Sunday  26/06/2011/2011 Issue 14150

الأحد 24 رجب 1432  العدد  14150

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

ليس «نزار» شاعر القومية العربية الأول.. كـ»غيره» من صفوة شعرائها في القرن العشرين من أمثال القروي والشناوي ومحمود حسن إسماعيل والشابي ومحمود درويش وسميح القاسم والدنقل.. يكفي أن تكتب عن «ديوان» من دواوينه مرة، أو أن تتوسع في تقديم قراءة شاملة لـ»أعماله».. مرة، أو أن تؤبنه عند انتقاله إلى رحمة الله.. مرة أو أكثر.

كما حدث عند وفاته في الثلاثين من إبريل من عام 1998م.. حيث اختلطت دموع المثقفين بمدادهم وهي تشهق بالبكاء عليه والحسرة لفَقْده فور تلقيها نبأ رحيله الفاجع.. ثم لتواصل الكتابة عنه وتأبينه الشهر والشهرين.. بل العام والعامين كما فعل صحفي جريدة «الحياة» الأديب والفنان الأستاذ (إبراهيم العريس) عندما رصد ما جرى في 1 آيار - مايو - 1998م (أول يوم بعد رحيل نزار قباني) في مقال جميل له بعد عامَيْن من رحيل نزار.. أنهاه قائلاً: (حين أدرك هؤلاء - من المسؤولين والجماهير العربية - في الأول من آيار - مايو أن الحياة خسرت نزار قباني.. شعروا بأن جزءاً من عالمنا بدأ ينهار)!!

فقد كان «نزار» حالة منفردة في حضوره الشعري الساطع والملتهب والجريء.. لا يُضاهى ولا يُجارى في اشتعاله وجنونه.. وفي عذوبته وعبقريته، منذ أن جاءه (حزيران 67) بهزائمه وويلاته وانكساره؛ ليقلب صفحة العشق والهوى الدمشقي، والليل البيروتي الجميل من حياته.. وهو يرى مَنْ كنا نسميهم - حتى تلك اللحظة - بـ»الشرذمة» و»شذاذ الآفاق».. وهم يسرحون ويمرحون بأحذيتهم ونعالهم فوق تراب الوطن وأرضه في سيناء والضفة والقدس وغزة والجولان؛ فيستبد به الحزن على نفسه وعلى أمته.. ليقول وقد اتخذ قراره: (يا وطني الحزين حولتني بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين.. لشاعر يكتب بالسكين)، ثم ليتحول - وعلى الفور - إلى كتابة (التحليل السياسي) شعراً.. وكما جاء في قصيدته (متعب بعروبتي):

أنا يا صديقة متعب بعروبتي

فهل العروبة لعنة وعقابُ؟

أمشي على ورق الخريطة خائفاً

فعلى الخريطة كلنا أغرابُ

أتكلم الفصحى أمام عشيرتي

وأعيد.. لكن ما هناك جوابُ

لولا العباءات التي التفوا بها

ما كنت أحسب.. أنهم أعرابُ

يتقاتلون على بقايا تمرة

فخناجرٌ مرفوعة.. وجرابُ

قبلاتهم عربية.. من ذا رأى

فيما رأى، قُبَلاً لها أنيابُ

.. وإلى كتابة (الرثاء السياسي).. شعراً، كقوله:

زمانك بستان وعصرك أخضر

وذكراك عصفور من القلب ينقرُ

تناديك من شوق إليك مآذن مكة

وتبكيك يا حبيبي.. بدر وخيبر

.. وإلى كتابة (التعلق السياسي) شعراً، كقوله في قصيدة (المهرولون):

من تُرى يسألهم

عن سلام الجبناء؟

لا سلام الأقوياء القادرين

من تُرى يسألهم؟

عن سلام البيع بالتقسيط،

والتأجير بالتقسيط..

والصفقات.. والتجار.. والمستثمرين؟

من تُرى يسألهم؟

عن سلام الميتين..

أسْكتوا الشارع

واغتالوا جميع الأسئلة..

وجميع السائلين..

ليتصدى له دفاعاً عن (المهرولين) الأستاذ لطفي الخولي، الذي ذهب إلى «ألفاظ» القصيدة وليس لـ»معانيها» قائلاً: (ما هذا؟ ننتظرك في الشرق الفني.. فتأتينا من الغرب السياسي) فلم يرد عليه، ولكنه رد على عميد الرواية العربية الأستاذ نجيب محفوظ.. مذكراً إياه بأنه ما زال يعاني من (طفح) كامب ديفيد القديم الذي ظهر حينها على جلود بعض المثقفين..!!

ليواصل سيره.. معبراً عن أعلى درجات «اليأس» السياسي التي بلغها شعراً.. عندما كتب قانطاً متسائلاً (متى يعلنون وفاة العرب)، وهو يقول:

أنا منذ خمسين عاماً،

أحاول رسم بلاد

تسمى «مجازاً» بلاد العرب

رسمت بلون الشرايين حيناً

وحيناً رسمت بلون الغضب.

وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي:

إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب..

ففي أي مقبرة يدفنون؟

ومن سوف يبكي عليهم؟

وليس لديهم بنات..

وليس لديهم بنون..

وليس هناك حزن..

وليس هنالك من يحزنون!!

على أنه، وقبل أن يتساءل عن (وفاة العرب).. ويشغله أمر (متى) و(أين) و(كيف) سيدفنون وهم لا بنات لهم ولا بنون كان قد أعلن أنه مواطن من دولة قمعستان (قمع ستان).. وهو يقول فيها:

هل تعرفون من أنا..؟

مواطن يسكن في دولة قمعستان

وهذه الدولة ليست نكتة مصرية

أو صورة منقولة عن كتب البديع والبيان

فأرض قمعستان.. قد جاء ذكرها في معجم البلدان

وإن من أهم صادراتها

حقائب جلدية مصنوعة من جلد الإنسان

وهو يُسائل قرَّاءه:

هل تطلبون نبذة صغيرة عن أرض قمعستان

تلك التي تمتد

من شواطئ القهر.. إلى شواطئ القتل

إلى شواطئ السحل.. إلى شواطئ الأحزان

وسيفها يمتد من مدخل الشريان إلى الشريان

وأول البنود في دستورها..

يقضي بأن تلغى غريزة الكلام.. في الإنسان

***

مع انطواء.. اليوم الأخير من شهر نيسان (إبريل) الماضي.. وهو يوم ذكرى رحيله الثالث عشر كانت صورته تشرق في ذاكرتي مجدداً.. ومعها تساؤله الشعري (متى يعلنون وفاة العرب) وهم لا بنات لهم ولا بنون يدفنونهم أو يبكون ويحزنون عليهم، التي استفزت قلة من المثقفين المصريين بينما أيدتها أكثريتهم، وامتدحها وامتدح قائلها في حينه شاعر الأهرام ورئيس قسمه الثقافي الأستاذ (فاروق جويدة)، وعندما فاجأ موت (نزار) الجميع.. كان أول الباكين عليه.. في قصيدته (وسافر فارس العشق) التي كتبها بعد ثمانية أيام من رحيله.. وابتدأها قائلاً:

كيف التقى البحرُ والبركان في قلمٍ

وكيف صارت خيوط العُشبِ من ذهبِ

خمسون عاماً وأنت النجم في زمن

بين السفوح أضاع الجدَّ باللعب

حاربت بالشعر كُهاناً محنطةً

فوق الشواهد تاريخ من الكذب

في جنة الخلد أنت الآن ترقبنا

ماذا يقول الأولى من سادة العرب

ماذا يقول صلاح الدين عن وطن

في سكرة العجز باع السيفَ بالخطبِ

.. واختتمها قائلاً:

في قبرك الآن تشدو ألف لؤلؤة

وعينُ ماء وأسرابٌ من السحبِ

في قبرك الآن قنديلٌ وسوسنةٌ

ونجمة سافرت في ريشها الذهبي

تخبو وجوه الورى إن ضمهم كفن

ووجهك الغض في الأعماق لم يغبِ)

.. لأقول، وبكل الحب له في غيابه الآني.. وحضوره السياسي العربي الدائم: لقد أثمر نضالك.. وأنبتت كلماتك، وأخصبت الأرض التي حرثتها بنين وبنات يعرفون الحرية وطريقها، وقد جاؤوا بها إلى مدينتيك: «تونس» فـ»القاهرة»، وكأنهم يجيبون بـ»الفعل» لا بـ»القول» عن أسئلتك المتعَبَة والمتعِبَة، عندما وضعت أقدامك فوق التراب التونسي بعد أن دعتك الجامعة العربية (بها).. لحضور مهرجان احتفالها بمرور خمسة وثلاثين عاماً على إنشائها في الثاني والعشرين من مارس من عام 1980م.. فأخذت تقول لها وتسألها:

يا تونس الخضراء.. كيف خلاصنا؟

.............

ماتت خيول بني أمية كلُّها

خجلاً.. وظل الصرفُ والإعرابُ

فكأنما كُتُبُ التراث خرافة

كبرى، فلا عُمرٌ.. ولا خطَّابُ

وبيارق ابن العاص.. تمسحُ دمعها

وعزيز مصرٍ بالفصام مُصَابُ

من ذا يصدق إن مصرَ تهوَّدَتْ

فمقام سيدنا الحسين يبابُ

ما هذه مصر.. فإن صلاتها

عِبْريَةٌ.. وإمامها كذَّابُ

ما هذه مصر.. فإن سماءها

صغُرتْ، وإنّ نساءَها أسلابُ

فهذه هي «تونس» التي عاتبتها.. وقد استرد لها شبابها حريتها وعزيمتها، وهذه هي مصرك.. التي أحببتها وبكيت لها وعليها، وقد استرد لها شباب النيل إرادتها واستقلالها، فلم يكن في الفرحة بهما وبما أنجزاه.. غير دمعة بين الأهداب؛ لأنك لم تكن في استقبالهما.. لتقبلهما وتحتضنهما، فهما قراؤك وأبناؤك وتلاميذك النجباء، الذين تعلموا على يديك أول دروس الحرية.. وآخر دروس العروبة!!

***

لقد قال (نزار) في واحدة من تجلياته النثرية.. عن أستاذ الشعر ومعلمه الأكبر (أبو الطيب المتنبي): «المتنبي، حادث شعري.. خارج سلطة الموت».. دون أن يدري بأنه سيأتي زمن ليس ببعيد ليقول الناس عنه.. قولته نفسها.. بأن (نزار حادث شعري.. خارج سلطة الموت)، أو ليقولوا ما قاله فاروق جويدة:

نحن السلاطين كل الكون دولتنا

ونحن بالشعر فوق الجاهِ والنسبِ

نحن السلاطين شاء البعض أم غضبوا

فكل ما عندهم كوخٌ من الخشبِ

أو ليقولوا عنه ما قاله الصديق الدكتور عبدالعزيز السبيل: «إن رحلَ نزار.. فرداً، فقد بقي جيلاً»..!

فقد كان نزار.. عبقري «كلمة»، وعبقري.. «فكرة».. وهما تخرجان حيناً من مناجم ماسه، وكثيراً.. من تنور غضبه لأمته وعليها.

dar.almarsaa@hotmail.com
 

نزار.. و»الغياب» و»ربيع الحرية»..؟!
عبدالله مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة