Friday  01/07/2011/2011 Issue 14155

الجمعة 29 رجب 1432  العدد  14155

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

دمعة حرّى.. على (راكان)

رجوع

 

(مقصدان)، الأول:

فَقَد صديقي وابن العمة أخي (منصور بن محمد السعود) ابنه اليافع راكان فقداً فجئياً إثر حادث، أو يكاد يكون كذلك، عوَّض الله شبابه عليه في الجنة، وأخلف على والديه.

سألتني بكاء.. خُذه من كبدي

لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره

هذا لسان حال والديّ (راكان).. الذي كان بين جنبيهما.. يملأ القلب، قبل المكان.

أبا راكان.. الذي مثل عذب النسيم بَرّد على وجنتيك، فبان

ما كان أسرع نجم هوى، بين الجديدين، قال أبو الحسن التهامي:

يا (كوكباً) ما كان أقصر عمره

وكذاك عمر كواكب الأسحار

هذه شذرات مفردات الأب، وهو.. يتحسس فقدك الجسدي:

يعز علي (حين أدير عيني)

أفتّش في مكانك.. فلا أراكا

أما المعنوي فأنت - شبلنا - باق.. لأثرك الجميل.. فينا.

كان راكان صورة صغيرة لحلم كبير..

حلم جميل ما كان أجمل من خياله.

و(حلم) ما كان أسرع من انضوائه.

وإن تلمسناه ولمسنا به آمالاً تكبر في عيني مَنْ يراعيه، فبقيت عنه عالقة لدي..

أُنسينا (بروحه.. ورواحه) أنه قارب الصحو.. منه، فنبحث (بعدُ..) في مكانه.. فلا نراه.

مرة أو مرتَيْن رأيته في (يفاعته)، كان آخرها قبل عام.. لكني أُسائل الحنايا عنه: أتدري من راكان.. هذا؟

إنه ذاك الغرّ الذي كان يستقبلنا.. حين نأتي إطلالة بين آن وآخر على عمتنا جدته من أبيه (شريفة) يرحمها الله.

فكان لطفه أكبر من عمره، وحُسْن استقباله سابق أنداده، و(حرصه) بل (تلزيمه) أكبر من أن تتوقعه بنظرائه..

وكانت ملامح دنياه تُنبئ عن وَعْد مشرق في عينَيْه.

فاسمح لي أبا راكان..

أن أبكي معك راكان

وإن لم تسمح فما تقدم (شافع) لأدمعي.. وليس لي، أن تبكيه، ولن أبالغ إن قلت أن (نهذي) سوياً خلف غيابه الفجائي.

الآن.. تذكرته أكثر.. وأكثر..

الآن أبكيه - أيضاً - أكثر.. وأكثر..

لكن أبشر، أبشر، فكم رأيت في جَلَدك - إن شاء الله - صبراً، واحتساباً؛ ما يُنبئ عن قبول (من المولى) له، فلك ولوالدته ابنة العم سليمان المطلق الأجر.. والسلوان، أن تُعوَّضا خيراً، وفي محمد وإخوته الخير بإذن الذي قضى وقدَّر وشرع فيسّر.

المقصد الثاني:

أن تكلم أسطر (تعزية) وتأبين لشبلنا خاصة من ناحية، ومن ناحية أخرى جالب للبسط بهذا (الطارق) عن قدر ومقام (التعزية)، وداعيها، ثم أثرها على ذوي الفاقد.

فأسهب بزاوية أخرى إكراماً للفقيد الشبل الغالي الذي كُلم عليه قلبا والدَيْه، إضافة إلى ما لا يخفى مما جاء في الشرع الذي يحث على الصبر والاحتساب، فأقول عن مسألة (الصبر عند المصيبة الأولى) التي لا شك أنهما مرا بها سوياً - أقصد تجرع آلام تلكم المصيبة - أقول: وعسى تكون هذه الأسطر رافداً أن يحتسبا ومن ثم تجلي هذه المادة - إن شاء الله - عما كتماه حال توديعهما الغالي على الجميع الفقيد الشاب.

أي أُسطِّر عن (العزاء) الذي معناه باللغة العربية (التقوية)وفي حديث آخر ذكر في حق المسلم من الحقوق الخمسة على أخيه: (تعزيته) إذا ما فَقَد غالياً.

فأعلل لهذه التعزية الشرعية طبعاً التي هي تقوية الفاقد (شد من أزره) في تلك الفترة، بالأخص الأيام الأولى من المصاب؛ وذاك أنه يمر بحالة ضعف تخور قواه فيها! نحو ما عبر (عن حاله) الشاعر عندها:

وبكيت كالطفل الصغير، أنا الذي

ما لان في صعب الحوادث مقودي

تكاد تصل إن لم يسعفه إيمانه فيتجلد محتسباً، وإلا فلا مناص من أن يبلغ نوعية فئة.. قد وهن إيمانها فكان لا تعبير للجزع - لا قدر الله - ومن ثم شق الجيب ولطم الخد..! بخاصة حال استغراب كـ(فجئية) وقوع المصاب، قال تعالى عن أم هارون: {رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (10) سورة القصص.

لأن الإنسان في تلك (اللحظة) يضعف عنده الشعور إلى درجة دنيا.. وعندها يكون بحاجة إلى جرعة إيمانية عظيمة، وهي: إعانته وتعزيته كما أمر الشرع، كذلك أذن في التواصل معه تخفيفاً وللتذكير، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ} (5) سورة إبراهيم.

فذلك تذكره مع الاحتساب والأجر والمثوبة إلى أننا (كلنا على هذا الطريق)، وقد جاء في الحديث: "تعزوا عن مصائبكم بي"، كذلك أتى معنى التعزية أو من ضمن معانيه أنها التقوية للفاقد لأنه - كما تقدم - يمر بمرحلة يكون أشد حاجة لعون كهذا.

مرام آخر في الصبر عن المصيبة الأولى:

ما جاء في الحِكَم أن (الشجاعة صبر الساعة)! فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن أول من يواري التراب على الحبيب هو أقرب الناس إليه، ككناية ليس فقط بالتسليم لقدر الله فحسب، لكن مع تقريب لهذا كنفض اليد منه، أو الأمل في عودته.

أخيراً: ما من شك أن ديننا ما أمر بشيء إلا وفيه الخير، ولا نهى عن شيء إلا وفيه الضرر.

كذلك ما من خير إلا وله حِكَم (منافع) علمها من علمها وجهلها من جهلها، فهي قد تظهر أو تختفي حسب الحاجة إليها، وكذا قدرات ومدارك العباد في بلوغها، ومن ذاك أمره بـ(التعزية)، حين جعلها أحد حقوق المسلم على أخيه.

ومن هنا كان لله حكمة بالغة في سَنّ التعزية؛ لأن الفاقد عندئذ يمر بـ(فترة) ضعف نبَّه الحديث إليها: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، بمعنى أن هذا هو وقت الحاجة الحقيقية إليها في: القوة والجَلَد.

لأنه بالمقابل - أي الإنسان - وبعد أن انطوت المناسبة يضعف عنده ذلك الألم بالفقد، وهنا قد لا يحتاج كثيراً إلى الصبر لأنه مع الأيام يسلو وينسى:

وما سُمّى الإنسان إلا لنسيه

ولا القلب قلب إلا من تقلبه

وهذا الذي تقدم تجليته لا يتعارض البتة مع التسليم بالمقادير؛ فالآجال مكتوبة على الإنسان، لكن هذا التسليم سبحان الله العظيم يمر بلحظة معينة عند الفَقْد هي (لحظة ضعف) ساعة الفقد، وبالأخص وهلة سماعك موت العزيز القريب الغالي، وهنا تأتي هذه الساعة، وقد وضحها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند المصيبة الأولى"، أي أن هذه هي (الفرجة الكبرى) التي يدخل خلالها الشيطان على الإنسان!.. ولذلك تكون اللحظة أو تعتبر أعز اختبار وأعظمه؛ للحديث آنفاً.

من هنا طُلب من المسلم - "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً" - التعزية لأخيه المكلوم من فقده عزيزه؛ ليعطيه جرعة قوة (الصبر)؛ حتى لا يدخل الشيطان، وإلا فإنه بعد مضي فترة على الفقد فإن الإنسان يسلى، ويعتاد المرء الفقد، وقد عللت لهذا العرب بأن: (كل شيء يبدأ صغيراً ويكبر، عدا المصيبة التي تبدأ كبيرة ومن ثم تصغر) - حفظنا الله وإياكم - فلحظتها الكبرى: هي لحظة بلوغك خبر الفقد، وهي التي وصى بها صلى الله عليه وسلم بالصبر، كذلك فإن هذه فترة عصيب تجرعها للتسليم بالقضاء (وشرّه)، أو الامتحان الذي يضعف فيه المخلوق كإنسان واهن، فيضعف قلبه، وربما يضعف (إيمانه) بالقضاء والقدر.. هنا يدخل الشيطان! - كما تقدم إيضاحه -.

ومتى أغلقت هذا الباب، أقصد به (هذه الفترة)، خف الشيطان على الإنسان من أن يدخل منه إلى مداخل أخرى غير هذا الذي أوصد عليه، وإن لم تلتجئ (بعد الله) إلى الصبر يأتيك الشيطان من باب آخر: التذكُّر، ثم الوله.. إلخ، فينتج من هذا الجزع ومن ثم يكبر.. من قِبل عدونا الشيطان إذا ما انسدرت وراءه.. كمجال له؛ ليسترسل بنوعية جزعك، حتى يصل - لا قدر الله - إلى توبيخ.. ولو لم تنطق به، قال صلى الله عليه وسلم "أن تؤمن بالقدر خيره وشرّه"، فمقصوده بشرّه - والله أعلم - مثل هذا الحدث، أن تستحضر به الإيمان ولا تستهون أو تسلّم لأي هاجس أو مجال يجرك إليه الشيطان.

أأسف إن تكررت بعض الجُمَل، وما ذاك إلا لحاجة الشرح، وتكميل للفكرة من كل جوانبها، وحصراً لكل أبعادها.

والله أعلم وأحكم.

عبد المحسن بن علي المطلق - الرياض

mohsn222@gmail.com
 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة