Friday  10/06/2011/2011 Issue 14134

الجمعة 08 رجب 1432  العدد  14134

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قال أبو عبدالرحمن: توقَّفْتُ عند بداية السياق عن فلسفة (هوبز)، و(هيوم) في مجال فلسفة الحرية، ولكن يا قُرَّاء جريدة الجزيرة اسمحوا لي هذا الأسبوع ببثِّ شيئ من الأشجان عن الدافع لتقحُّمي فلسفةَ الحرية الشائكة، وبأن أكون واعظاً لا بالمنامات والحكايات، وما يُستَسْهلُ من الاستدلال بالحديث غير الثابت في فضائل الأعمال؛ وإنما هو وعظ تجربيبي فكري استفدته من خبرتي ممارسةً ومشاهدة وقراءة، ومن وعي وجداني وجدتُ به نعيم الحياة الدنيا قبل نعيم الآخرة.. أما الأول عن الدافع فأنا في فَضْلة عمري.. كلُّ يوم أعيشه أراه مَكْسباً إذا مَرَّ على خير، وأَمَلُ البقاء في هذه الحياة الدنيا عندي قصير جداً، ولكنَّ خوفي على ذرية كثيرة من الولد والحفدة، وخوفي على أبناء المسلمين ولا سيما مثقفوهم (1) في بلاد العرب والمسلمين التي قُزِّمتْ بمصطلح الشرق الأوسط، ومَبْعثُ خوفي أمران:

أولهما: التعاملُ الغبيُّ من الجمهور في شرائهم مجمل الديمقراطية المسوَّق بكل إغراء وإرهاب معاً؛ مما اضطرني إلى تتبُّعٍ نقديٍّ غيرِ مَلُول لجذور فلسفة الحرية، وأن مجمل الديمقراطية إذا أسقط ضرورة الدين والعقل هلكت الأمة وإن عاشت إلى مدى بحرية بهيمة الأنعام.

وثانيهما: أن هذه الثورات التي أحرقت بلاد العرب والمسلمين أرواحاً ومَلْجَأً لم تكن بدافع نفسي، وبقدرات مواتية في الأنفس والعُدَّة يزكيها الاتكال على الله؛ وإنما كانت استجابةً لما يُراد بأمتنا من شرٍّ منذ سقوط الماركسية، وقيل لنا: (استعدوا للقرن الحادي والعشرين)، وقيل لنا: (المددُ لاستعدادكم قَبولُكم مجمل الديمقراطية بثورات سلمية، ونحن نُكمل مسيرتكم)، وهذا ما حصل في الزمن المخطط له في الاستعداد للقرن الحادي والعشرين - باستثناء ليبيا؛ لخلُوِّها من التعدُّدِ ذي الأثر، والخوف أن يُزرع فيها التعدُّد المؤثر بمقتضى مجمل الديمقراطية -؛ فاستقبل أبناء قومنا قَهْرَ الطُّغاة ورصاصَهم وتعذيبَهم بصدورٍ عارية، ومباعدةٍ بين الأصبع السبابة والأصبع الوسطى مع شعارات بالنطق: سِلْمِيَّة، وبِدَّنا حُرَّية، ولا إسلامية ولا (....)، وإذا الشعب يوماً أراد الحياة، وباسم العروبة نحيا وباسم العروبة نموت، وبأرواحنا نفدي تراب الوطن!!.. حتى إذا احترقت الأرض، وأنتن الجوُّ بالجثث: نادينا: (يا مسوِّقي الديمقراطية أنقذونا)، وههنا يطول الانتظار، وتكثر المساومة؛ لتزداد الأعباء من إبادة النفوس والمنشآت، ونحن ههنا - شئنا أم أبينا - متَّكلون على أعدائنا، مستمطرون رحمتهم، متنازلون عمَّا يُكمِّل الله به مسيرتنا، وفي النهاية لا نملك في هذا الأمد (وأُراهن على ذلك) إقامة دُوَلِنا وَفْقَ هُوِيَّتنا وحرية قرارنا؛ وإنما بالتغييب لما أراد مسوقو مجمل الديمقراطية تَغْييبَه، وبالاعتماد عليهم بخالص التوكل في تكميل المسيرة.

قال أبو عبدالرحمن: ومع هذا فإنني واثق بعُقْبىً حميدة بإرادة الله الكونية لا بإرادة المُسيِّسين لإرادتنا.. وهذه العقبى الحميدة (وهي بالنسبة لكل بلدٍ دستورها مجمل الديمقراطية): من حيث تكون ممارسة الأديان بحريَّة في الحياة العامة فقط لا في مجال بناء الدولة سياسياً، ومن حيث زوال الطغاة ببدائل أقرب إلى استمالة الشعوب برغيف العيش، والإذن بشهوات النفس لمن أراد ذلك.

قال أبو عبدالرحمن: لا أزال في بداية السياق لموضوع الحرية الشائك، وما تفرَّغتُ لهذا الموضوع: عن عشق، ولا عن تشبُّع بالفكر، وأرجو ربي أن يُخْلِص نيتي فلا أكون مشتهياً رفْع الرؤوس إليَّ - وأنا أُحِبُّ ذلك وأشتهيه، ولكنني لا أزال في جهادي نفسي بتوطينها وكثرة الدعاء بأن يجعل الله علمي وعملي خالصاً لوجهه الكريم، ومَن أخلص لله عمله في السر بَرَّأَ الله عمله في العلن عما يشوبه ولو على المدى بالله ثم بجهاد النفس ورياضتها -؛ لأن أمامي هَوْلَ المطَّلع حينما يقول الرب سبحانه وتعالى لمن كانت نيته غير خالصة: ((كذبتَ إنما أردت أن يقال: (إنك عالم) وقد قيل)) أو ما هذا معناه في الحديث الصحيح.. وإنما تَفَرَغتُ لهذا الموضوع مُكْرهاً بضغطٍ وجداني ديني (وهذا هو الباعث الثاني لتقحُّمي هذا الموضوع الفلسفي)؛ فأنا امرؤ في فَضْلةِ العمر أترقَّب لقاء ربي بين طلوع كل شمس وغروبها، ولا أبالي بشيئ من أمور الدنيا إلا ما يُقيم أَوَدِي، وهمِّي الأكبر أن يعفو عني ربي - فذنوبي أكبر من الجبال -، وأن يُبدِّل سيئاتي حسنات؛ فتعلُّق المؤمن بعفو ربه ورحمته حال ضعفه وشيخوخته لا يذهب هباء؛ فلله رحمة خاصة بعصاة المؤمنين، وَنِعَمُ الله عليَّ واسعة لا أحصيها منذ وُلْدتُ عارياً، ولكنني أرجو أن يكون ما منَّ الله به عليَّ مدى حياتي (وهو بحمد الله في دائرة تحمُّلي) من همٍّ وحزن وأعباء اجتماعية وأهلية وتدنٍّ في الصحة (لم يتجاوز بفضل ربي قِلَّة النشاط أحياناً) تطهيراً وتكفيراً؛ فإن رحمة ربي بقليل من المصايب يراها المبتلَى كثيرةً عظيمة - إذا نسي نِعم الله، وأن ما أصابه في مقدار تحمُله؛ ليعينه ربُّه على الصبر -: هي تطهير من المعايب، ووقاية له برحمة ربه من أهوال يوم اللقاء، ابتداء من غرغرة الروح، ومن حيث الخوف من فتنة الممات.. إلى ما يُخاف منه في البرزخ.. إلى يوم تشخص فيه الأبصار.. إلى موافاة الرب سبحانه وتعالى بالحساب.. إلى المستقرِّ الأخير من الدارين.. اللهم استر عليَّ وعلى إخواني من عصاة المسلمين قبائح ذنوبنا، ولا تفضحنا بها يوم يقوم الأشهاد ولا سيما عند من نرجو أن نحشر معهم ونستحيي منهم من اللذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين كأبي بكر وعمر صلوات الله وسلامه على كل مَن ذكرتهم وحسن أولئك رفيقاً، وأنا أعلم أن كثيراً من المثقفين سيقول: (ماذا عدا مما بدا لأبي عبدالرحمن، وكان خفيفَ الروح شفَّااً، وَحبْلُه المُحْكَم طرفة في أخِيَّةِ الواجب طويل جداً؛ فهو يجول كيف يشاء).. وأن أقول لهؤلاء الأحباب: أنتم ذوو ثقافة وتفكير وذكاء؛ فتفرَّغوا للتأمُّل في الآفاق والأنفس، وجرِّبوا لذَّة عبادة واحدة إذا استقبلتم القبلة وأنتم عالمون بأن الله يعلم السِّر وأخفى، وأنه يعلم من قلوبكم تألُّمكم من خطيئاتكم وأنتم غير متواكلين ولا قانطين، مُمَجِّدين ربكم (وهو الغنيُّ الحميد) بأسمائه الحسنى، مفوِّضين الأمر إليه، مخلصين في الدعاء، متحرِّرين عما سواه وعما سوى الدين الذي شرعه لكم.. جربوا ذلك لتروا كيف يتحوُّل العقل إلى شعلة ذكاء وزكاء، وكيف يكون القلب راسخَ الاطمئنان، وكيف يتحوَّل الضيق إلى سعة، والفقر إلى غنى، وكيف يهب الله القلب والعقل والجوارح شجاعةً في مواجهة ما خلقه الله له من الكدح والكَبَدِ، وكيف تجرُّ العبادة الخالصة إلى عبادة خالصة أخرى، وإلى التحرُّر من معصية أخرى، وكيف يكون ذو الشيبة الضعيف بطلاً قوياً يصغر في عينه كل كبير؛ لأن قوَّته مستمدَّة من الإيمان بالقوي الكبير المتعال؟؟؟!!!.. جَرِّبوا ثم تعالوا وحاسبوني؛ فوالله قسماً بَرّاً إن الإيمان باليوم الآخر نتيجة حتمية لبراهين العقول ومشاعر النفوس لمن أخلص في طلب الحق ولم يكن علمه وعقله وذكاؤه ووعيه بلاءً عليه.. وتذكروا قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35) (سورة فاطر)، وأقسم لكم بالله أغلظ الأقسام أن هؤلاء المؤمنين الظالمي أنفسهم والمقتصدين كلهم من الناجين - مع اختلاف المنازل -؛ لأنهم من المصطفين من العباد، والله لا يصطفي إلا من أنعم الله عليه بالجنة.. وهؤلاء الظالمو أنفسهم لهم عبادات وحسنات يبكون على خطيئاتهم، ويجدِّدون التوبة والاستغفار؛ فعاملهم ربهم بِمَحْوِ الذنوب وتبديلها حسنات، ومضاعفة عملهم الصالح،ورجَّح موازينهم عندما يُسارَّ الربُّ عبَده، ويستر عليه عيوبه، ويخفف حسابه.. ولا يسع مؤمناً تقدَّم في العمر، وقلَّ نشاطه إلا أن يكون على يقين لا يدخله أدنى شك بعفو ورحمة الغفور الودود جل جلاله، ولا يقعد عما يقدر عليه من الطاعة، ولا يحقر من الخير شيئاً ولو فذَّةَ تمرٍ صدقةً، وانطواء القلبِ على حُسْن نية.. وأما رِباطي الممتدُّ حبله أسرح به وأمرح أيام غفلاتي؛ فذلك تجرِبة تُطَهِّرُ القلب والسلوك انتفعتُ بها.

قال أبو عبدالرحمن: وما دمتُ في بداية ميدان الحرية فإنني أعلم ثانية أن من أحبابي المثقفين مَن قد يقول في قلبه: (كلنا نودُّ لأنفسنا ما تودُّه لنفسك من الهداية - وأسأل الله تمام الهداية والثبات على الاستقامة -، ولكن الهداية بيد الله، وليس لنا من الأمر شيئ، والله سبحانه وتعالى قال: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ(30) (سورة الإنسان)، ومثل هذا النص نصوصٌ كثيرة)؛ فهذا الطرح هو استراحتي هذا الأسبوع مع بيان الحق وإزالة الشُّبَهِ في الحرية والجبرية من جهة الأعمال الشرعية ببعض الوقفات:

الوقفة الأولى: أنني بالبرهان القاطع مع بعض هذا القول: (إن الهداية بيد الله، ولا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله سبحانه).. كما أنني بالبرهان القاطع أيضاً أنفي دعوى: (أنه ليس لنا من الأمر شيئ).

والوقفة الثانية: ثبتت نصوص صحيحة قطعية على أنه لا مشيئة لنا إلا بمشيئة الله سبحانه، وأصرح هذه النصوص دلالةً في مسألة الإيمان - نيةً، وقولاً، وسلوكاً - قولُ الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ(100) (سورة يونس)؛ فلن يكون لنا إيمانٌ إلا بمشيئة الله قطعاً.

والوقفة الثالثة: أن الله جعل لنا من الأمر شيئاً فيما يحاسبنا عليه وعداً وإيعاداً.

والوقفة الرابعة: البرهان الأول على أن الله جعل لنا من الأمر شيئاً أنه لم يحجب عنا إذنه بإيماننا، بل جعل لإذنه أسباباً نقدر عليها، ووعدنا بأبلغ صيغ التأكيد أنه سيأذن لنا بالإيمان إنْ نحن فعلنا تلك الأسباب.

والوقفة الخامسة: البرهان الثاني قوله تعالى آخر الآية: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}؛ فهذا تنبيهٌ إلى طلب الإذن من الله، وتذكيرٌ بمهمَّة العقل الذي هو شرط التكليف؛ ولهذا رفع الله المسؤوليةَ عمَّن فَقَدَ عقله بقضاء الله الخالص، ولم يكن بسببٍ أقدره الله على فعله وتركه من المحرمات كفقد العقل بالمسكرات والمخدِّرات، وتعاطي السحر الذي يَفْقِدُ الساحرُ به حرية القدرة والاختيار؛ لأن الأسباب المحرَّمة التي يكون بها السحر استحوذت على الساحر؛ ولهذا ورد النص بأنه لا توبة للساحر.. وأما من حاول الفيئة إلى الله والصبر على الإيذاء الذي سيناله من أسباب تَمَكُّنِه في السحر في دنياه قبل أن يقع في قبضة السلطان فلا تُحال توبته، ولا يُرجى خلاصه من الأذى في دنياه حسب مجرى العادة.. وأما سَحَرَةُ فرعون الذين آمنوا رضي الله عنهم ولعن فرعون فقد حفظهم الله من الإيذاء باتِّباع دينٍ جديدٍ ومعجزةِ رسولٍ كريمٍ عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والتسليم.

والوقفة السادسة: قد يتمادى الشك فيقول القائل: (قد لا أملك فعل تلك الأسباب).

قال أبو عبدالرحمن: هو محجوجٌ ببرهانين ضروريَّيْن:

أولهما: أن أول الأسباب الدعاء باللسان والقلب كما سيأتي بيانه؛ فمن حبس لسانَه عن الدعاء حابسٌ فلا أحد يستطيع حبس نيته بدعاء ربه في قلبه.

وثانيهما: أن قائل ذلك القول غير صادق مع نفسه؛ لأنه ما دام مؤمناً أنه لا مشيئة له إلا بمشيئة الله فهو يعلم أنه لن يجد قُوْتَ يومه وليلته إلا بمشيئة الله، ولن يُشفى من مرضٍ أو تخفَّ عنه آلامه إلا بمشيئة الله، ولن يُرزق ذريَّةً إلا بمشيئة الله، ولن ينجو من حرارة الشمس وشدة البرد إلا بمشيئة الله.. وهو مع كل هذا العلم يفعل بكل حرصٍ وجِدٍّ كلَّ الأسباب ليجد قوته؛ بل يزداد حرصاً ونهماً وعملاً على كسب المال وتنميته.. ويبذل كل الأسباب للشفاء من المرض أو تخفيف ألمه، ولإنجاب الذرية، ويدخل الكِنَّ ليتوقَّى حرارة الشمس، ويطلب كل أسباب التدفئة لتوقِّي البرد؛ فما باله يشكُّ في قدرته على تعاطي أسباب الإذن من الله بإيمانه، وأولها الدعاء المحقَّقة إجابته بضمانة الله سبحانه وتعالى بوعده الكريم الذي لا خُلْفَ فيه ألبتة؟!.

والوقفة السابعة: البرهان على أن الله يأذن بالإيمان بتعاطي ما شرعه الله وأوله الدعاء - وهو خفيف على اللسان، غير محجوب عن نية القلب - ومن ضمنه التعوُّذ والبراءة من الحول والقوة إلا بالله؛ فقد قال سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ البقرة 186، وقال سبحانه وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ غافر60؛ فهذا أعظم التأكيد في الأمر بالدعاء، وإيعادٌ لمن تركه، وفيه الضمانة لاستجابة الله.. واستجابةُ الله لن تَعْدُوَ خِيْرَتَه لعبده المؤمن التي يسعد بها دنياً وآخرةً وإن كانت خلاف ما يريده من حظٍّ دنيويٍّ عاجل؛ لأن الله يُسْعِدُه بالرضى والصبر والطمأنينة.. وأما الإذن بالإيمان فمضمونٌ ما ظلَّ الثباتُ على الدعاء بحضور قلب، وما ظلَّ تعاطي الأسباب الأخرى في الوقاية من شرِّ النفس وأهوائها، وشرِّ الشيطان وشَرَكِه، وكل ذلك بيَّنه ربنا بأبلغ بيان؛ ولهذا كانت سورة الفاتحة التي هي طلبُ هدايةِ بيانٍ وإعانةٍ وتوفيقٍ مفروضةً علينا سبع عشرة مرة في سبع عشر ركعة في اليوم والليلة، ولا أُحصي تأكيدَها مراتٍ كثيرة في النوافل، وفي دبر كل صلاة، وعند النوم.. والله شرع لنا أسباب العصمة على الديمومة بالأدعية الموظَّفة عند النوم، وعند اليقظة، وفي الصباح والمساء؛ فمن كانت هذه حاله بإيمانٍ مُحقَّق ببراهين الله في الأنفس والآفاق فمضمونةٌ له النجاة وإن خلط عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً ما دام في جهادٍ لنفسه، وهذا مُشاهَدٌ وملموسٌ بالتجرِبة؛ فالطاعة تجرُّ إلى طاعة، والمعصية - بلا استغفارٍ واستعاذةٍ ومجاهدة - تجرُّ إلى المعاصي.. والركن الركين أن يستشعر المؤمن أثر المعصية التي قد تظهر في صحته أو رزقه أو تسلُّط ولده أو صديقه وجسارة عَدوِّه؛ فإذا استشعر ذلك لم يَسْتَحْلِ المعصية، وحاسبَ نفسَه في يومه وليلته، ولجأ إلى مَنْ لا ملجأ منه إلا إليه ربنا سبحانه وتعالى، وتبرَّأ من الحول والقوة إلا به، واستعاذ منه به جل جلاله.. وهناك مواسم وأحوال لا يُفوِّتها إلا من أهمل أسباب العصمة في دينه وهو أشدُّ ما يكون حرصاً على أسباب دنياه مثلُ الدعاء آخر الليل، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وبين الأذانوالإقامة، وفي السفر، وعند نزول المطر.. وذِكْرُ الله باللسان أو بالقلب قبل أن يأخذه النوم في فراشه، وفي اللحظات الصامتة من حياته كتوحُّده في صالة انتظارٍ مثلاً.. ومَن عظمتْ شفقتُه واشتدَّ وَجَلُه - ولا سيما إنْ ألمَّ به مرض - أن يلقى الله كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً: فأنَّى أن يُخيِّبه الله فلا يُؤَمِّنه مما استأمن بربه منه؟!.

والوقفة الثامنة: أنَّ مفتاح الخير كله، والنجاة المحقَّقة هو الإيمان باليوم الآخر؛ فمن آمن به استعدَّ له.. وليس اليوم الآخر مجرَّد ظنون، بل هو ثابت ببراهين عقلية من الخبرة الحسية على أنَّ لله غُيوباً إلى أجلٍ يكشف منها العلمُ المادِّيُّ كلَّ حينٍ ما هو جديد، وغُيوباً تدلُّ المشاهدةُ على أنها مُـحالةُ المنال مع الإيمان بوجودها؛ فهذا هو (الواقع المُغَيَّب).. واليوم الآخر غير محال بهذه البراهين الحسية المباشرة، ثم جاءت براهين الشرع مُفَصِّلة الخبر عن أحوال اليوم الآخر؛ فكل خبرٍ صحَّ دلالةً وثبوتاً فهو برهانٌ عقليٌّ من الخبرة الحسِّية؛ لأنه انتقال من الخبرة ببراهينها إلى الواقع المُغَيَّب عن الخبرة؛ لأن الإيمان بالله وبما جاء من عنده قائمٌ على البراهين من الخبرة الحسِّية في الآفاق والأنفس، والعلمُ الماديُّ - بكل جبروته - مؤمن بذلك؛ لأن من إيمانه دلالة المحسوس على الواقع المغيَّب كدلالة الأثر على المؤثِّر، واستنباطِ بعض الوصف من الأثر، وكدلالة زبد الوادي واصطفاق جوانبه على عُمْقه عن معهوده ولو بالتقريب، وقد أفضت عن هذا في غير هذا الموضع.

والوقفة التاسعة - وهي الأخيرة -: أن هناك نصوصاً شرعية تُوهم بأن الأمر خلاف ما ذكرته، وهناك نصوص شرعية فسَّرها بعض العلماء الربانيين على غير وجهها، فلا بد من بيان كل ذلك بعد الاعتصام بالله ثم بالرجوع إلى ما أوصانا به ربنا من التعامل مع نصوص الشرع، وأن نزن قولَ كل عالم مهما كان ورعه وفضله وعلمه بذلك التعامل؛ وهو ردُّ النص المُحتَمَل إلى النص القطعي، وردُّ المجمل إلى المبيَّن، وردُّ المتشابه إلى المحكم، والدوران مع القطعي من ضرورات الشريعة، واستحضار نصوص الشرع في المسألة؛ لمعرفة دلالتها مُجتمعة؛ فليس بعض النصوص أولى بالطاعة من بعض.. وتلك النصوص التي أسلفتها نصوص متواترة بأن الله يضلُّ من يشاء، وأنه يهدي من يشاء، وأن سعادة العبد أو شقاوتَه مفروغ منهما قبل خلق الله المكلفين، وأن الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وأنه لا مَفرَّ مما قضاه الله.. وأبدأ ببعض ما حمله بعض العلماء على غير وجهه كخلق الله الشرور، وتألُّـم الحيوان غير المكلَّف والأطفال غير المكلفين، ومصير أطفال المسلمين وأطفال المشركين، وأن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان غير ظالم لهم، وأنه سبحانه قبض قبضة للجنة وقبضة إلى النار، وقال سبحانه وتعالى: (ولا أبالي)، وأنه سبحانه لا يُسأل عما يفعل والمكلَّفون يُسألون.. وبيان ذلك بحول الله وقوته أن سنّة الله في خلقه العدلُ وتحريم الظلم والرحمة، واختصاص مَن استجاب لطاعة الله بخصوص رحمة.. هذا أصل قطعي من حاد عنه فَقَدَ إيمانَه، ولزمه تجوير ربه؛ فإذا قال عالم فاضل (إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان غير ظالم لهم؛ لأنهم مُلكه وخلقه يتصرف فيهم كما يشاء): فإننا نضرب بهذا القول عرض الحائط، ونقول: إنما قولك هذا عن قدرة الله وهيمنته وأنه الملك الخالق، ولسنا في شك من ذلك، وإنما المسألة عن عدل الله وتحريمه الظلم على نفسه ثم جعله على خلقه محرماً؛ وإنما حرم الله الظلم لخلقه وملكه، وتصرفُّه فيهم كما يشاء وَفْق قدرته، ولكنه سبحانه وتعالى أمَّننا بأن تصرَّفه في خلقه وملكه عن عدل وحكمة وعلم محيط.. والحديث المذكور في هذا الباب خاص بالمكلفين وأعمالهم؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم)، والمكلفون في أرض الله معروفون من الثقلين، وفي السماوات مكلفون من ملائكة الله عليهم السلام كما في قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الأنبياء 29.. وأما أن الله لا يُسأل عما يفعل فذلك حق بقدرته وهيمنته، ولكنه سبحانه بالنصوص الأخرى لا يفعل عبثاً ولا سدى ولا ظلماً، وأن قدرته وهيمنته ورحمته لا تبلغ بالمخلوق الضعيف أن يسأل ربه عما يفعل، ويعجز علمه المحدود أن يحيط بحكمته، ولو أحاط بها لما هجس في خاطره أن يصدر عن ربه ما هو ظلم، وأن فيما غيَّبه الله من تأويل بعضِ نصوصٍ شرعية ابتلاءً للمكلَّفين؛ لإيمانهم بشرع الله على مراد الله.. وأما مآل أطفال المسلمين والمشركين - وهو مَزِلَّة قدم في اختلاف العلماء -: فالذي أقطع به، وأُشهد الهه عليه، ولا أبالي بالمباهلة فيه: أن أطفال المسلمين والكفار في الجنة، وأن النصوص التي زل بها بعض العلماء إما مبهمة البيان، وإما محتملة الدَّلالة، وأن المآل إلى قطعي الشريعة في آحاد نصوصها الصحيحة، وفي قطعيِّها المتواتر؛ فمن الآحاد الصحيحة رؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام وهي في صحيح البخاري وغيره، وأما القطعي من غير خبر الآحاد فهو أن الأطفال كافة مولودون على الفطرة: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ الروم 30 ، وأنه لا تكليف قبل التمييز.. وأما آلام الأطفال فتنفعهم إذا كبروا وختم الله لهم بالإيمان، وهي هَدْرٌ بالنسبة لنعيم الله في الجنة إذا ماتوا أطفالاً.. وأما خلْق اللهِ الشرور والآلام إذا نالت المكلف المؤمن فهي رحمة وتطهير، وإذا نالت الكافر فهي عقوبة معجَّلة.. وأما غير المكلَّف من الأحياء فالحكمة والمصير كلاهما غائب عنا، ولا علم لنا إلا ما علمنا ربنا؛ فنبقى على يقين العلم بأن الله لا يصدر عنه إلا العدل والرحمة، وما غاب عنا تأويله فهو في إحاطة علمه وحكمته جلَّ جلاله، وهذه القطعيات قاضية بأن الأحاديث التي عارضتها إما محْتَمَلَة الدلالة، وإما ذات إبهام، وإما لم يُنْقَل سياقها على التمام.. وأخبار الله لا نسخ فيها؛ فلا نقول عن قوله صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما سيعملون): إنه منسوخ، ولكن قد يتأخر البيان في الخبر عن المغيَّب فيفتي عليه الصلاة والسلام بتفويض الأمر إلى علم الله؛ فلما صحت هذه القطعيات وتأيدت برؤيا إبراهيم الخليل، وقويِّ الاستنباط منالقطعيات أن الله لا يعذب أحداً إلا بعمل قد وقع منه: علمنا علم اليقين أن المرجع لكل النصوص المعارضة عائد إلى هذه القطعيات .. وأما قبضته للنار والجنة، والفراغُ من شقاوة المكلف وسعادته فذلك بسابق علمه بما سيفعله المكلَّف بحريته واختياره، وقبضتا ربنا سبحانه ليستا خرصاً، بل عن سابق علمه بما في قبضتيه الكريمتين؛ فسابق علم الله بما سيفعله العباد لا مفر منه؛ ولكنه ليس جبراً، بل علم بما سيفعلونه بحريتهم واختيارهم، وليس علماً بما سيجبرهم عليه تقدس ربي وتعالى أن يجبر كافراً على كفره، والله لن يحاسب عباده إلا بمقدار ما منحهم من حرية الاختيار، والقدرة على فعل ما فعلوه، والقدرة على فعل ما تركوه باختيارهم.. وأما إضلال الله وختمه على القلوب، وسلبه الانتفاع بالعقول والحواس بما يُقَرِّب إليه في الآخرة: فلن يكون أبداً ابتداء، بل يهدي الله من شاء ابتداء، ولولا رحمة الله ما اهتدينا؛ وإنما ذلك الإضلال لمن قامت عليه الحجة، وقيل لهم: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة 111، فلم يوجد عندهم إلا العناد والمكابرة والجحد والهوى والعصبية والحسد لمبلِّغ الرسالة وقومه.. وهؤلاء المشتدون في العناد ليس إمهالهم بالحياة خيراً لهم، بل هو شرٌّ لهم ليزدادوا إثماً.. وعقوبةُ الله للكافر - وهي محض العدل - تكون في الدنيا، وفي القبر، وفي الموقف، وفي الحساب، وفي الدَّع إلى نار جهنم دعّاً عياذاً بالله، وإلى لقاء إن شاء الله والله المستعان وعليه الاتكال.

(1) قال أبو عبدالرحمن: في هذا السياق، وكون ما بعد (لا سيما) معرفةً: رجَّحتُ الرفع، لأن (لا) نافيه للجنس، و(سيَّ) بمعنى (مِثْل)، و(ما) موصولة بمعنى (الذين)، و(مثقفوهم) خبر مبتدإِ مقدَّر في صلة الموصول والتقدير: (ولا مِثلَ الذين هم مثقفوهم).

 

فيلسوفٌ واعظٌ.. ولكنْ عن فكرٍ وتجربة
وكتبه لكم - أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة