Tuesday  28/06/2011/2011 Issue 14152

الثلاثاء 26 رجب 1432  العدد  14152

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قادتني الصدفة البحثية إلى معرج على الثقافة الصينية، في مقال للكاتب «فرانسيس سو»، عن علاقة الفلسفة الصينية باللغة الصينية. وهي ثقافة من أعرق الثقافات ومن أكثرها عطاءً للبشرية. وهذه الثقافة مثل غيرها من الثقافات الآسيوية عريقة في إرثها ولكنها متنوعة في اعتقاداتها. ولذلك فقد تأثرت هذه الحضارة ماديًا ودينيًا بكثير من الحضارات الأخرى لكنها بقيت صامدة ثقافياً.

وقد اعترف لي أحد الأساتذة الصينيين قائلاً: نحن شعب طيب وقد سمحنا لكثير من الثقافات باستعمارنا، البرتغاليون في مكاو، والبريطانيون في هونج كونج، والأمريكيون في تايوان، وقبلهم الأسبان في بعض المناطق الساحلية. لا يوجد في العقلية الصينية (واليابانية، والكورية والفيتنامية) مفاهيم عامة مجردة، ولا يوجد في اللغة الصينية حروف ألفبائية، فهي لغة في مجملها تصويرية (Pictographic) مثلها مثل الهيروغليفية حيث تأخذ الكلمات شكل الصور، فكلمة قمر ترسم على شكل هلال، وكلمة زوجة على شكل بيت هرمي داخله امرأة، وهلم جرا. ثم ابتعدت الكلمات تدريجياً عن الشكل الصوري لتأخذ شكل الخطوط، والضربات القصيرة الأفقية، والعمودية، والجانبية, لذا لا يوجد في اللغة الصينية حروف بل كلمات فقط. ومع الوقت أخذت مقاطع الكلمات وضع الحروف في اللغات ألفبائية حيث تلصق الكلمات مع بعضها لتشكل كلمات جديدة.فالكلمات في اللغة الصينية لا تتغير، ولا تعرب، ولا تنصرف، ولا تلحق بها لواحق أو كواسع. فمن كلمة ماء تشتق كلمة بحر، ومحيط، ونهر، وتدخل كلمة حصان في تشكيل كل ماله صله بالحركة، والعربات، والمكائن، وقس عليه. كما لا تنصرف الأفعال للماضي أو المضارع أو المستقبل، بل يفهم ذلك من إلصاق كلمات معينة بها. ويوجد في اللغة الصينية الدارجة ثلاثة آلاف كلمة، أما لغة الثقافة فيوجد بها خمسة آلاف كلمة. ولذلك خلت الذهنية الصينية من الكليات الفكرية، واعتمدت على التجربة العملية أكثر من التفكير الاستقرائي المجرد. ولا يوجد في اللغة الصينية نصوص طويلة من أية نمط بل توجد كتب تتألف من مجموعة من العبارات الكثيرة يتشكل كل منها من عدة سطور مثل كتب الفلسفة الكونفوشيوسية، والفلسفة اللاوية (فلسفة لاو تسو)، وهذا هو طابع كتاب ماوتسي تونج الأحمر أيضًا. فمن حكم كونفوشيوس قوله في عبارتين: «الرجل العظيم يفكر في الفضيلة، والرجل الوضيع يفكر دائمًا في التملك والاستحواذ». ومن أقواله أيضًا: «الرجل العظيم يخجل عندما تكون كلماته أكبر من أفعاله». هكذا تكلم كونفوشيوس. أما لاو تسو فيقول: «الحكيم من لا يجمع لنفسه، فهو كلما أعطى للآخرين أكثر أحس أنه يمتلك أكثر». ويقول أيضًا: «أفضل الرجال مثل الماء يفيد كل شيء ويبقى دائماً في الأماكن المنخفضة». ولا يوجد في الصينية مفهوم واحد للألوهية، بل هم يقدسون كل الأشياء المفيدة في بيئتهم، النهر العظيم، والشجرة الوارفة، والجبل الذي يصد ارياح، والحيوانات التي تنقلهم.. إلخ. ولذا فإننا نجدهم يحافظون على البيئة ويجعلون من ذلك أمرًا مقدسًا. وهم يعتقدون أن الإنسان مستخلف في الأرض ليحافظ عليها لا ليدمرها أو يوسخها. لذا تواضع الصينيون وترجموا من الثقافات الأخرى جميع كتبها، فترجموا الكتب البوذية في العصور القديمة، والقرآن فيما بعد حيث يوجد عدد كبير من المسلمين، وكذلك ترجموا الأناجيل في العصور الوسطى، وكتب العلوم الإنسانية والروايات الغربية في القرن الثامن عشر، ثم ترجموا جميع الكتب الشيوعية من الاتحاد السوفييتي سابقًا، قبل أن ينفتحوا على العالم في عام 1978. فالصينيون، واليابانيون والكوريون أيضاً، مشغولون دائماً بتحصيل العلم وتطوير بلادهم دون خلافات وصراعات مذهبية. فهم في الغالب يتبنون الديانات والحكم التي تحض على التواضع. بالرغم من أن أباطرتهم قد دفعوهم لكثير من الحروب. وقد استسلمت الصين وهي أكبر دول العالم لبريطانيا، ولم تتخلص من الحكم البريطاني إلا بعد حرب الأفيون الشهيرة في عام 1848.تتربع الصين اليوم على عرش الصناعة في العالم، وهم على كثرتهم لا يتمكنون اليوم من عد العملة الصعبة التي تدخل اقتصادهم. استرجعوا هونج كونج ومعها مئتين وخمسين ألف كيلو متر مربع من المياه الإقليمية، واسترجعوا ماكاو من البرتغال بثقافتها ولغتها، بعد أن حولها البرتغاليون لمدينة قمار. ولكنهم لم يغيروا شيئًا من طبيعة هذه البلاد المستردة. وربما قد يستعيدون مناطق أخرى ناطقة باللغة الصينية. والعالم يستعد لحقبة صينية لا شك قادمة، فهل يستمر الصينيون في تواضعهم؟ وهل يقتفون أثر كونفوشيوس أم يتبنون فلسفة آدم سميث، وخداع الإمبراطورية البريطانية، وعنف البراقماتية الأمريكية؟ وكيف يجب علينا نحن الاستعداد لتلك الحقبة لاسيما وأننا نحن العرب أقل الناس تخطيطًا واستعدادًا للأمور المستقبلية؟ وهنها يجب أن أتذكر أحد مؤتمرات حوار الحضارات الذي أقيم في الرياض قبل سنوات، وكانت اليابان ضيفة الشرف فيه، حيث شارك من جانبنا مجموعة من حماة حياض الثقافة لدينا ممن يشاركون كل مرة وكأنهم حراس ثقافتنا ويرددون الكلام ذاته دونما مراعاة لمن هم يخاطبون، وكانت الجلسة أشبه بحوار الطرشان بسبب جهل البعض منا بالخلفية الثقافية لليابانيين، حيث حاول اليابانيون، ومنهم أساتذة أفاضل في مجالات مختلفة، بكل ما استطاعوا أن يقنعوا الآخرين بأنهم يعتقدون أن للطبيعة خالق في مفهومهم يشبه اللهيالإسلام، لكنهم يقدسون بعض الأشياء الموجودة في الطبيعة. أما بعض المدعوين من جانبنا فكانوا يصرون على أن اليابانيين مشركون، وأنهم لا يعترفون بهم ولا بديانتهم، وكانوا يرددون كل مرة: نحن نحترمكم ولكن لا نعترف بكم. وكم تمنيت، لو أن بعض من نظموا هذا الحوار كانوا على إطلاع بطبيعة ضيوفهم قبل دعوتهم، أو أن مثل هذا الحوار لم يعقد، ولكن لله في خلقه شئون.

latifmohammed@hotmail.com
 

لله في خلقه شئون!
د. محمد بن عبدالله العبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة