Saturday  25/06/2011/2011 Issue 14149

السبت 23 رجب 1432  العدد  14149

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قادت إحداهن سياراتها أو سيارة زوجها أو سيارة المنزل أو العائلة من منزلها إلى مجمع تجاري على كورنيش الخبر ولم يعترض طريقها أحد، وأخرى سمعنا أنها قادت سيارتها لمدة أربعة أيام متواصلة في مدينة جدة دون أن يعترض طريقها أحد. اعتراض طريقها لا أقصد به الأجهزة الأمنية

ولا المعارضين لقيادة المرأة للسيارة بل العامة، رجال الشارع من مواطن ووافد وهذا دليل ليس فقط على استساغة الناس لقيادة المرأة فقط ووجودها خلف مقود السيارة بل دليل حي يقدم لمن يزعم بأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة في هذا الأمر، فإن كان ما زعم به أولئك فليقدم لنا أحدهم دليلاً واحداً على أن مفسدة ما قد حصلت لإحداهن وهن يقدن السيارة في أماكن عامة وبين جموع من المواطنين والسائقين.

كنت قد كتبت في هذه الجريدة مقالاً أغضب الكثير ممن يدعون فهمهم سواءً لليبرالية أو العلمانية، ولكن دافعي فيما قمت ببحثه وجمعه ومحاولة استكشافه وتفسيره آنذاك هو توضيح مفهوم زعم وجود المدرسة العلمانية العربية، كما وتبيان الفروقات ليس فقط في مفهوم الليبرالية الغربية وقرينتها العربية بل وفي انسياق الكثير ولهثهم خلف مفهوم الليبرالية ومحاولة إلصاقها بهم ليتم استغلال إيجابياتها لتبرير وتمرير الكثير من أفكارهم ومفاهيمهم في محاولة للضغط على التيارات الأيديولوجية الأخرى من خلال ما توفره الليبرالية من إيجاد مساحة واسعة لتحرير العقل، واعتمادها التحليل المنطقي للأمور ناسين أو متناسين مفهوم الليبرالية الواسع الذي يحرر العقل بحق لكن ضمن ثوابت عقائدية معينة بعكس المنهج العلماني الذي يعتمد حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي الذي يراد عزله وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلا تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي. وقد حدث ذلك وبان بشكل جلي في قضية منال الشريف التي قادت سيارتها في الخبر فقد ذهب الكثيرون لمحاولة إلصاق أو ربط ما قامت به بتحريض من مجموعات إلكترونية عبر الشبكة العنكبوتية، وبغض النظر عن صحة هذا الإدعاء الذي لم يثبت حتى لحظة كتابة هذا المقال، فإن مجرد محاولة ربط الخروج عن المألوف في العرف الاجتماعي وليس الشرعي خير دليل على سعي أولئك لتجيير ما يُعتبر تغييراً اجتماعياً على أنه قضية شرعية من خلال استخدام دع ما يريبك إلى مالا يريبك ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة برغم عدم حدوث مفسدة فيما قامت به تلك التي قادت سيارتها ولا يوجد مبرر للريبة في ذلك، بل ربما ذهبوا لتصعيد الحدث سياسياً لحشد أكبر رأي عام بل وتأليبه وتشتيت ذهن المتابع العادي بطريقة لا تخلو من الخبث من خلال ربطها بمجموعات إلكترونية تحرض على قيادة المرأة للسيارة.

لم يدر بخلدي إطلاقاً هذا الكم الهائل من الخلط الحادث بين الليبرالية والعلمانية من جهة وبين أتباع التيار الديني في نظرتهم لمفهوم الليبرالية من جهة أخرى، فقد اتضح لي من خلال متابعتي اندفاع كثير ممن يعتقدون بوجود الخلاف النظري بين مفهوم الليبرالية والدين، اندفاعهم لتكفير معتنقي هذا المفهوم أو ممن يحملون صفة الليبرالية. متناسين بشكل صريح محاولة البحث والتحري في مضامين مفهوم الليبرالية وعدم تعارضها مع الثوابت العقائدية في أساسها التي نشأت عليه إلا ممن اعتنقوها فقط لتمرير حقائد معينة عبرها أو لصناعة وخلق هذا التصادم الحادث حالياً.

لقد تم تصوير الليبرالية فيما مضى من زمن على أنها مولود العلمانية أو أنها خارجة من رحم العلمانية برغم معرفة من يذهب بهذا الزعم أن ثمة فروقات كبيرة بين الليبرالية والعلمانية ولست من الذين يرون ذلك أو يدعون معرفتها بل هي موجودة في أمهات الكتب لو كلف أحدهم عناء نفسه بالبحث والتقصي بحيادية بغية الكشف والكشف فقط عن ماهية الأيديولوجيتين دون أن يكون في بحثه دافع كامن لترجيح تصور معين كان قد تم إعداده سلفاً. تلك الكتب التي تشهد براءة الليبرالية من جل ما تتهم به الآن من قبل من لم يرغب البحث والتقصي في حقائقها وحيثياتها.

خشيت قبل أن أزعم ما كان يدور بخلدي أن أكون قد تجنيت على أحد أو ظلمت أحداً لكن متابعتي لهذا الكم الهائل من معادي الليبرالية ومحاولة إلصاق كثير ممن يعلمون وممن لا يعلمون، كثير من الصفات غير المحمودة بها، جعلني أزعم دون خوف أو تردد من ظلم أحد أن من ذهب لتكفير معتنقي الفكر الليبرالي هم أول من استخدم هذا الفكر كغطاء وصبغة من أجل تحقيق غايات وأهداف لتدمير البشرية. فقد ذهب كثيرون إلى تصوير الليبرالية على أنها تحرير العقل من جميع القيود بما فيها تلك الثوابت العقائدية الدينية وأن معتنق الليبرالية هو إله نفسه فيستطيع حينئذ أن يقوم بتكفير فلان وهدر دم فلان بحجة عدم توافق ما ذهب إليه مع ما يعتقده هذا الليبرالي المزيف. من هنا تم استخدام هذا الفكر بطريقة همجية سلبية لا تعتمد على أساس مذهبي أو أيديولوجي معين وإنما تجد معظم من اعتنق الليبرالية لا مضمون لديهم في خطاباتهم إن وجدت بل إنهم لا خطابات ولا منهج يسيرون على هداه.

كيف يستطيع ثلة من الشباب صغار السن الذين يقودهم كبيرهم أن يقتنعوا بضرورة تكفير جماعة معينة تؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، إلا من خلال تسخير فكر الليبرالية المشكلة بطريقة كبيرهم والتي تعطيهم مساحة واسعة من تحرر العقل بما فيه زوال الوازع الديني من حيث لا يدرون ثم يقومون بذلك التكفير الذي يقودهم بالنهاية إلى ارتكاب جرائم بشعة بحق الإنسانية.

هؤلاء هم من قلب الطاولة الآن على كل من يحاول أن يمد يده لتقدم الشعوب بحجة أنه ليبرالي، ليبرالي حقيقي وليس ليبرالي على شاكلتهم، فالليبرالية الحقيقة لا تتعارض والثوابت الدينية وهي حرية مقيدة وليست حرية مطلقة كالعلمانية وهذا ما يريد كثير من معارضي تقدم الشعوب إثباته، وأعيد هنا أن الليبرالية تدعوا إلى تحرر العقل دون المساس بالثوابت الدينية ولكنها تتطالب بأن تتسع دائرة الحظر ربما المفروضة على بعض المسلمات الدينية بغية معرفتها والاضطلاع عليها وكشفها وهذا لا ريب ولا تثريب فيه، فأنا مسلم ولي الحق أن أخرج خارج حدود الدائرة الضيقة الخضراء التي رسمها لي أساتذة المواد الإسلامية في مراحل الدراسة المبكرة، أريد أن أخرج إلى الدائرة الصفراء ثم البرتقالية وأقف عند الحمراء ولا أقترب منها، لدي العديد من التساؤلات حول كثير من جوانب الدين الذي أعتنقه من حقي أن أتعرف عليها دون أن يمنعني أحدهم بقوله إنها من المسلمات التي لا ينبغي أن يتم النقاش حولها، لماذا؟ أولست مسلماً؟ إذا فقل لي لماذا واشرح لي وأجبني حتى أكون مطلعاً على كل جوانب ديني الذي اعتنقته ومؤمناً به وسأظل مؤمناً به رغم حتف أنوف من شاء ومن أبى ومن اتخذ من درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ومن دع ما يريبك إلا ما لا يريبك منهجاً للخروج من أي مأزق قد يعترضه عند اللزوم.

أعود لأقول هؤلاء هم من قلب الطاولة ضد كل تغيير في المجتمع، وأصبح كل مناشد للتغير هو ليبرالي كافر. تخيلوا (ليبرالي كافر) في حين أن أحداً لم يتطرق للعلمانية وكفرها البواح. إذا أردنا تقدماً في مجال تقني معين فأنت ليبرالي تطالب بالخروج عن المألوف وأنت كافر. إن أردنا أن تعمل المرأة، قالوا أنت ليبرالي كافر، إن أردنا أن تقود المرأة السيارة قالوا أنت ليبرالي كافر. باختصار كل ما يرمي إلى تقدم المجتمع يعتبر من صلب الليبرالية الكافرة.

قد يخرج من يقول، وهل في قيادة المرأة للسيارة تقدم لحضارتنا، أو هل في عمل المرأة سنخطوا نحو التقدم المنشود؟ الأمر ليس هكذا، ولا يجب أن ينظر له بهذه الطريقة العقيمة والأفق الضيق، لم يكن تعليم البنت يوماً ضرورة ولم يؤمر ولي أمر فتاة من قبل قنوات رسمية أن يجعلها تخرج لتعمل معلمه أو لنقل طبيبة تخالط الرجال، ولم تمنع المرأة من ممارسة التجارة ولم يجبر أحدهم على الخروج بابنته أو زوجته أو أخته للجامعة كدارسة أو طالبة، ولم يطلب من ولي أمر أن يستخرج جواز سفر به صورة زوجته أو ابنته إن لم يرد، ولم يجبر أحدهم أن يصدر بطاقة أحوال لإحدى محارمه، فما بال القوم ثارت ثائرتهم من قيادة المرأة للسيارة، وهل إن أجيز ذلك وهو غير مخالف لثوابت ديننا الحنيف، هل إن أجيز ذلك سيلزم كل رجل أن يجعل محارمه يقدن السيارات، إنها يا أخوان حرية شخصية، إنها ليبرالية شخصية من يريدها فليأخذها ومن لا يرغب بها فليتركها.

إنها الليبرالية الحقة التي تفيد معنى الحرية الشخصية ضمن الأطر المسموح بها دينياً وأخلاقياً، إنها الليبرالية التي تعني الحرية المقيدة وليست الحرية المطلقة، إنها الليبرالية التي لا تقترب من الخطوط الحمراء. أرجوكم فرقوا بينها وبين العلمانية فالأولى صفة شخصية تحترم ثوابت وعقائد الأديان وهي مقيدة وتسمح بهامش لتحرير العقل، والثانية تفصل بين الدين والحياة. أرجوكم لا تخلطوا المفاهيم لمجرد الرغبة في عدم قبول أحدكم لنوع من التقدم، أرجوكم لا تخلطوا بين الليبرالية والفرانكفونية والماركسية والشيوعية والعلمانية، لنكن أكثر وضوحاً وصراحةً، لنرفض مطلباً اجتماعياً بمبررات يقبلها العقل دون إقحام مصطلحات على نحو مغاير لمعانيها لمجرد محاولة عابثة لإقناع جماعة من الأفراد ربما لا علم لهم بالأمر. إن أردنا فعلاً محاربة قيادة المرأة للسيارة فلنسارع لتنظيم أنفسنا ونستجلب الأفكار التي ربما تكون أكثر إقناعاً إذا كانت من واقعنا الاجتماعي، بدلاً من اللجوء إلى المصطلحات الدينية الشرعية الإيديولوجية التي قد تكون في صالح الفكرة وليست ضدها، فدرء مفسدة مقدم على جلب مصلحة هو في صالح قيادة المرأة للسيارة وليس ضدها فكيف نسمح لمحارمنا أن يخرجن مع أجنبي سائق بشكل يومي لمرات عدة ولا نسمح لها بالخروج بمفردها، أليس في خروجها في خلوة داخل مساحة ضيقة مع سائق أجنبي مفسدة؟ أو ليس الأولى تقديم المصلحة هنا على المفسدة؟ إن كان لدينا ما يبرر الوقوف ضد أي مشروع اجتماعي سواءً قيادة المرأة للسيارة أو خلافه، فلنتقدم بأسباب واقعية مسموعة لها تأثيرها بما تحمله من مضامين ودوافع ربما اجتماعية أو أخلاقية -حيث لن نسمح بتمرير مشروع مخالف لشرع الله سبحانه وتعالى- وطالما مشروعاتنا الاجتماعية التي تتم المطالبة بها لا تتعارض وديننا الحنيف فلتكن أسباب رفضنا لها من منظورنا الاجتماعي الواقعي. وفي نهاية المطاف أنت وأنا وغيرنا غير مجبرين على التقيد بذلك التطور، فمن رغب به فليكن له ما أراد ومن رغب عنه فليتركه. إلى لقاء قادم إن كتب الله.

 

درء المفسدة بين السائق والسائقة
عبدالله بن سعد العبيد

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة