Thursday  21/04/2011/2011 Issue 14084

الخميس 17 جمادى الأول 1432  العدد  14084

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

صبرنا الله على فراقك يا عبدالعزيز

رجوع

 

أحياناً يجد الشخص قدوته في طفل أو رجل كبير في السن أو امرأة أو زميل أو صديق، وبالرغم أن الكثيرين يتعمدون اختيار شخصيات تاريخية لكي ينتقوا منها ما يرونه شيئاً جديراً بالمحاكاة إلا أن الدنيا لا زالت بخير ولا زلنا نقابل البعض أحياناً من الأقارب أوالزملاء أو ممن نلتقي بهم بشكل عابر ونرى فيهم ميزات خاصة تستحق الاحتفاء. فليس من الضروري أن تكون القدوة من عصر قديم أو من مستوى اجتماعي وتعليمي معين أو حتى من فئة عمرية بذاتها فليست هذه معايير مقبولة للشخصية المميزة التي تستحق دور القدوة.

هذه المقالة هي احتفالية بقدوة خاصة بي وأجدها جديرة أن تعرض للناس كونها تحمل صفات مميزة. هذه السطور عن شخصية شاب سعودي رغم صغر سنه ورحيله المبكر عن هذه الدنيا إلا أنه ترك أثراً قوياً وإرثاً غنياً يستحق الإشادة والفخر. هذا الشاب هو بكل فخر أخي الحبيب عبدالعزيز بن فهد الدهمشي العنزي، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. كان عبدالعزيز شاباً لطيف المعشر، حسن الهندام، جميل المنظر، رزين المنطق، متسامحاً، متفهماً، حنوناً على أهله وعطوفاً عليهم، طموحاً، محباً للعلم، يفعل الخير لجميع الناس على اختلاف ألوانهم وأديانهم وأعراقهم ولا ينتظر كلمة شكراً. إنه كافل أيتام ومتصدق بجزالة. لم يكن أكبر إخوته في العمر ولكنه أكبرهم بلا شك في المكانة النفسية، فجميع إخوته، صغاراً وكباراً، يلجؤون إليه للمشورة والمساعدة، فقد كان صندوق أسرار هذا، والكتف الذي يبكي عليه ذاك، والقلب الذي يحتوي هذا، والنور الذي يقود، والمثال الذي يحتذى به. إن كنت تريد أن تفهم هذا الشاب الرائع، فتخيل شخصية تقابل الجفاء بالطيبة والصلابة باللين والعنجهية بالسمو، وهو يقوم بهذا اختياراً وليس ضعفاً، فهو معروف بشجاعته وقوة شكيمته، فغالباً ما يعرض نفسه للمخاطر من أجل سلامة غيره. كان يبهرنا بثقافته الغنية وتفهمه الذكي للثقافات ونظرته المتفائلة للعالم. إنه مثال رائع للرجولة والطيبة والنخوة والكرم، فقد كان أخاً عطوفاً وابناً باراً وصديقاً صدوقاً تعتمد عليه في كل الأحوال.

كان عبدالعزيز الدهمشي معيدا في كلية العلوم الطبية التطبيقية في جامعة اللمك سعود في الرياض، وقد اختير لتفوقه وتميزه لكي يتخصص في حقل نادر وحصل على فرصة ابتعاث إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكنا نتوقع له شأنا عظيماً حينما يعود.

الحقيقة، أن وصف عبدالعزيز ومدحه لا تكفيه السطور، فهو بالفعل شخصية مميزة على مستويات كثيرة يعرف كيف يتكلم مع الصغير والكبير والمثقف والبسيط والمتلعم والأمي، ورغم أني أخته الكبرى إلا أني تعلمت منه الكثير ولازلت حتى الآن أتعلم منه ما يجعلني إنسانة أفضل.

ما تركته في هذه السطور هو الابتلاء الكبير الذي كتبه الله عليه وعلينا، فحين تخرج من الكلية وبعد احتفالنا بوظيفته بدأ يشعر بآلام غريبة، وبعد فحوصات تبين أن ما كان يعاني منه هو مرض السرطان. كانت هذه صدمة كبيرة لكل من عرفه وليس فقط لنا، ولكنه فضل أن يعاني من مرضه بصمت ولا يثقل كاهل الناس بما يمر به، فأخفى مصيبته عن الكثير من الناس. ومع هذا تجده يقوى على نفسه ويستجمع قوته لكي يرحب بالضيوف ويجالس الأقارب وهو أثناء ذلك يحارب المرض الذي بدأ ينهش صدره. بدأت الآلام تشد عليه وكان طوال هذه الفترة صابراً محتسباً لم يتذمر مرة واحدة ولم يشتك لأحد وحتى الدمعة كان يحبسها لكي لا يحرق قلب والدته التي تضع كل دنياها في كف وابنها عبدالعزيز في كف لوحده. ومع جلسات العلاج المضنية والعذاب الذي يكاد يكون أكثر شدة من المرض ذاته لم ينس مراعاة أحوال أهله ومتابعة أخته في دراستهم وتلبية طلبات المنزل، واستمر في أعمال الخير في الحي ومع جماعة المسجد، كل هذا وهو يتعذب بصمت. هذا العذاب لم يمنعه من طلب العلم، فقد أكمل علاجه، وذهب طالباً للعلم محتسباً متوكلاً على رب العالمين. بدأ الدراسة في معهد اللغة في أمريكا، وكان مثالاً للطالب المتميز فأحبه كل معلميه وزملائه، وكان قدوة لهم في كل شيء. وفي اليوم الذي انتخب فيه رئيساً للطلاب وممثلاً لهم في مجالس الإدارة في الجامعة سقط مغشياً عليه. وهنا بدأ منحنى جديد من العذاب مع مرض السرطان الذي نشط عليه مرة أخرى، وهذه المرة لم تكن مثل أي مرة، فقد كان الأمر أكثر فداحة وأكثر شدة. بدأ علاجاً آخر وعذابات جديدة، ومع أنه مر بالكثير من الأيام والليالي العصيبة فلم أره يوماً واحدا يبكي أو يصرخ بل كانت كلمته دائماً إذا سألته كيف حالك: (أنا بخير)، و(لا تخافي علي، راح تزين الأمور). كان متيقناً أنه إلى خير مهما حصل له رغم أن الأطباء بدأوا يفقدون الأمل كثيراً إلا أنه كان صامداً شامخاً مؤمناً بالله وبالقضاء والقدر. أخبر الأطباء أهله أن هذه الحالة لم تمر عليهم من قبل، فعرف أهله أنها ربما تكون عيناً أو حسداً، فقد كان شاباً بالفعل متميزاً إلا أنه كان يرفض اتهام أي إنسان وكان دائماً يقول هذا قضاء الله وقدره وهو راض به.

عبدالعزيز الدهمشي كان عمره 25 سنة فقط حينما انتقل إلى ربه في 26 من شهر يناير من هذا العام 2011 في أمريكا. بكاه الجميع على اختلاف جنسياتهم وأعراقهم ودياناتهم وفتح له عزاء في السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وامتلأت المساجد، بل وحتى الكنائس في مدينته للدعاء والصلاة له. عبدالعزيز سيبكيه كل من أحبه إلى الأبد فقد كان وسيبقى مثالاً جميلاً للشاب العربي الخليجي المسلم المتميز. وأفتخر أنه أخي وخال أطفالي، وسيبقى لدينا مخلداً للأبد حتى إن فرقته الدنيا عن أهله وأحبابه لأن مثاله الجميل يستحق ذلك.

وعوضاً عن كون هذه المقالة احتفالاً بذكرى أخي إلا أني كذلك أتمنى أن يقرأها الناس بوصف عبدالعزيز قدوة في الصبر على البلاء والعطف والشجاعة والنخوة وتحمل المسؤولية، وهذه المعاني نحتاج من يذكرنا بها كثيراً في حياتنا. رحمك الله يا عبدالعزيز وأكسنك فسيح جناته وأعاننا وصبرنا الله على فراقك أيها البطل، ولعلي هنا أستعير أبيات الخنساء التي أجدها مناسبة جداً في وصفك أيها العزيز:

إذا القوم مدوا بأيديهم

إلى المجد مد إليه يدا

فنال الذي فوق بأيديهم

من المجد ثم مضى مصعدا

يحمله القوم ما عالهم

وإن كان أصغرهم مولدا

ترى المجد يهوي إلى بيته

يرى أفضل المجد أن يحمدا

وإن ذكر المجد ألفيته

تأزر بالمجد ثم ارتدى

د. مها فهد الدهمشي - كلية الطب - جامعة الملك سعود

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة