Thursday  24/03/2011/2011 Issue 14056

الخميس 19 ربيع الثاني 1432  العدد  14056

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

اطلعت منذ أعوام خلت على نبأ اختراع لطبيب مسلم يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية ويجري أبحاثه الطبية في ولاية فلوريدا، وهذا الطبيب حقق باختراعه هذا نصرًا عالميًا.

أقول: إن هذا الطبيب قد وفق لاستخدام الماسح الإلكتروني

(ايمي سكانر) وهو من أهم أجهزة التشخيص الطبي في العالم ليعمل بالتوافق مع العقل الإلكتروني لرسم خريطة كاملة ملونة لكل الجسم البشري بأجهزته وخلاياه.

ومن الرائع حقًا أن يستطيع هذا الجهاز أن يكتشف وفي دقائق أي (خلل) في أي جزء من أجزاء الجسم.. وبمنتهى الدقة أيضًا.

وأطلق النبأ في دفعة خيال فتحدثت إلى نفسي: (ماذا لو امتلك الإنسان جهازًا مثل الايمي سكانر فأطلقه في تاريخنا فيمسحه مسحًا فيخبرنا بالخلل أين وقع؟.. والثغرة والثغرات كيف حدثت في مسيرة الإسلام العظمى وعبر دوله وخلافاته؟

ثم رجعت إلى نفسي فقلت: وهل يقوم بعمل هذا الجهاز ويعمل عمله إلا العلماء والمفكرون المسلمون من قيادات الحرس الروحي والذهني للمسلم المعاصر فيرصدون الجسد الإسلامي قرنًا إثر قرن.. ويتأملون الخريطة الإسلامية مدًا وجزرًا فيسدون الثغرات التي أصابت السور الإسلامي العظيم بالدراسة والفكر دفاعًا عن الدين والعقيدة والأرض والعرض.

وإذا كانت الثغرة هي المكان الذي يأتينا منه الخطر، وهو مأخوذ من ثغر الجدار وجمعها ثغور، كما تسمى بذلك كل فرجة في جبل أو وادٍ، وكما يقال (أمسوا ثغورًا).. أي أمسوا متفرقين، والثغرة: الثلمة.

وإذا كانت الثغرة لهذه الإيماءة اللغوية تعكس للذهن الفرجة يتسرب منها الخطر للبناء، والعدو لأرض الوطن، والجرثومة الفاتكة للجسم السليم، كما تتضمن فيما تتضمن موقعًا لا تحصين فيه. أو بقعة تتضاءل فيها إمكانات الدفاع، أو هو موقع تسقطه من حسابك فلا تتوقع أن يأتيك منه الخطر أو الخصم أو العدو لثقة بنيتها وأسباب قدرتها.

فإذا بالخطر والخصم والعدو والجرثومة الفاتكة تفاجئك من حيث أملت الأمن فينطبق عليك في هذا الموقع المثل القائل: (يؤتي الحذر من مأمنه) وحكمة ذلك المثل، إننا ينبغي ألا نثق في أمر ما ثقة مطلقة، وهو أمر ينبغي على الفرد الواحد وعلى الأمة الكبيرة.. وعلى الشعوب المتعددة أن تضعه في حسابها إذا ما أرادت لنفسها بقاءً، وإننا إذا وثقنا علينا أن نراجع ما وثقنا فيه في ظل زمن وظروف تتبدل وتتغير..!! وإذن فالثقة المطلقة ثغرة في التفكير.

وإذا ما أجال كل منَّا بصره ثم أرجع من بعد بصر فكرًا وتدبرًا فيما حواه الماضي.. ثم اندثر، وما يحويه الحاضر مما لا زال قائمًا.. وما نقدر من خطط لبناء المستقبل مما لا زال جنينًا في ضميره.

نجد في كل ذلك -إذا ما أبعدنا التعصب والأفكار المسبقة- ثغرة وثغرات وهذه ميزة من أكبر الميزات التي وهبها الله للعقل البشري: قدرة العقل أن يراجع نفسه بنفسه.. فنستفيد من دروس الماضي، فيصحح أفكارًا سبق صدورها منه ذاته. ونعدل من مسار الحاضر، ونقوّم ما نخطط له من شؤون المستقبل.

إن الثغرة تكون في الجسم السليم.. تهمل فيعتل.

وتكون في المخطط التربوي لا تقوم.. فإذا الأمة ساقطة في ذيل الأمم كلّها.

وتكون في خطط وخطوط الجيش.. فإذا هو مندحر..

وتكون في نفس زعيم أو قائد.. فيضل ويضل.

وتكون في الدولة والحضارة.. فإذا الدولة منكسة أعلامها.. وإذا بالحضارة تابعة لا متبوعة.

أمثلة للثغرة.. وغيرها كثير تعرفها أنت ويعرفها من غيرنا كثيرون، والأخطر.. أن يدركها أعداء لقوم.. وقومها عنها غافلون.. أي عن هذه الثغرات.

ولو أراد كل منَّا أن يعدد ثغرات يراها في الحياة والمجتمع والناس لعدد من ذلك المئات ومع ذلك فليس كل ثغرة تساوي غيرها.. هذه بديهية.. وبالرغم من ذلك يجب أن نذكر بها ليتذكر من تذكر..

فالثغرات يتفاوت قدرها بحسب مكانها وزمانها واتساع فجوتها.. وليس شأن من ركب سفينة فخرقها وهي في خضم الأمواج فعرض نفسه وغيرها للموت غرقًا.. كمن يثقب جدارًا في بيت على اليابسة؟

والثغرة هي التي تفسر. كيف سادت حضارات ثم بادت؟ وكيف آلت إمبراطوريات وخلافات عظمى إلى دويلات مفتتة متصارعة.

وإذا كانت الثغرة بهذه الصورة من الخطورة، فإن الأمن من خطورتها أن تسد.

ولقد كانت مغادرة الرماة جبل (أحد) ثغرة تلقى فيها المؤمنون درسًا أليمًا ولم يشفع لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معهم.. وعلى رأسهم.. كلا..

لقد أراده الله درسًا لحكمة، فالذين مرقوا إلى (المغانم) في غير الوقت المناسب صنعوا (ثغرة) والثغرة صارت هزيمة فادحة.. والخسائر التي وقعت لم تنصب على رؤوس الذين تركوا مواقعهم بل تجاوزتها لجيش بأكمله.. وهذا درس يتلقاه المسلمون من ثغرة..

وكم اليوم من (أحد).. في سور الإسلام العظيم.. وفي دياره..!!

ولجسامة الخطر وتعاظم البلاء لم تعد الثقافة المزيفة في هذه الأيام العصيبة بقادرة على سد ثغرات الفكر في جسم الأمة، إن الثقافة المزيفة قد تكتسي مظهرية الحياة الكاملة.

ويخيل إليك إذا ما رأيت صحائفها وشاهدت تلفازها.. وقلبت كتبها.. إذا فعلت ذلك خيل إليك من سحرها أنها تسعى..!!

ولكن يوم تنزل الثقافة الحقيقية الراضعة من ثدي هذه الأمة متصلة بأعماق وجدانها وأصالتها..

يوم تنزل هذه الثقافة إلى الساحة سوف تراها تلقف ما صنعوا، لأن أمة كان لها تاريخ مثل تاريخنا.. وبين يديها كتاب كريم.. يقرؤه الملايين.. صباح مساء..!!

مثل هذه الأمة إذا لم تجد نفسها في موقع القوة والسيادة والكرامة، فلا بد أن تجعل لفكرها مدارًا لا تتجاوزه حول سد هذه الثغرة.. حتى يأذن الله بنصر من عنده..!!

 

تأملات في مسيرة الإسلام العظمى وعبر دوله وخلافاته
د. علي بن محمد التويجري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة