Thursday  07/07/2011/2011 Issue 14161

الخميس 06 شعبان 1432  العدد  14161

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

من يتابع المشهد الفكري والثقافي على الساحة هذه الأيام، يشهد حراكاً فكرياً ثقافياً بين أقلام اتخذت منحى جافاً، مخالفاً لأدبيات الحوار والنقد البنّاء. فانبرت تلك الأقلام لإظهار عيب الآخرين من غير حجّة ولا برهان، وتتبع عثراتهم، وتلمس زلاّتهم ؛ للوصول إلى أكبر قدر ممكن من المكاسب. وهي نماذج تضجّ بها الساحة اليوم، فمن شاتم

هازئ، ومن مكفر مخون، ليس لهم هدف سوى الإثارة والتصعيد، وتأجيج القضايا وتصفية الحسابات. والمذهل في هذه اللغة الجافة، هو حجم الإقصاء الذي يعبّر فيها هؤلاء عن مشاعرهم نحو الآخر.

ولذا يبدو أنّ ثقافة «الإقصاء»، والتي تمثّلت يوماً من الأيام في شخصية القائد الملهم للأمة، لم تنقرض بعد. فقد برز على السطح في الآونة الأخيرة خلافات حادة، رأينا من خلالها عدم قبول فكرة الآخر، وحقه في التعبير عن الرأي. فكانت هذه الحالة للأسف أقرب إلى التدابير السلطوية، وفق أجندة أيديولوجية ظلّت حبيسة الأدراج، يتم استدعاؤها عند الحاجة. وبالتالي كانت هذه الرؤية، الركيزة الأساسية لاستبداد ثقافة الإقصاء، وسيادة الرأي الواحد، حتى وصل الأمر إلى حد السب، والتشهير، والتخوين، والتكفير. وغاب نقاش الفكر مع الفكر، وحوار العقل مع العقل. وعدنا إلى المربع الأول حين ضعفت الثقة، وولدت حالة من الهشاشة في البنية الثقافية والعلمية والفكرية.

إنّ ثقافة الإقصاء، تتمظهر في مصادرة الحقيقة، واحتكارها وفق سياسة: «ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد». وهي تتمثّل في علاقة سلبية بين أطراف المجتمع، تبدأ بحالة خلاف، وتنتهي بنفي أطراف خارج حقوق المواطنة. عندما تجرم حق النقد، وإبداء الرأي في فضاء الوطن الواحد، وهو ما لم نتأقلم معه بعد. مع أنّ الواجب هو الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وتفهم مواقفها سواء اختلفنا معها، أم أيّدناها.

وهكذا، فإنّ الإشكال يطال دور المؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها، في إنتاج نخب ومثقفين مؤهلين؛ لتوسيع هامش التعبير عن الآراء، وتعميق الوعي النقدي، والتفكير باستقلالية. وحول هذا المعنى يؤكد الكاتب سيد يوسف هذه الثقافة، حين «يتجمّع أفراد الثقافة الإقصائية على شكل شلل فكرية؛ تتجادل وفق ثقافة التخوين، والاستعداء، والتشويه، والإقصاء ؛ مما يعزّز من مساحة الاختلاف الإقصائي، بديلاً عن الاختلاف الإثرائي الضروري، الذي يحتاجه المجتمع ؛ لإثراء البيئة الثقافية بالتنوُّع في الطرح الفكري اللازم ؛ لمناقشة القضايا الاجتماعية المختلفة».

إنّ قراءة جديدة للتحوُّلات الفكرية والثقافية -، تجعلنا نؤكد على ضرورة اعتماد لغة الحوار، والنقد البنّاء بين تلك الأطراف. فالحوار والنقد البنّاء يعتبران ممارسة أخلاقية مهنية، قبل أن يكونا ممارسة استقرائية تساؤلية. فبهما نقيم المواقف بموضعية وحيادية، ونحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها.

كثيراً ما يستوقفني قول الله جل في علاه: {.... وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فأسأل نفسي: أليس هذا الاختلاف يضفي على حياتنا تنوّعاً، ويوسع آفاق معرفتنا دون استخدام القوة، وتهميش الآخرين في تحقيق الحد الأدنى على الأقل من المفاهيم والمثل والقيم المشتركة، لتحقيق الغاية المنشود؟.

إنّ قبول الآخر لا يعنى بالضرورة اقتناعي برأيه، فللكل الحق في اتخاذ التصوُّر الذي يراه، وإنما هو إقرار بوجود رأي آخر. فالاختلاف سنّة كونية، يطبعه النقد. بل هو جزء من حال التعدّد في الكون كله، فالكون لا يسود إلاّ بالتعدّد، والاختلاف بين الآراء، لذا فإنّ احترام إنسانية الآخر واجب شرعاً، والعدل معه علامة من علامة التقوى. كما أنّ قبولنا بالآخر، يحمل في طياته بعداً إيجابياً يتمثل في تبنّي الحقيقة كما نراها، دون أن ندعي امتلاك الحقيقة كلها. فالحق لا يعرف بالرجال، بل يعرف الرجال بالحق.

إنّ الحوار مع الآخر، يبحث عن قواسم مشتركه بين مكوّنات المجتمع، لننظر للأمور حينئذ بمنظار مختلف، والتفكير بطرق جديدة، والوقوف طويلاً للنقاش، والبحث عن الحقيقة. فالحوار يجب أن يكون هو الفصل والفيصل، كما عبّر عنه ربنا سبحانه في قوله: {..... وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن ....}. وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، في إطار التنوّع ضمن الوحدة، والوحدة ضمن التنوّع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ ترسيخ ثقافة قبول الآخر عن طريق ترسيخ لغة الحوار، هو إقرار حقوق كل المكوّنات الفردية من تبادل الأفكار والبراهين والحجج، لنستوعب مدركات العالم من حولنا، طالما أنّ هذا الاختلاف لا يمس الأمور العقدية، أو الثوابت الدينية، ويمنع التطاول على الرموز الدينية والأشخاص، ويركز على معالجة الأخطاء لا شتم المخطئين.

من هنا يجب أن نبدأ، فما مضى من كلام، يعني : إيجاد مساحة مشتركة بين كل الأطراف بتنوّع الفكرة، دون أن نختصر تجارب الآخرين، أو نستهجن ونهمش وجودهم، وتضييق جسور المسافات، لنبني ثقافة متكاملة. وما أجمل كلام الشاطبي رحمه الله في خطبة كتابه «الاعتصام»، حين قال: «وكل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويخص سؤاله بل سواه عليها، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع في المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين».

ألسنا مطالبين اليوم أكثر من أي يوم مضى بقبول الآخر، لاسيما وقد أفرز عدم الانفتاح على الآخر انغلاقاً فكرياً، بسبب التقاطع مع الأجندات الفكرية، فيكون هذا القبول منضبطاً بالضابط الشرعي أولاً، وبالضابط الإنساني ثانياً.

عن طريق الحوار والنقد البنّاء نستطيع تحقيق التأثير الإيجابي لتلك اللغة، ببيان الأخطاء ومحاولة تقييمها. فالحوار والنقد البناء في إطاره الخلاّق يعالجان القضايا، ويصحّحان المواقف، ويطرحها بشكل علمي وأخلاقي ؛ لتقييم الأمور، واكتشاف ما فيها من إيجابيات وسلبيات، ووضع الحلول. وهذا بلا شك يحتاج أن نؤكد على سلامة نية الأطراف، وأن يكون هدفها الإصلاح، وليس التشفي والانتقام، أو البحث عن الشهرة. فماذا يضيرنا لو انتهجنا هذا المسلك باللين، والأخذ باستراتيجية النفس الطويل، وأسلوب المعالجة الهادئة؛ للوصول إلى أفق الوضاءة العقلية والعلمية، وقاعدة البيانات الفكرية والثقافية، دون أن نجرّده من مضامينه الروحية والأخلاقية، والوصول به إلى القاعدة الصفرية.

كنت آمل، أن يفرز هذا الحراك الفكري والعلمي والثقافي على الساحة بشموليته، ثقافة قبول الآخر، في إطار الإخضاع المنطقي للتعايش. لاسيما وأن المصلحة تقتضي ذلك، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، والخطوة الأولى، تتمثل في وضع الأصبع على الجرح، ومن ذلك: السير في سبل موافقة للنهج العلمي الحديث، وتخليص هذه الثقافة من الرواسب العالقة بها، وإخضاعها لمراجعات منهجيه. ويبقى رجائي بعد ذلك: ألاّ تشقوا بآرائكم، فهذا هو الإقصاء بعينه!.

كم نحن بحاجة إلى مزيد من أسلوب راقٍ وفكر حضاري، يراعى فيه القيم السامية، وتصان فيه الشخصيات؛ لتلتقي على أرضية مشتركة، تستثمر اللحظة الآنية في الاتجاه الصحيح. لاسيما ونحن نعيش مرحلة من أخطر مراحل التقلبات السياسية العالمية.

يساورني شعور كبير بالقلق، مما يجري على الساحة الفكرية والثقافية من عمليات الشحن، والاستقطاب، وتوجيه الاتهامات. وهذا يجعلنا نستشعر أننا أمام مسؤولية تاريخية؛ لمخاطبة العقول وليس العواطف، ونشر الوعي عن طريق التواصل الإنساني، وقبول سماع الرأي الآخر، وتبادل الأفكار والخبرات وتكاملهما بعقلية منفتحة؛ لنخرج من دوامة الصراع المحلي على مستوى التصورات والتيارات القائمة، ونهجر التعصب بمختلف أشكاله وذرائعه، والخروج من تسيير الأزمات الداخلية، والانكفاء على الذات، والانطلاق نحو رعاية ثوابت المجتمع، فهل نحن فاعلون؟

drsasq@gmail.com
 

حوار.. بانتظار دوران الرحى!
د.سعد بن عبدالقادر القويعي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة