Friday  22/04/2011/2011 Issue 14085

الجمعة 18 جمادى الأول 1432  العدد  14085

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

      

يشتهر تنظيم القاعدة وأعضاؤه من أفراد الفئة الضالة بالكذب والتدليس ولي أعناق النصوص الشرعية من قبل منظريهم من قليل العلم الشرعي، والأخذ بظاهر النصوص الشرعية وعدم معرفتهم بالناسخ والمنسوخ وكيفية الاسنباط ومعرفة الدلالة اللفظية والشرعية والقواعد الفقهية وغيرها من الأحكام الشرعية التي لا يعرفها إلا الراسخون في العلم الشرعي. ولعل تلبيس تنظيم القاعدة على العوام بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، أحد أشهر النصوص التي يتشدقون بها دون علم شرعي أو ضابط فقهي، من أجل أن يضفوا الشرعية على أعمالهم الإجرامية، وفيه شبهتان:

الأولى: البعض -هداه الله- يأخذ بظاهر الحديث دون معرفة المعنى الصحيح له، والرد عليهم بأمرين:

الأول: أن المقصود باليهود والنصارى هي الدول والحكومات اليهودية والنصرانية، وليس المقصود منها الأفراد أو المعاهدين، وقد كان في عهد الخلفاء الراشدين يهود ونصارى، ومعروفة قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع الرجل اليهودي المسن الذي كان يشكو من المرض والجزية والهرم، فأمر له أمير المؤمنين بمال من بيت مال المسلمين، وأحضر له طعاماً وأكل معه، والقصص كثيرة في هذا المجال.

والثاني: هو أن الخطاب هنا موجه لولاة الأمر وليس لعامة الناس، وذلك بأن بعض الناس يعتقد بأن قتلهم قربة إلى الله لأنه يطبق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ وأمر شنيع فظيع لأنه يجر مفاسد على البلاد، ويسبب فوضى وقلقاً. وأضرب المثال ليتضح المقال، فلو أن رجلاً قام بقتل نفس فأراد رجل آخر بأن يتقرب إلى الله بتنفيذ حكم الله فيه فقام بقتله دون أن يسلمه للمحكمة أو لقاض ليقضي في أمره، فهل هذا العمل يعد تنفيذاً لأوامر الله؟. طبعاً لا بل يحق لأهل القاتل بأن يطالبوا بدمه. ولذلك فلا يجوز لعامة الناس بأن تقتل المعاهدين من دون سبب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها من مسيرة كذا وكذا).

الشبهة الثانية: قالوا دل الحديث على أن كل المشركين من اليهود والنصارى لا يجوز لهم الإقامة في جزيرة العرب، إلا لفترة وجيزة لقضاء حاجة أو استيفاء دين أو غيره، وأنه ليس لهم عهد ولا أمان ولا ذمة في جزيرة العرب وبخاصة الأمريكان.

وبناءً عليه، فالمقيمون في المجمعات السكنية -وفق رأيهم- لا ينطبق عليهم الجواز، فلذلك يجب إخراجهم ولو بقوة. أما كونهم ليسوا بأهل ذمة: فالذي نعرفه بأن أهل الذمة هم: أناس يعيشون في بلاد الإسلام وتجري عليهم أحكام المسلمين، وهؤلاء لا يكونون في جزيرة العرب، لأن الكافر لا يسمح له باستيطان جزيرة العرب. كما أنهم ليسوا بأهل هدنة، فنحن نعلم بأن المهادن هو حربي عقدنا معه اتفاقاً على وقف الحرب بيننا وبينه لمدة معلومة على أن يكون في بلاده ولا يحارب المسلمين أو يعين على حربهم، فالجنود الأمريكان في بلاد المسلمين وهم يحاربون المسلمين الآن في العراق وأفغانستان.. فكيف يكونون أهل هدنة؟! ثم ألم ينقض الأمريكان عهدهم في كل حين، فهل نبقى نحن على عهد هم نقضوه؟ طبعاً هذا إذا فرضنا مجرد فرضية أن العهد الذي دخلوا به عهد صحيح يثبت أثره لعاقده. لكن الصحيح أن العقد الذي يجيز للكفار الإقامة في جزيرة العرب إقامة طويلة هو عقد باطل، كما ذكر ذلك الشيخ العلامة بكر أبو زيد - عضو اللجنة الدائمة وعضو هيئة كبار العلماء - في كتابة «خصائص جزيرة العرب» (ص 34) هذا بالإضافة إلى أن الأمريكان محاربون بالاتفاق، وقد حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أن تقتل مقاتلتهم فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال (أصبت حكم الله من فوق سبعة أرقعة)، فكان الصحابة يأتون بالصبي فينظرون فإن كان أنبت قتلوه، وإلا تركوه! فكان هذا دليلاً على أن البالغ من العدو والخائن للعهد والمحارب لله ورسوله والمسلمين يعتبر مقاتلاً يجوز استهدافه وقتله. فالأمريكان محاربون خانوا العهد وحاربوا المسلمين في كل مكان سواء بالمباشرة كما في أفغانستان والعراق، أو بالمساعدة كما في الشيشان وفلسطين بدعمهم للروس واليهود هناك.

فإن قيل تلك بلاد حرب فهل الأمريكان الذين يدفعون الضرائب وأيد 70% منهم رئيسهم في الحرب على العراق ليسوا محاربين؟ فإن قيل بعضهم ليس محارباً فهل في حالة عدم القدرة على التفريق بينهم يلزمنا أن نكف عنهم جميعاً؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن الذين يبيتون فيصاب ذراريهم: (هم منهم)؟ ثم أنهم بعد الإنذار بأنهم لا عهد لهم في بلاد المسلمين لا يبقى لهم عهد. أما كونهم أهل أمان فنحن نتساءل من أعطاهم الأمان!! أحاكم اتفق العلماء على كفر مثله لموالاته الكفار، أم حاكم اتفق العلماء على كفر مثله لتحكيمه غير شرع الله؟

وإجابتنا عليهم من وجوه.

الوجه الأول

هذا الحديث لا يدل على جواز قتل من في جزيرة العرب من اليهود والنصارى والمشركين البتة، لا بدلالة منطوقة ولا بدلالة مفهومة. ولا يدل كذلك على انتقاض عهد من دخل جزيرة العرب من اليهود والنصارى لمجرد الدخول، ولم نجد من قال بذلك من أهل العلم. وغاية ما فيه: الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وهو أمر موكول إلى إمام المسلمين ولو كان فاجراً. ولا يلزم الأمر بإخراجهم إباحة قتلهم إذا بقوا فيها، فهم قد دخلوها بعهد وأمان حتى على فرض بطلان العهد، لأجل الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فإن الكافر الحربي لو دخل بلاد المسلمين وهو يظن أنه مستأمن بأمان أو عهد لم يجز قتله حتى يبلغ مأمنه أو يعلمه الإمام أو نائبه بأنه لا أمان له. فقد ذكر المرداوي في (الإنصاف) (10-348- 352) (من المقنع والشرح الكبير) عن الإمام أحمد أنه قال: «إذا أشير إليه - أي الحربي - بشيء غير الأمان فظنه أماناً فهو في أمان، وكل شيء يرى العلج (أي العدو من الكفار) أنه أمان فهم أمان، وقال إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله، لأنه إذا اشتراه فقد أمنه، قال الشيخ تقي الدين - يعني ابن تيمية - فهذا يقتضي انعقاده بما يعتقده العلج، وأن لم يقصده المسلم، ولا صدر منه ما يدل عليه» أ. هـ.

كما أن الأمان يجوز من الإمام الأعظم للكفار، ومن سائر المسلمين لآحاد الكفار، قال في الروض (4-296) «ويصح الأمان من مسلم عاقل مختار غير سكران ولو قنا - أي عبداً - أو أنثى بلا ضرورة من إمام لجميع المشركين ومن أمير لأهل بلدة ومن كل أحد لقافلة وحصن صغير». فيصبح الأمان لهؤلاء الكفار من الإمام ومن سائر المسلمين.

الوجه الثاني:

لا يسلم بقول من قال إن هؤلاء لا عهد لهم ولا أمان ولا ذمة، فقد قال الشافعي: «فرض الله عز وجل قتال غير أهل الكتاب حتى يسلموا، وأهل الكتاب يعطون الجزية، وقد قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة 286)، فهذا فرض الله على المسلمين ما أطاقوه، ولا بأس أن يكفوا عن قتال الفريقين من المشركين وأن يهادنوهم، وقد كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كثير من أهل الأوثان بلا مهادنة إذا انتاطت دورهم عنه مثل بني تميم وربيعة وأسد وطي، حتى كانوا هم الذين أسلموا، وهادن الرسول صلى لله عليه وسلم ناساً, ووادع حين قدم المدينة يهوداً على غير ما خرج أخذه منهم. انظر الأم (884).

قال الإسلام في الاختيارات (ص:455): «ويجوز عقدها - أي الهدنة - مطلقاً ومؤقتاً، والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو، ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة في أظهر قولي العلماء، أما المطلق فهو عقد جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة».

وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2- 874): «والقول الثاني هو الصواب، أنه يجوز عقدها مطلقاً ومؤقتاً، فإذا كان مؤقتاً جاز أن تجعل لازمة، ولو جعلت لازمة جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة والوكالة والمضاربة ونحوهما جاز ذلك، لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لا يمكن أن تكون لازمة التأبيد بل متى شاء نقضها، وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة، والمصلحة قد تكون في هذا وهذا، وعامة عهود النبي صلى الله عليه وسلم كانت كذلك مطلقة وغير مقيدة، جائزة غير لازمة، منها عهده مع أهل خيبر مع أن خيبر فتحت وصارت للمسلمين، ولكن سكانها كانوا هم اليهود».

الوجه الثالث

أن لأهل العلم في تحديد جزيرة العرب المقصودة في الحديث كلاماً طويلاً وخلافاً مشهوراً بعد اتفاقهم على تحريم استيطانهم لحرم مكة، وليس هذا موضع بسط الخلاف.

الوجه الرابع

أن الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب يحمل على ما إذا لم يحتج المسلمون إليهم في عمل لا يحسنه غيرهم، أو لا يستغنى عن خبراتهم فيه. ويدل لذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على الإقامة بخيبر ليعملوا فيها بالفلاحة، لعجز الصحابة وانشغالهم عن ذلك. ولذا أبقاهم أبو بكر طيلة حياته، وعمر صدراً من خلافته، لحاجة المسلمين إليهم. ولما كثر عدد المسلمين في آخر عهد عمر، وقاموا بشأن الفلاحة والزراعة استغنوا عن اليهود ونقض بعضهم ذمته فأجلاهم عمر رضي الله عنه إلى الشام. يقول الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7 89) بعد ما ساق مصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقيهم: «فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غالوا في المسلمين وغشوهم ورموا ابن عمر من فوق بيته ففدعوا يده (والفدع ميل في المفاصل من عظام اليد) فقال عمر رضي الله عنه: من كان له سهم من خيبر فليخرص حتى يقسمها بينهم، فقال رئيسهم: لا تخرجنا ودعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله، فقال عمر لرئيسهم: أتراه سقط عني قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك (كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوماً ثم يوماً ثم يوماً وقسمها عمر -رضي الله عنه بين من كان شهد خيبر يوم الحديبية».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28-88-89): «لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحةً؛ لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم أرض خيبر، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم -يعني الجهاد- فلما كان زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وفتحت البلاد، وكثر المسلمون، واستغنوا عن اليهود؛ فأجلوهم وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال (نقركم فيها ما شئنا) وفي رواية: «ما أقركم الله». وأمر بإجلائهم عند موته -صلى الله عليه وسلم- فقال (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب). ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين -الجزيرة- بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي المسألة نزاع ليس هذا موضعه» ا.هـ.

وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2-476) - بعد أن ذكر أن الكفار: إما أهل حرب أو أهل عهد، وأن أهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان، قال عن أهل الأمان: «وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاءوا دخلوا فيه، وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها، وحكم هؤلاء ألا يهاجوا، ولا يقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان»اهـ.

وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله - شرح صحيح مسلم (مخطوط): - عندما سئل: هل يجوز استخدام العمال من أهل الكتاب من اليهود والنصارى؟ - فقال: «نعم يجوز ذلك، لكن لا يجوز أن يسكنوا ويكونوا مواطنين، هذا ممنوع في جزيرة العرب لكن إذا دخلوا في تجارة أو عمل غير مقيمين دائماً فلا بأس»اهـ. ويشهد لذلك ما رواه البخاري في صحيحه (3700) في قصة مقتل عمر رضي الله عنه الطويلة، وفيه أنه لما قُتل أمر ابن عباس أن ينظر من الذي قتله، فلما أخبره أنه أبو لؤلؤة - قال عمر: «قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال -أي ابن عباس- إن شئت فعلت!. أي إن شئت قتلنا، قال كذبت، بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم».

قال ابن حجر: في الفتح (7-64): قوله: «قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة» في رواية ابن سعد من طريق محمد بن سيرين، عن ابن عباس، فقال عمر: «هذا من عمل أصحابك! كنت أريد أن لا يدخلها علج من السبي، فغلبتموني»، وله من طريق أسلم مولى عمر قال: قال عمر: «من أصابني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، واسمه فيروز، قال: قد نهيتكم أن تجلبوا عليها من علوجهم أحداً فعصيتموني». ونحوه في رواية مبارك بن فضالة وروى عمر بن شبة من طريق ابن سيرين قال: «بلغني أن العباس قال لعمر - لما قال لا تدخلوا علينا من السبي إلا الوصفاء - إن عمل المدينة شديد، لا يستقيم إلا بالعلوج. قوله: «إن شئت فعلت» قال: ابن التين: إنما قال له ذلك؛ لعلمه بأن عمر لا يأمر بقتلهم قوله: «كذبت» هو على ما أُلِفَ من شدة عمر في الدين؛ لأنه فهم من ابن عباس - من قوله: «إن شئت فعلنا»، أي قتلناهم، فأجابه بذلك، وأهل الحجاز يقولون: «كذبت» في موضع «أخطأت»، وإنما قال له «بعد أن صلوا»؛ لعلمه أن المسلم لا يحل قتله، ولعل ابن عباس إنما أراد قتل من لم يسلم منهم» انتهى.

فهذا الصنيع من عمر رضي الله عنه - وهو الذي أجلى اليهود إلى تيماء وأريحاء دليل على أنه فَهِمَ من الأمر بالإخراج أنه إخراج خاص بالمواطنين، وأما المقيمون من هؤلاء إقامة غير دائمة، أو الواردون على المدينة - وهي من الجزيرة بالإجماع فلا يشملهم النهي ولم يكن عمر - وهو مَنْ هو في قوته في دين الله - ليجامل العباس أو ابنه في بقاء العلوج وهو يرى أن ذلك محرم، ولكنه كان يرى أن ذلك - أي عدم استقدامهم - أولى، ولكنه لم يلزم به، مع أنه إمام هدى، وأمير المؤمنين، وأحد الخلفاء الراشدين، ومثله لإمامته العامة - يسوغ له أن يأمر بما يرى مصلحته، وإن كانت المسألة من مسائل الاجتهاد، ويجب السمع والطاعة له، ومع ذلك لم يفعل عمر من ذلك شيئاً!.

فأي برهان أوضح من هذا على دلالة حديث الأمر بإخراج اليهود والنصارى - الذي كان عمر أحد رواته - كما ثبت في صحيح مسلم.

كما يشهد لهذا ما رواه ابن خزيمة في صحيحه (1329) عن جابر -رضي الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة 28)، قال: «إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة -أي له عقد أمان مع المسلمين، وليس المقصود أهل الذمة بالاصطلاح الفقهي المعروف فتُحمل - إذاً - دلالة حديث إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب على المنع من استيطان المشركين لجزيرة العرب، لا إقامتهم فيها للعمل المؤقت، أو التجارة كما هو شأن الكفار الوافدين.

الوجه الخامس

أن الكفار في البلاد في الجملة أهل وفادة وليسوا من أهل الإقامة، وهذا لا يسوّغ الدخول لكل وافد من الكفار، فإن هذا يُمنع بمناط آخر، لكن من احتاجه المسلمون ساغ وفوده، وقد قاله النبي في وصيته التي فيها ذكر إخراجهم (وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) ما في الصحيح، البخاري (3053)، ومسلم (1637)، وكأنه تنبيه على الجمع بين الحكمين، وأنه لا تعارض بينهما. ولهذا فإن عمر لما أخرج اليهود؛ استند إلى الحديث، لكنه مع ذلك ترك بعض أعيان الكفار من الرقيق وغيرهم لم يخرجهم فتأمل هذا.

الوجه السادس

أن القول بانتقاض عهد كل مشرك لأجل إقامته في جزيرة العرب يلزم منه أن تكون دماء الكفار من غير الأمريكيين والأوروبيين مهدرةً، وأموالُهم مباحةً؛ فليس انتقاض العهد بالإقامة في الجزيرة مخصوصاً بالنصارى الأمريكان والأوربيين وحدهم! فيلزم من القول بإهدار دماء نصارى الأمريكان والأوربيين القولُ بإهدار دماء وإباحة أموال نصارى الدول الأخرى، إذ جميعهم نصارى مشركون، وهم في الحكم سواء.

ولا شك أن القول بانتقاض عهد كل مشرك لأجل إقامته في جزيرة العرب، ومن ثم إهدار دمه وإباحة ماله يفضي إلى فوضى واضطراب وظلم. ومما يعجب له أنه على مدار عشرات السنين لم يثر هذا الأمر ليكون سبباً لقتال أهل الأمان مع وجودهم بين ظهرانينا.

إن هذا ظاهر في أن مسألة جزيرة العرب لم تكن مسألة أصلية لدى هؤلاء، وإنما استدعيت لتقوية الموقف الحادث من هذه التفجيرات.

الوجه السابع

أن فساد الوصف لا يلزم منه فساد الأصل، ولو فرض أن الأمان المعطى لطائفة من الكفار قد تضمّن شروطاً فاسدة، فإن هذا لا يلزم منه فساد عقد الأمان وإهدار دم الكافر. ثم إن إنذار العدو (أمريكا مثلاً) بنقض العهد وإعلان الحرب ليس موكولاً لآحاد الناس؛ بل هو موكول إلى أولي الأمر من العلماء والسلطان الأعلى للدولة. ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الجهاد مع ولي الأمر، براً كان أو فاجراً، والسمع والطاعة بالمعروف كما في الحديث (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) أخرجه البخاري (7142) من حديث أنس - رضي الله عنه. وفرقٌ بين إنكار المنكر وحض الحاكم على إنكاره بقدر المستطاع، وبين الإقدام على التغيير باليد، وارتكاب مفاسد لا حصر لها.

الوجه الثامن

ليس كل موالاة للكفار تكون كفراً، فقد اشترط بعض العلماء مع مساعدة الكفار المودة لهم؛ لقول الله عز وجل {..تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ..} (الممتحنة 1)، واشترط بعض العلماء ألا يخشى المسلم سطوة الكافر وظلمه عن المساعدة، لآية الممتحنة وقصة حاطب بن أبي بلتعة (راجع تفسير القرطبي سورة الممتحنة).

قال الشيخ عبد اللطيف بن حسن في الدرر السنية (1-466): «وأما إلحاق الوعيد المترتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع في حق المعين كحب الله ورسوله إلى قوله: وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد، ففعل حاطب نوع من الموالاة بدليل سبب نزول الآية في قوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) الآية، فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به ولم يكفر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال خلوا سبيله). كما أنه يلزم من هذا تكفير المعين، وتكفير المعين لا بد من شروطه وانتفاء موانعه، قال الشيخ ابن تيمية في الفتاوى (12-498): «وأما الحكم على المعين، بأنه كافر أو مشهود له بالنار فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه، وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه أنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وقال ابن تيمية -رحمه الله عن الإمام أحمد في المجلد (23-348): «وإنما يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته والقائلين بخلق القرآن، وقد ابتلي بهم الإمام حتى عرف حقيقة أمرهم، ومع ذلك ما كان يكفر أعيانهم» انتهى

وأيضاً قال ابن تيمية في المجلد (12-466): «وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبيَّن له، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد قيام الحجة وإزالة الشبهة».

الوجه التاسع

أن كفر الحاكم ليس موجباً لبطلان عقد الأمان؛ لأن الكافر دخل بلد الإسلام على أن الحاكم نافذ الكلمة وله الولاية والسلطة.

والأمان ليس من الأمور التي لا تقام إلا بأمر الأمير وحده، ولا يشترط فيها تمام شروط الولاية بل الثابت عكس ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المؤمنين (يسعى بذمتهم أدناهم) أخرجه البخاري (3179)، ومسلم (1370)، وأحمد (993) من حديث علي - رضي الله عنه - وكذلك أمان أم هانئ للمشركين (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) أخرجه البخاري (357)، ومسلم (336-82) - كتاب الصلاة، من حديث أم هانئ -رضي الله عنها-، ولذا نص العلماء -كما سبق- على أن الأمان يصح من كل مسلم ولو عبداً أو أنثى.

ومهما يكن من شيء: فقد اختلف العلماء في المقصود بإخراجهم، وهي مسألة محل اجتهاد، وفيها خلاف معروف. ومن تمسك برأي سابق للأئمة فلا يجوز الطعن عليه، فضلاً عن نقض العهد برأي آخر، وإلا لسقطت كثير من العقود في المعاملات والعقود بين المسلمين أنفسهم، لوجود من يقول ببطلان أو فساد هذا العقد أو ذاك، ومعلوم أن مسائل العقود والعهود فيها نزاع كثير معروف في كلام الفقهاء، وليس لمن رأى رأياً مخالفاً أن يحمل الناس عليه، أو يفتات على جماعة المسلمين.

باحث في الشؤون الأمنية الفكرية ومكافحة الإرهاب -

hdla.m@hotmail.com
 

تلبيس تنظيم القاعدة على العوام بحديث (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) والرد عليهم
د. محمد بن حمود الهدلاء

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة