Sunday  08/05/2011/2011 Issue 14101

الأحد 05 جمادىالآخرة 1432  العدد  14101

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

عندما فاجأني نبأ وفاة الصديق العزيز الكابتن أحمد مطر.. في ذلك (الخميس) المعتم صباحه.. كما فاجأ بالتأكيد -كثيرين من أقرب المقربين إليه نفسياً وروحياً من أصدقائه- ممن لا يقيمون معه في (دبي) التي اختارها مدينة لـ»تقاعده».. ليس لأنها الأرحب حياة، والأوسع حرية، والأكثر انسجاماً مع

العصر ولغاته، أو لأنها «هونج كونج» الخليج التي تتعانق فيها ثقافتا الشرق والغرب.. ولكن لأنها المدينة التي تستوعب أحلام بناته الثلاث (دالية ودانة وديما) في تعليم جامعي طليق، لا قيود ولا «وصاية» فيه على «تخصصاته» بين المسموح منها للفتيات والممنوع عليهن..!!.

أقول.. عندما فاجأني نبأ الوفاة، وما تبعه من أخبار مزلزلة -كالعادة- عن مكان وموعد دفنه.. بعد صلاة العصر من يوم الجمعة بـ»مقبرة الرويس»، وأن أول أيام عزائه سيكون مساء يوم السبت بمنزله في جدة.. كان يتأكد لي أنني وقعت مصادفة في شر ترتيباتي المسبقة، التي كانت تقضي بسفري إلى خارج المملكة لعشرة أيام.. بدءاً من ثاني أيام عزائه (الأحد)، ثم العودة.. لأفرغ لكتابة مساهمتي في ندوة الجنادرية الكبرى عن (المملكة والعالم)، الذي حُدد موعدها ومكانها بعد ظهر يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر إبريل الماضي بإحدى قاعات فندق الماريوت الرئيسية بمدينة «الرياض».. وهو ما يعني وقد غص قلبي وغامت عيناي بنبأ موته المفاجئ بأنني لن أتمكن حتى من وداعه بكلماتي، وهو أمر لم أكن لأطيق تصوره.. فضلاً عن الاستسلام له، فماذا لو نظرت روحه في غيبته.. تتلفت بحثاً عن وجهي بين الوجوه، وكلماتي بين كلمات المودعين له والباكين عليه والراثين لفقده.. ولم تجدها؟ ولذلك وجدتني -وبصورة تعويضية تلقائية- آخذاً طريقي لـ»مقبرة الرويس» عند الساعة الثالثة عصراً.. لأكون أول الواقفين على بابها المغلق حتى تلك الساعة، وأول المنتظرين لقدومه عند بوابة وداعه، فأرى عبر تلك الساعة والنيف.. جموع الزاحفين إلى المقبرة من كل أبناء الوطن، ومدنه، وطبقاته، وأطيافه ولألمح بينهم شباب الطيارين وشيوخهم وقيادات (السعودية) ورجالها وقد جاؤوا ركباناً، وسيراً على الأقدام.. بينما اعتمد البعض منهم على (عكاكيزهم)، واستسلم البعض الآخر لكراسيهم المتحركة.. ليكونوا جميعاً في وداع رجل أحبهم وأحبوه، وقدرهم فأخلصوا له كل الإخلاص، وعندما غادرهم -برغبته وإصراره- بعد أربعة عشر عاماً من إدارته.. كان قد أصبح في حياتهم مثلاً أعلى: قدوة.. يُحتذى بها، ونجماً.. يُقتفى أثره.

بين تلك الجموع الحزينة الباكية.. كنت أبحث عن صديقه الأول وزميله وخليله: الأستاذ إبراهيم الدغيثر.. لعلي أقتسم معه بعض حزني، أو لعلي أجد لديه ما يهون عليّ.. لحظتي، وقد كنت واثقاً من أنه كان إلى القرب منه.. في أيامه وساعاته الأخيرة، فأخبرني وهو يغالب دموعه بما كان في تلك الأيام.. من دخول (الكابتن مطر) لإحدى مستشفيات (دبي)، وإجرائه لجراحة في صدره، وكيف أنها أسفرت عن مضاعفات استلزمت نقله على وجه السرعة بالإخلاء الطبي.. إلى (تخصصي جدة)، حيث استقرت حالته بعد جراحة أخرى.. كان مقدراً أن يغادر بعدها إلى منزله.. إلا أن للآجال كلمة أخرى لم نتبينها، إذ سرعان ما تداعت صحته.. ليسلم الروح راضياً بقضاء الله وقدره، ثم أضاف: لقد كان كثيراً ما يذكرك ويتذكرك، خاصة إذا جاء ذكر «الصحافة» والأدب والكتَّاب.. فزاد حزني حزناً، وهمي هماً.. إذ إن الوقت لم يعد مسعفي، والكلمات التي قلتها على الهاتف عن الكابتن مطر وحياته وإنجازاته فور تلقي نبأ وفاته الصاعق.. لبعض زملائي من الصحفيين أثناء تغطياتهم لحدث وفاته -والتي نشرت في ذات الصباح- لم تكن لتكفيني.. ولم تكن لترضي خمسة وعشرين عاماً -على الأقل- من المحبة التي جمعتنا على ضفافها، وها هي تأتي الآن لحظة نهايتها.. فراقها في هذا المكان، لأغادر المقبرة في الخامسة والنصف.. بعد أن قدمت عزائي لعائلته وفي مقدمتهم أخيه، أما داليا وشقيقاتها.. فلم يكن لي من سبيل إلى الوصول إليهن لا في تلك الساعات الثقيلة الضجرة.. ولا في اليوم الأول من أيام عزائه في بيته.

في رحلتي تلك، وأثناء إعدادي لكلمة (الجنادرية).. كنت أتابع كلمات الرثاء والتأبين التي كتبها أصدقاؤه ومحبوه، فلم تشبعني «كماً» ولم ترضني «كيفاً».. بينما كانت صورته، وابتسامته المريحة الوادعة، ورشاقة الحوار معه.. في مكتبه، فبيته بعد التقاعد.. ثم على الهاتف عندما انتقل وأسرته إلى «دبي».. لم تكن لتغيب عن بالي إلا لتحضر ثانية، وهو يحاول في لقاءاتنا على القرب أو البعد (لملمة) ابتسامته على الدوام.. حتى لا تتحول إلى ضحكة رنانة كتلك التي كثيراً ما تنطلق من صدري إثر تعقيب منه أو تعليق لي أو «قفشة» في مكانها يطلقها أحد جلسائنا. ما أكثر المناسبات وأجملها التي جمعتني به منفرداً أو بحضور صديقنا المشترك.. نجم أمناء مدينة جدة المهندس الفنان محمد سعيد فارسي الذي اختار (الإسكندرية) مدينة لتقاعده، والذي كان مفتوناً بالكابتن مطر.. كافتتان الكابتن مطر به، وبأدائه المعماري والفني في جدة، والذي كان من ثمراته الاتفاق بينهما على نقل مجسم «سفينة الصحراء» الذي قام الفنان التشكيلي المبدع الأستاذ ضياء عزيز ضياء بـ»تصميمه».. إلى باحة (مبنى السعودية) الجديد على شارعي: طريق الملك والروضة.. عند الانتهاء منه (وقد كان).

أما قبل الانتهاء من إتمام مبنى السعودية الجديد والانتقال إليه.. فقد كانت لي مع الكابتن مطر قصة حوله.. لا تخلو من الطرافة، فقد فوجئت بعد أيام من انتقالي إلى منزلي الجديد (بحي الشاطئ).. وكان محاطاً بأراض بيضاء شرقاً وشمالاً لمّا تُبن بعد.. بأنني طوال النصف ساعة التي أتناول فيها إفطاري أواجه تماماً (مبنى السعودية) وأرى خطوات (تشطيبه) وهي تجري أمامي يوماً.. بيوم، فكان أن هاتفت الكابتن مطر ذات صبتح.. لأخبره «الخبر»، ولأقول له ضاحكاً: بأنني سأقوم بتزويده.. بتقارير شهرية عن أعمال (التشطيب) التي تتم في المبنى.. أولاً بأول.

فقال ضاحكاً: وما المقابل لهذا العمل (الإشرافي) المرهق..!؟

قلت: ليس غير المحبة لك.. ولطيران السعودية.. ولـ«جدة».

فقال: إذا كان الأمر كذلك.. فعلى بركة الله..

واكتمل المبنى.. وذهبت مع مَن ذهبوا لتهنئته مغتبطاً بـ «انتهاء» المبنى، وانتقاله إلى مكتبه فيه (الدور السابع)، ولأقول له سعيداً بإنجازه: لولاك.. ولولا تخطيك لعقبات الميزانية.. وما رُصد وما لم يرصد منها، وشركات المقاولات الكبرى، والمكاتب الهندسية لتصميم المبنى والإشراف عليه.. والاعتماد في المقابل على قدرات السعودية الذاتية، وشحذ كفاءاتها وكوادرها بالثقة فيها.. لما تم إنجاز هذا المبنى المفخرة.

ولست أدري.. كم مضى من السنين بعد ذلك وهو في مكتبه الجديد هذا؟!.. ربما ثلاث.. وربما خمس.. وربما أكثر وربما أقل، ولكنني وجدت نفسي ذات عام قبل أو بعد ذلك في صحبة الصحفي المعروف الأستاذ علي حسون.. نقصده في مكتبه في محاولة لثنيه عن قراره الذي أخذ يجد ويكد في السعي لـ»تحقيقه».. وهو «الاستقالة»، التي لم يكن أحد في (السعودية) يقره عليها فضلاً عن كلينا (الحسون وأنا).. رغم وجاهة أسبابه وموضوعيتها، ولكن الخطوط العربية السعودية.. كانت تحتاجه، وتحتاج جديته، وتحتاج نزاهته وحرفيته.. فهو ابن مهنته: «طيار».. عرف الطيران وعاشه على كل طائراته: من طائرة (الداكوتا) بداية.. فـ(الدي سي ناين).. فـ (الترايستار).. إلى (البوينج) نهاية، ثم جاءته وجاءت (السعودية) لحظتها السعيدة في التقاء: «الرجل» المناسب بـ»المكان» المناسب.. ليكون ثامن مدرائها، ولـ»يطير» بها.. حتى أصبحت واحدة من أكبر شركات الطيران العربية.. إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، ولكن إذا كانت (السعودية) لن تجد كابتن مطر آخر.. بين عشية وضحاها، فإن بناته وأسرته.. لن يجدن كابتن مطر آخر يرعاهن طيلة الثمانية عشر عاماً التي خرجن بها.. لو أنه بقي في معاناته الوظيفية وصداماتها الأكيدة..!!.

بعد أن مضى شهر أو يزيد على وفاته.. طالعتنا صحيفتنا (الجزيرة) في الحادي عشر من شهر إبريل -الماضي- بمقال وداعي حزين لابنته داليا وشقيقتيها.. يقطر براءة ودمعاً في عنوانه: (بابا.. في قلوبنا).. وهن يبكين فيه والدهن الكابتن مطر، ويتذكرن أيامه ولياليه، ورعايته لهن، وحنانه عليهن، ويشكرن من كتب عنه.. فـ(مشاعر المحبين كانت توازي مشاعرنا، وفقدانه كان للجميع.. ولابد أن وقوفهم معنا وإلى جانبنا في هذه المحنة خفف عنا)..!! لأبكي عليه مجدداً.. أضعاف ما بكيت، وأتذكر متأملاً قولة شاعرنا العربي الرائع (أبو فراس الحمداني).. لابنته عندما حضرته الوفاة:

«ابنيتي لا تجزعي

كل الأنام.. إلى ذهاب»

 

إلى الابنة العزيزة: دالية أحمد مطر..؟
عبدالله مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة