Sunday  27/02/2011/2011 Issue 14031

الأحد 24 ربيع الأول 1432  العدد  14031

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

التحرش الجنسي قضية ليست «عربية» بامتياز، بل هي إنسانية عامة، ولم تعالج حتى الآن، ولم يتم الإشارة إليها ولو بأصبع واحد لتشخيص الداء الذي اقترب من تشبيهه بالخلايا السرطانية التي تنتشر وتنتشر وسرعان ما يشعر المريض بأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت.

انتهاك جسد المرأة أو الطفل المعرض للتحرش لا يمثل إلا صورة من صور «المرض الاجتماعي النفسي»، الذي أعتقد أنه مرض متشابك يجب تحليله من جميع جوانبه المرئية والخفية.

الفرق بين العرب وبين غيرهم، أن غيرهم يحمون ويحافظون على إنسانيتهم بالقانون، لا تنظر المجتمعات غير العربية إلى الضحية باعتبارها «جانياً» خفياً يجب عقابه و»لومه» وأحياناً توبيخه، ورغم ذلك أيضاً لم تدرس قضية التحرش من أجل علاجها، وإنما اكتفى الباحثون والكتاب وحتى السينمائيين بأحدث أفلامهم عن التحرش الذي أثار الضجة فيلم «678» أن يعالجوا المشكلة، ولم يزد أحد هؤلاء من مجرد الإشارة بأصبع واحد إلى المشكلة، وإلقاء بقعة ضوء كبيرة عليها، من دون البحث عن جذور المشكلة.

قال لي أحد المتحرشين إنه عندما كان في العاشرة من عمره، كان يخرج إلى الأماكن السياحية ليتحرش بالسائحات الأوروبيات، قلت له «هل تمزح؟!»، أكدَّ أنه لا يمزح، وأن حديثه لي على سبيل الفضفضة، سألته، هل كنت وقتها بلغت سن الإدراك والبلوغ؟، أجابني سريعاً، ب»لا»، أظهرت تعجبي ورفعت حاجبيَّ إلى أعلى، أشار لي أن أزيل هذا التعجب، لأنه زادني من الشعر بيتاً آخر، حين قال إنه كان يتفحص النساء منذ كان في سن الطفولة المبكرة، أومأت بأن الأمر فيه سر، لكنه أصر على أنني يجب أن أنتظر حتى أتعجب جملة لا تفصيلاً، زاد في روايته التي أدهشتني، إنه حين مر بمرحلة الجامعة لم يشعر بأن لديه رغبة في التحرش بإحدى الفتيات اللاتي كان يقابلهن سواء في الجامعة أو خارجها، والأمرَّ من ذلك دهشةً وتعجباً حين أخبرني أنه سافر إلى عدد من دول أوروبا، ولم يكن يفكر مجرد التفكير في التحرش بإحدى النساء، ليس خوفاً من القانون أو من كاميرات المراقبة، ولم يفكر أيضاً أن يواعد إحداهن لتمضية وقت محرم، لأنه حسب كلامه «يخاف الله»، ولكنه قال لي حين تزوج عاد إليه مرضه القديم، وبدأ يخرج وحده يتحرش بأي واحدة يراقب تصرفاتها، وأكد لي أنه دائماً قبل إقدامه على التحرش بأي امرأة، يراقبها لمدة دقيقة، ثم يأتي فعلته، لأنه وقتها يكون قد كوَّن فكرة عن الضحية بأنها تبدو من ملامحها الهادئة في أغلب الأحوال لا تحب التعرض لأي مشاكل، فتقع جريمة التحرش، وتستمر أحداث الجريمة لتنمو ملامحها مرة أخرى مع ضحية أخرى، ويؤكد ذلك المتحرش أنه يخرج باحثاً عن الأماكن المزدحمة، وتمضي الأمور في طريقها، لكني حين سألته هل تستفيد من هذا التحرش شيئاً، أجابني: لا، بل على العكس أشعر بتأنيب الضمير، وأشعر أني غير قادر على التواصل مع زوجتي، وأشعر أني أضعف «جنسياً».

كان هذا الراوي أحد الذين قابلتهم في مقهى من مقاهي مدينة عربية مزدحمة مليئة بتفاصيل مرعبة عن حياة الناس الاجتماعية التي تتشابه مع بعضها كثيراً في مدننا العربية الأخرى.

أعود للراوي الذي لفت نظري إليه نظراته الزائغة يميناً ويساراً، وتلفظه بألفاظ نابية، ويداه اللتان تتحركان في الهواء تعبيراً عن كل كلمة يقولها، ولما تفحصت ملامحه جيداً، تذكرت نظرية «لامبروزو» التقليدية في علم الإجرام المبنية على اشتراك المجرمين في تكوين بيولوجي متشابه إلى حد كبير، طبقت النظرية عليه، وجدته قريب الشبه بمن طبق «لامبروزو» عليهم نظريته.

الأمر خطير جداً، التحرش الجنسي الذي بدأ مع هذا الشخص الذي التقيته ولم أحاول الاحتفاظ كثيراً بملامحه المتخاصمة، ولا تفاصيل وجهه الزائغة، شعرت أنه من الممكن أن يخرج من بين أسنانه «موس حلاقة» مثلاً من فرط بشاعته.

كان يتحدث مع شخص عابر عن بطولاته «الزائفة» مع النساء في الشارع؛ حديثه كان يحمل نبرة بطولة مفقودة، متحدياً الجميع بأنه لم تصرخ أي واحدة من ضحاياه حين قام بالتحرش بهن، وقال بسخرية: واحدة فقط نطقت بصوت غير مسموع متسائلة «ليه كده»، تركها ومشى من دون أن يلتفت.

تدخلت في هذا الحديث ذي الصوت المرتفع جداً، الخارج من فم مملوء بقاذورات شفوية، وصوته العالي الأقرب إلى الصراخ، وكأنه في لا وعيه يريد أن يرسخ أمراً رغم أنف المجتمع والقانون.

الغريب الذي تحدث عنه ولفت انتباهي بشدة قوله: «لم تصرخ واحدة من ضحاياه، ولم تطلب استغاثة»، كل هذا الانتهاك الجسدي ولم تطلب إحداهن استغاثة، والأمر هو ممارسته للتحرش منذ الطفولة، قبل البلوغ، قبل التعرف على الحياة، والأغرب أنه سافر إلى عدد من بلدان أوروبا ودرس دراسة جامعية وتزوج لكن مرض «التحرش» لم يفارقه، ولم يغادر سلوكياته، توارى قليلاً، لكنه ظهر مجدداً، كأنه أصيل في تكوينه.

كتبت كثيراً ومنذ سنوات طويلة عن «التحرش الجنسي» الذي أصبح يملأ مدننا العربية، وتملأ المناقشات عنه القاعات الكبرى في فنادق المدن العربية نفسها، نقاش بلا جدوى، النظر إلى كون المتحرش مجرماً يجب عقابه، بعيداً عن النظرة إلى مرض مجتمعي كبير يجب بحث أسبابه وعلاجه، فكثير من حالات التحرش التي تتعرض لها أي امرأة، التي تعتبر «ضحية» يُلقى عليها الكثير من اللوم، مع الكثير من التكهنات حول أنها هي التي شجعت هذا التحرش، وفعل التحرش الذي أصبح هاجساً يمثل الكثير من المخاوف عند المرأة من تعرضها إليه مع الوضع في الاعتبار رد الفعل المتوقع أو الذي يجب حدوثه، وتبعات ذلك عليها اجتماعياً.

Aboelseba2@yahoo.com
 

«التحرش الجنسي» قضية ليست عربية «بامتياز»
حسين أبو السباع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة