Sunday  02/01/2011/2011 Issue 13975

الأحد 27 محرم 1432  العدد  13975

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في إحدى القرى التي ما زالت منسجمة مع حياتها البسيطة كان الناس يترددون يومياً على الساقي؛ يتزودون منه بالماء الذي يشربون، ومنه يغتسلون ويستحمون، ويغسلون حاجاتهم من ثياب وأوانٍ، وغالباً ما يحصلون على الماء من مصادر بدائية، من البئر العامة أو من البِرْكة أو المدي، كانوا بهذا الوضع في منتهى الرضا والقناعة، لم يشتكوا يوماً من قلة أو ندرة أو انقطاع. تدور عجلة الأيام، ويدورون معها راضين بما هم فيه من مشقة وتعب الحصول على الماء كمًّا ونوعاً، لا يهتمون بنقائه وصفائه؛ المهم عندهم انتظام الحصول عليه. ألفوا هذا واستمرؤوه، واقتنعوا به، ومما جعلهم راضين عن حالهم مقتنعين بها أنهم لا يعرفون عن حال أهل القرى من حولهم، وما هم فيه من تقدُّم ورقي في طرق جلب الماء وإيصاله إلى المنازل، بطرق مُحْكمة نظيفة، وبأعلى المواصفات والمعايير؛ فجهلهم بحال غيرهم جعلهم يعتقدون أنهم في حال طيبة، وأنهم يخشون على حالهم من حسد الحاسدين؛ ولهذا تجدهم دائماً يقولون: «حنا أحسن من غيرنا، الله لا يغير علينا».

بطبيعة الحال عدَّ أهل القرية أنفسهم الأحسن حالاً من جيرانهم، والأفضل واقعاً من غيرهم الذين هم فعلاً أكثر تقدماً ورقياً، ليس لكونهم يتمتعون بما يتفوقون به على الآخرين، حتى القريبين منهم، بل لكونهم لا يملكون أية معلومة عما يدور خارج حدود قريتهم، و لا يعرفون ما هي معايير الأحسن والأفضل، ولا يعرفون أنهم لو قارنوا حالهم بحال غيرهم لوجدوا أنفسهم في حال بدائية لا ترقى إلى أي مستوى من درجات القبول والرضا، وهذا لا يعني أن كل أهل القرية راضون عما هم فيه، وعن المستوى الذي تحقق لهم، أبداً، بل يوجد من بينهم من يتحدث همساً، ومنهم من يتحدث علانية مبدياً تذمره وانزعاجه مما هم فيه؛ ولهذا لا يتردد بعضهم في أن يناقش حالة عدم الرضا علانية، ولكن كالعادة لا يحصلون من مثل هذه المناقشات إلا على عذب الكلام والوعود التي لم يصدق منها إلا القليل؛ ولهذا آثر السواد الأعظم منهم التعامل مع الواقع والقبول به، على الرغم من أنه لا يحقق لهم أبسط الحقوق وأقلها شأناً، تقبلوا الوضع من منطلق العجز وقلة الحيلة؛ وبالتالي خفضوا سقف التطلعات إلى الحدود الدنيا، ولسان حالهم يقول: «القناعة كنز لا يفنى».

ساد النفوس حالة يأس، وطغى على الوجدانات مسحة حزن وكآبة؛ فالحال تزداد تردياً وسوءاً، ولا بارقة أمل، وليس أمام هذا العجز إلا الحوقلة والدعاء بأن يفرج الله الهمَّ والكربة، ويرفع الألم والغمة، وأن يلهمهم الصبر والحكمة، مع الاستمرار في المطالبة بتحسين سبل الحصول على الماء.

وكان لا بد من التفاتة لهذا التذمر، وحالة الاحتقان وعدم الرضا، تلفت أحد المسؤولين في هذه القرية؛ علَّه يجد من يدله ويرشده إلى مختص يساعد في تحسين سبل توصيل الماء إلى أهالي قريتهم، فجاءه خبير تبدو عليه سمات الناصح الأمين، لكنه قليل الخبرة، قصير النظرة، قال لعل من أفضل الحلول إنشاء شركة تتولى مهمة توصيل الماء إلى القرية، وتسهل تدفقه، وتعالج مشاكله، وتيسر وصوله إلى الأهالي بانتظام وإتقان. فكرة تبدو في ظاهرها منطقية. وبناء على ما هو معهود في الشركات، من حيث كونها الأكفأ في الإنتاج، والأجود في الأعمال، والأسرع في الإنجاز، تمت الموافقة، ولكن الفرحة لم تتم؛ فسرعان ما خابت الآمال؛ إذ ساد إدارة الشركة وطغى عليها رأي الفرد الواحد؛ فصار المدير يأمر وينهى حسب ما يحلو له، وباقي فريق الشركة كالقطيع يهزون الرؤوس، ويوافقون على أي رأي أو مقترح دون تمحيص أو تدقيق، فمن إبداعات هذا المدير توجيهه بأن تعمل شبكة ماء صغيرة تجريبية لبعض البيوت، وأن تُدار عمليات تشغيل الشبكة إلكترونياً، وأن يتم توقيت غلق المحابس وفتحها إلكترونياً. طغت التقنية على تفكيره، ولم يلتفت إلى متطلبات التقنية ومدى جاهزية بنيتها التحتية وقدرتها على التصدي للمشكلة ومعالجتها، وهل التقنية أصلاً هي المدخل المناسب والصحيح للحل؟ وهل هناك من يقدر على التعامل مع التقنية ويديرها؟.. ومما زاد الطين بلة أن مَنْ نصّب نفسه لرئاسة مجلس إدارة الشركة، وعلى الرغم من أميته في مجال أعمال الشركة، أحاط نفسه بمجموعة من الإمعات الذين لا يجيدون سوى ترديد كلمات التأييد والموافقة، والاستئثار بالجمع بين مميزات العمل في الشركة وعملهم اليومي الذي انتدبوا منه، على الرغم من أنهم أصلاً لم يحققوا نجاحات تُذكر فيه وفي إدارته، فضلاً عن تحسين أدائه وتطويره؛ وبالتالي تطوير أعمال الشركة.

تبخر الحُلْم، وعاد أهل القرية والخيبة تجللهم إلى سابق عهدهم، ينتظرون مَنْ يمدهم بالماء النقي وهم يعلمون أن انتظارهم سيطول.

 

أما بعد
الرأي ما ترى
د. عبد الله المعيلي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة