Friday  21/01/2011/2011 Issue 13994

الجمعة 17 صفر 1432  العدد  13994

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

تاريخياً؛ كانت أوروبا سيدة المجال السياسي العالمي خلال معظم القرون الأربعة الأخيرة، فقد سبقت العالم إلى نمط من تنظيم الحياة (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) أتاح لها التفوق على بقية أجزائه من جهة، واختراقها التدريجي والمؤكد من جهة أخرى، وهو أمر ترتبت عليه نتيجتان مهمتان:

- أوروبة العالم، إن جاز التعبير، وإلحاق العالم بأوروبا عن طريق اعتماد نمط الحياة الأوروبي باعتباره السبيل الوحيد أو الرئيس إلى حداثة مفتوحة وتطور بلا حدود، مع ما نجم عن ذلك من صراع نماذج عرفه العالم، وخاصة بلدانه المستعمرة، دار بالأمس وهو يدور اليوم أيضاً وسيبقى على الأرجح دائراً إلى زمن طويل. وليس ما سمي «صراع الحضارات» غير وجهه الرئيس، الذي كان بالأمس جزئياً وغامضاً، ويزداد اليوم اتساعاً وتفاقماً وجذرية.

- تكونت خلال المعركة التاريخية، التي بدأت مع خروج أوروبا إلى العالم، شعوب وأمم حديثة، أو تحدثت شعوب وأمم قديمة، وامتلأ المجال الدولي بأنماط من العلاقات جعلته يرى نفسه بدلالة أوروبا: فهو إما مع نموذجها الحضاري أو ضده.

والنتيجة، توحد المجال السياسي الدولي بدرجات متفاوتة، وبدت وحدته في موقفه من أوروبا وسياساتها وتنظيماتها، الأمر الذي انعكس في حوارات العرب والمسلمين منذ نهاية القرن الثامن عشر، ويبلغ في أيامنا ذروة غير مسبوقة، بعد أن دخل على خط السياسة الدولية مستجد لا سابقة له في التاريخ، هو سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على المجال الأوروبي- الآسيوي، الذي كان قد خضع طيلة آلاف السنين لقوى داخلية تكونت فيه وفرضت نفسها عليه بهذه الطريقة أو تلك، لعل أشهرها في العصر القديم الإمبراطورية الرومانية، والجديد الإنجليزية والفرنسية، وها هو يرضخ منذ الحرب العالمية الثانية لوضع غير مسبوق يتجلى في سيطرة قوة من خارجه عليه هي أميركا.

لم تفض سيطرة أميركا إلى تغيير وضع العالم السياسي وحسب، بل وبدلت من بعض الجوانب صورة الحضارة أيضا، بأن جعلتها أميركية - غربية بعد أن كانت أوروبية - غربية، بل إنها طبعت بميسمها حياة أوروبا نفسها، وأمركتها على صعيد بنياتها التنظيمية وأدوار القوى الفاعلة فيها، دون أن تمكنها من الإبقاء على دورها التقليدي، الذي تراجع، خاصة بعد حربين عالميتين أسهمتا في بروز أميركا وتقدمها إلى الصف الأول، قبل تحولها إلى قوة وحيدة في أعقاب انهيار المعسكر غير الرأسمالي في الشرق، الذي بدا لوهلة وكأنه منافس جدي، لكنه سرعان ما اختفى حتى قيل إنه كان أقصر إمبراطوريات التاريخ عمراً.

أدى تقدم أميركا إلى تراجع أوروبا، التي بقيت عاجزة عن مضاهاتها، لافتقارها إلى قيادة موحدة واقتصاد واحد وجيش وأسطول موحدين وانتشار عالمي كوني وثقافة شعبية يقبلها الآخرون. وعلى رغم ما أنجز على صعيد الاتحاد الأوروبي من تقدم اقتصادي وانفتاح جغرافي - سياسي، فإن أوروبا ما تزال عاجزة عن بلوغ وضع يتيح لها التحرك كقوة موحدة، أو عن استعادة أمجاد بعض دولها الإمبراطورية كإنجلترا وفرنسا، لأن الأولى تسير في ركاب أميركا منذ الحرب العالمية الثانية وتمثل رأس جسر يصلها بالقارة العجوز، والثانية أشد ضعفاً من أن تتطلع إلى استعادة ما فقدته من مكانة ودور، وإن بقي بعض ساستها غارقين في أوهام العظمة الفرنسية، الموروثة من فترة الثنائية الاستعمارية العالمية، التي كانت باريس خلالها قطباً دولياً وازناً منافساً للندن.

تراجعت أوروبا، حتى ليبدو وكأنها ضيعت دورها، الذي صار ملحقاً في معظم الأحيان بالدور الأميركي ويرى نفسه بدلالته، فهو إما مع أميركا، دون أن يضيف إليها أية قوة جدية على الأرض، أو هو ضدها في حالات محدودة وبصورة عابرة، دون أن يتمكن من ترجمة موقفه إلى أدوار مؤثرة وفاعلة في الواقع العملي، فهو جزئي وخجول ومتردد، كما في القضية الفلسطينية، لذلك لا يتوقف الأميركيون والإسرائيليون عنده، رغم أن القارة العجوز أحد الأطراف التي رسمت ما سمي بخارطة الطريق إلى السلام قبل حوالي خمسة أعوام. ومع أن الأوروبيين أعلنوا في الآونة الأخيرة عزمهم على دراسة إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة في حدود عام 1967، فإن إعلانهم لم يحدث صدى واسعاً حتى لدى الطرف الفلسطيني، ربما لإدراكه أن هامش مناورة أوروبا محدود ودورها ضائع، وأنه كلامي- معنوي أكثر منه عملي - ميداني، في زمن تمسك أميركا بمفاصله، يجعل من الصعب أن تقدم أوروبا على موقف يتناقض مع موقفها، المؤيد لإسرائيل.

هذا لا يعني، طبعاً، أن لا يأخذ الفلسطينيون بسياسة تجعل من أوروبا ورقة ضغط معنوي على أميركا وإسرائيل، مما يوسع هامش المناورة الفلسطيني ويحرج العدو الصهيوني أمام الرأي العام العالمي، عسى أن تنجح السياسة الأوروبية في إشعار أميركا بخطورة وجود عمق دولي للقضية الفلسطينية بوسعه إرباكها وعزل إسرائيل، وتتشجع على إيجاد مبررات إضافية لزيادة دعمها المادي لشعب فلسطين المحتل، ولتمتين شراكاتها المتنوعة معه داخل وطنه، التي قد تساعد في كبح العدوانية الإسرائيلية وتقييد جموحها وانفلاتها العسكري - الاستيطاني: حامل بذور حروب جديدة قد تنفجر في أية لحظة.

لا تعرف أوروبا كيف تجد دوراً لها، بسبب أميركا من جهة، وانقساماتها الذاتية التي تجعلها محدودة التأثير والقوة من جهة أخرى، فلا بد أن يشجعها العرب ويساعدونها على بلورة مواقفها وسياساتها المستقلة ولو نسبياً عن السياسات الأميركية، لأن لنا مصلحة حقيقية في ذلك، علماً بأنه ليس من السهل أن يعين العرب غيرهم على ممارسة دور خاص، بينما يبتعدون هم أنفسهم أكثر فأكثر عن أدوارهم الطبيعية في منطقتهم، ويعانون كأوروبا من دورهم الضعيف والمقيد، علماً بأنهم يستطيعون استرداده بوحدة مواقفهم وصدق عزيمتهم، وبأن استعادة الدور الأوروبي ودورهم ستمثل نقلة نوعية مهمة نحو حل عادل لمشكلات منطقتنا والعالم: في فلسطين هنا وعندهم هناك، بموافقة أميركا أم بدونها.

هل هذا هدف يستحق أن يتابع وجهد يجب أن يبذل؟.. الإجابة في الحالتين، حالة العرب وأوروبا هي: نعم. إن تحقيق هدف كهذا هو ضرورة قصوى للجانبين. هل يستجيب العرب والأوروبيون لمتطلبات هذه الضرورة . هذا هو السؤال، الذي لا أظن أن إجابة الطرفين عليه تدعو إلى التفاؤل، ومع ذلك فهو يبقى سؤالاً راهناً وهمّاً، وقضية يتوقف على نمط حلها شكل مستقبل العالمين العربي والأوروبي!.

 

دور يجب أن يستعاد..!
ميشيل كيلو

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة