Saturday  02/04/2011/2011 Issue 14065

السبت 28 ربيع الثاني 1432  العدد  14065

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

ما من عملٍ في تكوين شخصية الإنسان يمكن أنْ يتم دونَ مثابرةٍ ومتابعة مع قدرٍ كبير من العناء، ولكنَّه عناءٌ ماتعٌ لما فيه من البناء، وللبناء متعةٌ كبيرة يشعر بها مَنْ يبني.

إنَّ بناء شخصية الإنسان عمل جليل، لأنه أساس بناء المجتمعات البشرية، وسرٌّ من أسرار نموِّها وتطوُّرها، وتفوُّقها، وهو من السهل الممتنع، تنبثق سهولته من سهولة التأثير النفسي والفكري على الإنسان في طفولته، بل في مرحلة الحمل وهو جنين في بطن أمِّه، لأن الإنسان في هذه المرحلة المبكرة صفحةٌ بيضاء تنتظر الكتابة عليها، ومَلأ فراغها بالقيم والأفكار، والرؤية السديدة للحياة، فيكون إنساناً سوياً واعياً مستقراً، أو الكتابة عليها بعكس ذلك، فيكون إنساناً منحرفاً بحسب نوع ما كتب في صفحته البيضاء من انحراف أما كون هذا العمل ممتنعاً، فلأن كثيراً من الناس لا يشعر بأهميته، ولهذا يهمله في مرحلته المبكِّرة، ويتهاون به، وحينما يفوت الأوان، ويريد أنْ يبني يجد صعوبة في هذا البناء، وصعوبة في تكوين الشخصية، وتشكيل وعيها.

تشكيل وعي البشر عمل تربوي مهم، تقوم به المجتمعات الواعية التي تحرص على أن يكون لها دَوْرٌ بارزٌ في الحياة، وهو مرتبط بما تؤمن به تلك المجتمعات من الأفكار والمبادئ، وما يترتب على ذلك من أنماط السلوك، وأخلاق التعامل في إطار المجتمع الواحد، وخارج إطاره في التعامل مع المجتمعات الأخرى.

يتم تشكيل وعي الإنسان روحاً وعقلاً وسلوكاً بإعطائه جرعاتٍ من الغذاء الروحي - تعاليم الدين ومبادئه، وأخلاق التعامل وقيمه ومن الغذاء العقلي - المعلومات، والأفكار، والثقافة المنسجمة مع الغذاء الروحي (خاصة في المرحلة المبكرة) - ومن الغذاء السلوكي - حسن التعامل، تحقيق القيم بالقدوة الصالحة التي توجد سلوكاً عملياً يراه الإنسان ويتفاعل معه - وهذا العمل في تشكيل الوعي يبدو أمامنا حينما نتحدث به أو نكتبه سهلاً ميسوراً، ولكنه ليس كذلك حينما نريد أن نطبقه، وهل تكمن المشكلة الكبرى في (تكوين الوعي) إلا في عدم التطبيق، أو في عدم الاستمرار على التطبيق إذ بدأنا به؟!

كم يوفِّر الإنسانُ الواعي على نفسه الجهد والوقت والمال لو تنبه إلى أهمية تشكيل وعي أولاده منذ تكونهم أجِنةً في بطون أمهاتهم، أو منذ ولادتهم، أو منذ بداية نطقهم، مع أن التربويين في هذا العصر يعدون عدم البداية بتشكيل وعي الإنسان منذ فترة الحمل بعد الشهر الرابع تفريطاً وإهمالاً - خاصة في مجال التشكيل اللغوي السليم- المرتبط بالتشكيل المتكامل لعقل الإنسان ووعيه، وحجتُهم في ذلك ما ثبت (طبياً) من وجود ما يشبه شريحة (الحاسب الآلي) في مخِّ الإنسان منذ نَفْخ الروح فيه في بطن أمه، تقوم بدور الاستقبال التلقائي لما يتردَّد حول الجنين من الكلام والمفردات والمصطلحات، وتسجيلها لتكون نواةً للثروة اللغوية التي يبني الجنين على معانيها حياته، ونفسه، وسلوكه فيما بعد.

أمَّا إذا أهمل الناس تشكيل الوعي المبكِّر، فإنَّ عناءً كبيراً سينتظرهم في تشكيل وعي أولادهم بعد ذلك، لأن شريحة الاستقبال التلقائي تكون قد استقبلت وحفظت مفرداتٍ كثيرة، وأنماطاً من السلوك والأخلاق، فاستقرت فيها، وبُني عليها وعي الإنسان، وتشكل بها أسلوبه الخاص في التعامل مع الحياة، فإذا أراد الآباء والأمهات، والمربون أن يقوموا بدورهم المتأخر في تشكيل الوعي وجدوا صعوبة بالغة تتمثل في تلك الحواجز التي امتلأ بها عقل الإنسان في مرحلة مبكرة.

ويرد هنا سؤال يقول: هل نتوقف عن تشكيل الوعي إذا كنا قد تأخرنا، وأهملنا في بدايات حياة الإنسان؟

والجواب الصحيح يقول: كلا، بل يجب علينا أن نجتهد في تشكيل الوعي السليم الصحيح عند أولادنا بنين وبنات، لأنَّ ذلك حقٌّ لهم علينا، ويجب أن نصبر ونصابر، وألا تصدنا الصعوبات التي تواجهنا وأن نتحمل العناء في تكوين الإنسان وتشكيل وعيه الصحيح بما يدور حوله، فهذا أقل ما يمكن أن نعوِّض به ما حصل من إهمالنا وتقصيرنا. ولن يتشكل الوعي الصحيح إلاً في ضوء عقيدة صحيحة -نؤمن بها نحن المسلمين- تمكننا من اختيار الفكر والثقافة، وبناء وعي الإنسان من خلالها، حتى إذا اكتمل بناء وعيه من خلالها، واستقرت في نفسه وعقله قيمها ومبادؤها، استطاع أن يحقق الأسلوب السليم في التعامل مع الأفكار والثقافات الأخرى بحسن الانتقاء والاختيار تلقائياً دون تكلف وعناء ولعل هذا -في مجال اللغة- هو الذي جعل المفكر (سبينوزا) يقول: (إنَّ من الجناية على الأجيال أن نعلمهم لغةً أخرى قبل أنْ يتقنوا اللغة الأم)، وفي استخدام كلمة جناية ما يؤكد أهمية تشكيل وعي الإنسان من خلال قيمه ولغته ومبادئه قبل الزجِّ به في مسارب الحياة المتشعبة.

إشارة :

أنا لا أرى جَوْرَ الأعادي عائقاً

لكنَّ ضعْفَ المسلمين العائقُ

 

دفق قلم
تشكيل الوعي
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة