي إن حصل اختلاف في الرأي ؛ وإنما صراط المؤمن حقاً أن يحمل إخوانه أهل القبلة على الخير ما وجد للخير محملاً، ويُعلن رأيه المخالِف بلا تَقِيَّة ولا مواربة ؛ فلا بد من صِدْق القول والتورُّع في المحمل معاً.. ومما لا يجوز شرعاً أن تقابل أخاك في مُلْتقًى ما كحفل رسمي أو ثقافي وتبادله تحية الإسلام بمودة وأنت تحمل عليه ضغينة للاختلاف في مسألة ما، وربما استبحت عرضه في غيابه ؛ وإنما الواجب - بعد تحرِّي المناسبة - أن تطرح ما في خاطرك مستفهماً لا موجِّهاً، وتقول: (حفظك الله يا فلان: ما رأيك لو قلنا أو فعلنا كذا وكذا: ماذا نعمل في الاستجابة للنصوص القطعية دلالة وثبوتاً كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (سورة الجن 18)؟.. وأنت تعلم أنه صادق القصد في التعبُّد لربه، وإذا تبرأ إليك من اللازم فواجب أن تصدِّقه، وتحكم بخطئه في الاجتهاد لا بتضليله وتبديعه إن كان الراجح عندك خلاف ما هو عليه، وأما القطعي فتحذِّره مغبَّة مخالفته، وأن يصدق مع نفسه إن وَجد مخرجاً في مخالفته، وتكل بعد ذلك سرائر أهل القبلة إلى خالقهم الذي سيحاسبهم وهو الأعلم بمقاصدهم، ولا نتوانى في إظهار ما نعتقده حقاً ؛ فمن شغب أو عاند أغلظنا عليه القول، والحمد لله على كل حال، والله المستعان.

 

إنما أرثي أبا ياسر بما أعلم
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه -

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة