Sunday  19/06/2011/2011 Issue 14143

الأحد 17 رجب 1432  العدد  14143

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في لفتة لا تخلو من مغزاها المقدر من جانبي أعظم تقدير.. فاجأني القنصل الفلسطيني الدؤوب، و»المشغول» في صحوه ومنامه بـ «قضية» وطنه وعلاقتها المحورية مع «المملكة»: الدكتور عماد شعث.. عبر حديث جمعنا على الهاتف، عندما قال لي فرحاً مزهواً: إن لديَّ «هدية».. أريد أن أبعث بها إليك عن طريق بريدك الإليكتروني.. (!!)

قلت: وما هي.. وقد ذهب ظني إلى أنها قد تكون إحدى روايات القاص والروائي المناضل والشهيد (غسان كنفاني) التي لم تنشر من قبل، أو قد تكون مجموعة من قصائد الشاعرة الفلسطينية المبدعة (فدوى طوقان) التي تم اكتشافها مؤخراً.. ولم يتم تضمينها أياً من دواوينها، خاصة وأنه يعلم مدى افتتاني بهما.. وبقلميهما وبحياتهما، وبكائي عليهما..

ليفاجئني صوته متسائلاً وقد أدرك أني سرحت عنه لثوانٍ: وأين ذهبت..؟ وذهب صوتك..؟

- أنتظر إجابتك..

- إنها نسخة من (دستور دولة فلسطين)..

قلت مندهشاً.. مصدقاً وغير مصدق: أتقول (دستور.. دولة فلسطين)..؟

- نعم..

- وهل كُتب..؟

- نعم، وهذه (النسخة) التي سأبعث بها إليك هي مسودته (الثالثة) المنقحة، وهي تتضمن جميع التعديلات حتى تاريخ إصدارها في الرابع من مايو من عام 2003م.

قلت بمزيج من السعادة والفرح والامتنان: هذه أعظم هدية أتلقاها.. ربما في حياتي كلها، فهي تختصر اثنين وثمانين عاماً من نضال عرب فلسطين.. منذ سقوط الدولة العثمانية الحاكمة لـ»الشام» وفلسطين جزء منه في ختام الحرب العالمية الأولى عام 1918م.. وقيام عصبة الأمم عام 1922م بقرار انتدابها بريطانيا لـ(حكم) العراق والأردن وفلسطين.. فـ(السماح) ليهود العالم بالهجرة إليها لأسباب إنسانية في البدء، فـ(تآمرية) في المنتهى.. لتقوم عندها أولى الثورات الفلسطينية على تلك الهجرات اليهودية.. فيما عرف تاريخياً بـ»ثورة البراق» في أغسطس من عام 1929م، عندما أراد المهاجرون اليهود إحياء ما يسمونه بـ»ذكرى» تدمير هيكل سليمان في الرابع عشر من أغسطس من عام 1929م عند «حائط البراق» - أو «حائط المبكى» - كما يسميه اليهود اعتقاداً منهم بأنه هو الذي بناه (هيورد) بعد خراب الهيكل الأول ، لتقوم ثورة الفلسطينيين عليهم وعلى سلطة الانتداب البريطاني التي سمحت لهم، ثم لينتهي مد تلك الثورة الوطنية الخالصة بـ»محاكمة».. نصبها الأقوياء والمتنفذين من البريطانيين والفرنسيين في عصبة الأمم، لتأمر بـ»إعدام» خمسة وعشرين فلسطينياً.. ويهودياً واحداً!!



بعد ساعات.. كان (دستور دولة فلسطين) أمامي، بصفحاته التسع والأربعين.. ومواده المائة والتسعين.. وصفحته الأولى، وقد شغل قلبها العنوان المبهج والمثير والأهم: (دستور دولة فلسطين).. بينما كُتب في رأسها (مشروع: المسودة الثالثة - المنقحة).. مع شرح في ذيلها يقول بأن (هذه المسودة تتضمن جميع التعديلات حتى تاريخ 4 آيار 2003م وبالتالي لا تعتمد أية مسودة سابقة)..! لتدخلني هذه (التواريخ) مجدداً في مرحلة من الحسرة والأسى على تلك السنوات، التي تعمد فيها راعي السلام الأمريكي آنذاك (دوبيا) أو جورج دبليو بوش الابن.. إضاعة الوقت على الفلسطينيين بزعامة رئيسهم المنتخب (ياسر عرفات) في إنهاء المرحلة الثالثة والأخيرة من اتفاق أوسلو والمتعلقة بـ (القدس، والحدود، والمستوطنات) بحجة أن (إيريك شارون) الإرهابي المعروف، والمطلوب دولياً من أكثر من عاصمة أوروبية لتقديمه إلى (المحاكمة).. لا يجد شريكاً فلسطينياً لـ «السلام»، ليبحث معه قضايا المرحلة النهائية، التي سيتم فور الانتهاء منها: الإعلان عن قيام «الدولة الفلسطينية».. سواء في «القدس الغربية» و»القدس الشرقية» معاً، أو في «نيويورك».. حيث مقر الأمم المتحدة، وهو ما لم يحدث.. حتى مات عرفات كمداً، وتعثر - خليفته - الرئيس محمود عباس.. مع (شارون) رجل السلام الأمريكي وزعيم الليكود.. مائة مرة، ومع خليفته زعيم حزب كاديما (إيهود أولمرت) ألف مرة، ليفوز العبيط (دوبيا) بأعلى أوسمة الاستحقاق اليهودية أو الصهيونية أو الإسرائيلية (فلا فرق).. نظير قيامه بـ»نسف» مشروع الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية.. الذي كان وشيكاً تلك الأيام.

على أن حسرتي.. لم تقف عند الصفحة الأولى من صفحات (دستور الدولة الفلسطينية).. ولكنها امتدت بي إلى صفحته الأخيرة (رقم 49) حيث (مكان) و(زمان) صدور هذه الوثيقة الأعظم والأهم في التاريخ الفلسطيني لأجد أن أساتذة العلوم السياسية، وجهابذة القانونيين الفلسطينيين ممن عكفوا على كتابة هذا الدستور بكفاءة واقتدار لم يجدوا ما يكتبوه عند الإشارة إلى (مكان صدوره).. حيث اكتفوا بالقول وأضعاف حسرتي تملأ قلوبهم بالتأكيد: [صدر في مدينة (........)]... غفلاً من اسم عاصمة الدولة التي عادة ما يكتب دستور الدولة فوق أراضيها، فإذا كان يصح أن يقال.. كما يعتقد البعض (صدر في العاصمة المؤقتة «رام الله»)، فإن الأصح منه.. هو ما فعله هؤلاء الأساتذة والقانونيون، أما إيضاح تاريخ صدوره في (4/ آيار/ 2003 ميلادية - 1954هجرية].. فهو لا يقل أهمية - في الحالة الفلسطينية - عن أعظم مواده، لأنه يمثل وثيقة إدانة ضمنية لـ (راعي السلام الأمريكي) الذي عطل قيام الدولة في أواخر سنوات الألفية الثانية وأوائل الألفية الثالثة.. ومازال إعلامه وساسته يتغنون وبصفاقة يحسدون عليها بـ(حل الدولتين اللتان تعيشان جنباً إلى جنب في سلام)..!!

على أن حسرتي.. أو حسراتي لم تحل بيني وبين قراءة مواده الـ(مائة والتسعين).. مادة مادة، بروح ثائر، وعقل مناضل، وحلم مواطن فلسطيني.. حُرم من كل حقوقه منذ تقسيم 47، وحرب 48 الهزلية.. إلى اجتياحات شارون وباراك وأولمرت التي لم تعط للطفل (محمد الدرة) ووالده حقهما في عيش آمن على قارعة الطريق.. حتى أرى أين وقف (دستور دولة فلسطين) من كل هذا..؟

لأجد نفسي في النهاية أمام (دستور).. يتمناه شرفاء المواطنين وأحرارهم وعقلائهم وأسويائهم.. في كل أصقاع الدنيا، ولا أريد أن أشبه أو أمثِّل.

فإلى جانب نصه بـ (أن فلسطين دولة مستقلة.. نظامها جمهوري وعاصمتها القدس)، وأن (اللغة العربية هي اللغة الرسمية)، وأن (الإسلام هو الدين الرسمي في فلسطين)، وأن لـ (المسيحية وسائر الرسالات السماوية ذات القيمة والاحترام)، وأن الدستور (يكفل للمواطنين جميعاً أياً كانت عقيدتهم الدينية المساواة في الحقوق والواجبات) - المادة (5) -، وأن (نظام الدولة: ديموقراطي نيابي برلماني)، وأن (مبدأ سيادة القانون والعدالة أساس الحكم، ويخضع جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص لـ «القانون»)، وأن (استقلال القضاء وحصانته ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات، وليس لشخص عام أو خاص حصانة من الخضوع للقانون وتنفيذ أحكام القضاء) - المادة 11-، و(أن كل الفلسطينيين سواء أمام القانون، وهم يتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحملون الواجبات العامة دونما فرق أو تمييز فيما بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة) - المادة 19 -، و(أن للفلسطيني الذي هاجر من فلسطين أو نزح عنها نتيجة لحرب 1948م، ومنع من العودة إليها.. حق العودة إلى الدولة الفلسطينية وحمل جنسيتها، وهو حق دائم لا يسقط بالتقادم) -المادة 13-، و(أن النظام الاقتصادي للدولة يقوم على أساس مبادئ الاقتصاد الحر، وضمان حرية النشاط الاقتصادي في إطار المنافسة المشروعة) - المادة 16 -، و(تلتزم دولة فلسطين بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتسعى للإنضمام إلى المواثيق والعهود الدولية الأخرى التي تحمي حقوق الإنسان) - المادة 19 -، و(لكل إنسان الحق في سلامة شخصه، إذ يُحظر تعذيب الإنسان أو إيذاؤه بدنياً أو نفسياً أو معاملته معاملة غير إنسانية أو إخضاعه لعقوبة قاسية أو مهينة أو محطة بالكرامة، وتعتبر هذه الأفعال أو الإسهام فيها جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط بالتقادم. وكل اعتراف يثبت أنه صدر تحت وطأة التعذيب أو التهديد الجدي به.. لا يعول عليه كدليل إدانة، ويقع من يمارس التعذيب أو يأمر بممارسته أو يشارك به.. تحت طائلة القانون) - المادة 26 -، و(تأسيس الصحف وملكية سائر وسائل الإعلام حق لجميع المواطنين يكفله الدستور، وتخضع مصادر تمويلها للرقابة القانونية) - المادة 38 -، و(حرية وسائل الإعلام بما فيها الصحافة والطباعة والبث المسموع والمرئي.. وحرية العاملين فيها مكفولة ويحميها الدستور والقوانين ذات العلاقة. وتمارس وسائل العلام رسالتها بحرية، وتعبر عن مختلف الآراء في إطار القيم الأساسية للمجتمع، والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة وبما لا يتعارض مع سيادة القانون، ولا يجوز إخضاع وسائل الإعلام للرقابة الإدارية ولا يجوز تعطيلها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي. تطبيقاً للقانون) - المادة 39 -، إلخ.

وهكذا.. مضت بقية المواد بهذه الروح، وبهذه العدالة، والمساواة والامتثال للقانون في أعلى تجلياته الوطنية والإنسانية.. لتخلق في النهاية دستوراً للدولة، يقف شامخاً إلى جانب أعظم دساتير المعمورة وأرقاها، ليكون الأليق والأجدر بـ»فلسطين» والفلسطينيين.. وتاريخ عذابهم وحرمانهم الطويل.

ولكن.. أين هي الدولة.. التي ستحتضن هذا الدستور العظيم..؟!

لقد فشلت كل محاولات «المسايرة» و»المرونة» التي أبداها الرئيس محمود عباس.. في سبيل الفوز بـ(42%) من أراضي فلسطين التاريخية ليقيم عليها الدولة الفلسطينية، التي أصبحت على يد الوسيط الأمريكي الغادر كما لو أنها رابع مستحيلات الكون، وهو ما ألجأه إلى خيار الذهاب في سبتمبر القادم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.. لطلب (الاعتراف) بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيه 1967م، وفق قراري 242، 338، واتفاق أوسلو الذي استضافت توقيعه - ثانية.. بعد أوسلو - وباركته أمريكا (كلينتون) في حديقة البيت الأبيض عام 1993م.. إذا لم يحدث أي تقدم في هذه الاتصالات الضبابية التي تجريها أو لا تجريها الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل.. خلال البقية من شهر يونيه وإلى حين انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة في العشر الأواخر من شهر سبتمبر.

ولكن أنَّى لهذا «الخيار» على تواضعه.. أن يحدث..؟ وإسرائيل (نتنياهو) تقول: «لا».. بـ»آلتها» العسكرية و»التأييد» الأمريكي لقيام الدولة الفلسطينية، وتضع خطة سرية لـ»منع» الاعتراف الدولي بها في الأمم المتحدة.. بل وتهدد عدداً من دول (الاضطرار) الأفريقية بـ(الويل) والثبور وقطع المعونات عنها إن هي صوتت لصالح (الاعتراف) بالدولة الفلسطينية.. بينما ظل وسيط السلام الأمريكي ساكناً.. ساكتاً، وكأن الأمر لا يعنيه ولكنه فجأة. حضر وبقوة (على لسان وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون) أمام (الدعوة) الفرنسية التي تقدم بها (آلان جوبيه) لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط في النصف الثاني من شهر يوليه القادم، لفض حالة الاحتباس في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية.. لا ليدعمها أو يذلل العقبات أمامها، ولكن ليطلق عليها رصاصة الرحمة.. كما قالت صحافته، وهو ما قد يؤدي.. إلى مواجهات سياسية لا تخلو من العنف مجدداً بين طرفي الصراع ومن حولهم، وتلك هي المأساة التي على الفلسطينيين والعرب الاستعداد لـ»مواجهتها»، فـ»الاحتلال» في النهاية.. ليس قدراً - لا راد له - كما تريده إسرائيل ووسيطها الأمريكي رغم القوة وعنفوانها وجبروتها، فقد كسره (غاندي) من قبل في الأربعينات، كما كسره (مانديلا) من بعد في التسعينات.

dar.almarsaa@hotmail.com
 

«الدستور الفلسطيني».. يبحث عن دولته..
عبدالله مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة