Monday  25/04/2011/2011 Issue 14088

الأثنين 21 جمادى الأول 1432  العدد  14088

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قيمتك كإنسان بقيمة حسابك بالبنك كرقم.. إنها القرية العالمية المتلاحمة باقتصاد المعرفة.. يعصرك ضغط الاتصالات وانفجار المعلومات في ثورة تكنوإلكترونية ترهقك. لا جديد في ذلك هذه الأيام، لكن ألفن توفلر قبل أربعين عاماً رأى ما نعيشه الآن..

توفلر أصدر كتابه «صدمة المستقبل»، مثيراً المخاوف بشأن التطورات التكنولوجية، فالتغييرات تسارعت بشكل خاطف لدرجة أصابتنا بالضغط والشدّ النفسي، بسبب صعوبة التكيف. والغريب أن توفلر أصدر بعده كتاباً متفائلاً، بعنوان «الموجة الثالثة»، فمثلما أن العصر الصناعي «الموجة الثانية» خرج من العصر الزراعي «الموجة الأولى»، كذلك عصر المعلومات «الموجة الثالثة» نتج من عصر التصنيع.

وكثير من توقعاته تحقق، مما جعل كتابه أشهر كتاب مستقبلي وجعله أهم مفكر مستقبلي بالنسبة للرأي العام ولرجال الأعمال، إلا أنه لم يحظ بنفس التقدير من المفكرين والمثقفين، لأنهم رأوا فيه متخصصاً بالتطورات التكنولوجية أكثر من كونه مفكراً شمولياً. وقد تطرق مقالي الفائت للكتاب وهنا نقد لفكرته، وهو جزء معدل مما عرضته بورقة عمل لندوة نقاش عن توفلر ومشروعه بمهرجان الجنادرية..

لا يؤخذ على كتاب «الموجة الثالثة» بأنه مفرط بالتفاؤل فقط، بل لأنه تفاؤل من مستشار ثقافي في شركة عالمية يوجه آراءه لرجال الأعمال ويبشرهم بالظروف المثلى لمرحلة اقتصادية حتمية تزدهر فيها المصالح التجارية. ومما طرحه أن الفجوة بين المنتج والمستهلك ستردم، حيث سينتج المستهلك بضاعته. وهنا أنشأ توفلر مصطلح «بروسومر» (prosumer) دامجاً كلمتي المستهلك والمنتج. وفعلاً نجح توقعه، وصار المستهلك يقوم بعمل البائع أو المنتج، وهذا ما نجده حالياً على نحو متزايد مع الإنترنت..

لقد بشَّر توفلر بأن توجهات الموجة الثالثة لا بد أن تكون مربحة، ولا بد أن تكون شعبية لتصبح مربحة. كل موجة من الموجات الثلاث التي قسمها توفلر للتاريخ تقوم على الاقتصاد. هنا تتحدد حياة الإنسان بناء على المنطق التجاري. فبالنسبة لتوفلر فإن النشاط حتى بالحيز الاجتماعي إذا لم يكن له قيمة اقتصادية فهو مضيعة للوقت، إنه نوع من الخطيئة على حد تعبير الناقد الثقافي سيجل. وتغدو نشاطات معيشتنا اليومية بلا قيمة إذا لم نحولها إلى نشاط منتج اقتصاديا. لذلك، فإن توفلر، كما يقول سيجل، مشغول تجارياً في بيع المفاهيم، وليس مناقشة الأفكار، فمفهومه ل «الموجة الثالثة» يعبر عن حلم رجال الأعمال لا مفهوم المفكر.

ما هي جناية هذا المفكر العظيم؟ إلا أنه نجح في توقعاته؟ على العكس، لكن نجاحه هيأ المناخ للإشادة بأفكاره باحتفاء غير نقدي لأنها تلاقت مع مصالح رؤوس الأموال. ففي التسعينات تم استثمار نجاح توقعاته لترويج مزيد من المفاهيم التجارية عبر كتب تمجد تنبؤه المذهل بالبروسومر، واحتفل المروجون، وأغلبهم مثل توفلر مستشارون بالشركات العولمية الكبرى، فرحين برفع راية الحرية التجارية باسم الديمقراطية.. باسم حرية الاختيار وحق الوصول للمعلومات، باسم التفرد والتميز.. حسناً، كل هذا جميل رائع، فما المشكلة؟

المشكلة أن هذا الترويج أتى لتمرير مبدأ الربحية بالمعنى الاقتصادي الضيق مما دعم التوجه الرأسمالي العولمي ليصبح تياراً جارفاً متعسفاً بدلاً من عقلنته.. فكل نشاط إنساني وكل منتج ثقافي تحول إلى سلعة وإعلان تجاري.. تحول كل شيء إلى بضاعة، حتى مشاعر الإنسان أصبحت مجرد سلعة. وهذا مبدأ طبيعي، بمعنى أنه غير مصطنع ولا مفروض بالإكراه، بل تلقائي أنتجته المرحلة، لكن أيضا تم ضخه والترويج له معرفياً وإقناع الرأي العام به، كقدر حتمي لا مناص منه..

كان ينبغي أنسنته قليلا، ومقاومة تفرده بنا دون سائر المبادئ، فثمة مبدأ «معنوي» كما يسميه السوسيولوجي آلان تورين يواجه المبدأ الطبيعي. فلا بد من ضبط جماح العولمة بنمطها الرأسمالي الشرس عبر إعلان إنسانيتنا التي تمتلك حقوقا فوق طبيعية، وتمتلك وجوداً عضوياً يتميز عن البضاعة، فالإنسان ليس مجرد كيان اقتصادي كما تريد أن تصوره لنا طروحات توفلر.

لقد أصبح على كل عمل إنساني لا يخدم أرباح الشركات، إما أن يتكيف مع المنطق الربحي أو يندثر؛ من الأبحاث العلمية إلى الأدب والفن والرياضة مروراً بالفلسفة والتأريخ، عليها أن تؤسس عملها على مبدأ الربح، فلا مكان للإبداع ما لم يكن مربحاً.. لقد تحول هذا المفهوم الاستلابي إلى دكتاتور باسم الديمقراطية!! فباسم الحرية التجارية يتم التنازل عن الجدارة.. وباسم الشعبية يتم التنازل عن التميز.. وباسم الأغلبية يتم التنازل عن الأقليات.. وباسم الازدهار الاقتصادي يتم التنازل عن الفقراء.. وفي نهاية المطاف وجدنا أن الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى!!

هنا يسيطر مفهوم الربحية! فالربح يسند على الإعلان، والإعلان يستند على رغبة الأغلبية.. وباسم رغبة الجماهير أصبح المستهلك لا ينتج بضاعته لنفسه فقط، بل ينتج الحقيقة للآخرين.. محولاً عالمه الافتراضي إلى عالم واقعي، حتى في صنع الأخبار السياسية التي نشاهدها كل مساء أمام الشاشات.. فعبر مشاركته الإلكترونية يقوم المتلقي (الأغلبية) بتصحيح الخبر وبالتعليق عليه وتحليله وتوجيهه، ثم يُصنع الخبر الذي تريده الأغلبية لا الموجود في الواقع!

من خلال الإنترنت والهاتف النقال والفضائيات أصبح المتلقي هو صانع الخطاب لأنه يجلب الإعلان.. أنظر إلى التصويت في الصفحة الأولى بمواقع الإنترنت للصحف وللفضائيات؛ وانظر في نهاية البرامج التلفزيونية كيف يصدر المتلقي الأحكام النهائية في كافة القضايا، ويحدد الجيد من الرديء في الأدب والفن والفكر والسياسة، بشرعية الأغلبية وليس بالجدارة ولا بالحقوق ولا بالمنهجية المتبعة لفن من الفنون أو علم من العلوم أو قضية من القضايا.. حتى في القضايا المطروحة أمام المحاكم أصبح المتلقي يشارك في البت فيها..

لا ننخدع، ليست المسألة ديمقراطية شعبية مؤسسة على نبض الشارع أو رأي الجمهور، بل عملية اقتصادية مؤسسة على جلب الإعلان التجاري، فلو غضبت الحكومة (في الدول غير الديمقراطية) أو أصحاب النفوذ (في الدول الديمقراطية) لضُرب بالشارع والجمهور عرض الحائط، فرأس المال جبان.

هل سيستسلم العالم لحتمية توفلرية تعصف بنا جميعاً كبضاعة تشحن؟ لا أظن ذلك، فثمة مقاومة ضعيفة، سيشتد عودها، لا بد أن يشتد عودها لأننا ببساطة بشر ولسنا بضاعة.. لكن لتلك مقالة أخرى لا يكفيها الحيز هنا..

alhebib@yahoo.com
 

هذا الذي رأى، ثم ورَّطنا!
عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة