Thursday  14/07/2011/2011 Issue 14168

الخميس 13 شعبان 1432  العدد  14168

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

الثقافة حلم يطال.. ولا يطال
د. شاهر النهاري

رجوع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في محيط هش المقاييس والمعايير يتم توزيع لقب (مثقف) يمنة ويسرة في أيامنا هذه على كل مفوه يتمكن من الحديث المستمر، أو كل كاتب يتمكن من رص الكلمات والجمل، حتى وإن كانت كلماته لا منهجية، وحتى ولو كانت حجته واهية ومعلوماته مجتزئة وأفكاره مغلوطة مشوهة متطرفة

وحتى وإن كان لا يلم بحقيقة الواقع المعاش من أغلب الزوايا، وحتى وإن كان يلغي عدداً كبيراً من الأطياف الأيدلوجية من حوله، ليبني في شرنقة محيطه وهم أيدلوجيته.

وقد بحثت في الصحاح عن معنى كلمة مثقف، فوجدت ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً: حَذَقَه، وتأتي بمعنى صقل النفس والمنطق والفطنة. وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهِم، وأَتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ، وذلك أنْ يصيب عِلْمَ ما يَسمعُه على استواء. والثِّقافُ: ما تُسَوَّى به الرماحُ. وتَثْقيفُها: تسويتها.

وهنا يتبين لنا أن مفهوم المثقف الحالي قد اختلف كثيرا، عما كان عليه في العصور القديمة، وإن وجدت بعض نقاط التلاقي.

وحاولت القياس والبحث من خلال المراجع الأجنبية فوجدت أن كلمة ثقافة (Culture)، مأخوذة من الكلمة اللاتينية (cultura)، النابعة من لفظ (colere) بمعنى «الزراعة».

وعندما ظهر هذا المفهوم لأول مرة في أوروبا بالقرن الثامن عشر، كان يشار به إلى عملية الاستصلاح أو تحسين المستوى، كما يحدث في الزراعة أو البستنة.

ومروراً بالقرن التاسع عشر، وبتبلور المفاهيم أصبح هذا التعبير يدل بصورة أوضح وأدق على تحسين أو تعديل المهارات الفردية للإنسان، من خلال التهذيب والتدريب والتعليم، ومن ثم إلى تطوير الذات وتفعيل المعطيات لتأصيل مفهوم الثقافة في شخصه، ولتحقيق قدر من الرخاء القومي أو القيم العليا لمجتمعه برمته.

واستمر ذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث قام بعض العلماء باستخدام مصطلح الثقافة للإشارة إلى قدرة الإنسان البشرية على كل ذلك، ولكن بالمقارنة مع مقدار ثقافة الفرد على مستوى العالم أجمعه.

والحقيقة أن مصطلح الثقافة ظل عائما بدون تحديد واضح لزواياه، ولكنها في معناها الحالي الأكثر شمولاً عبارة عن تصوير لحالة اجتماعية شعبية أكثر من كونها حالة فردية، وبالمفهوم الغربي: تكون الثقافة مجموعة العادات والقيم والتقاليد، التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري، بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته وعمرانه!.

وبناء على تغير المفاهيم والثقافات واختلاطها فقد اختلف في تعريف المثقف، لعدم وجود معنى ثابتاً للثقافة، ففسرها البعض بأنها الاطلاع على الثقافات المتعددة بلغاتها الأم، وبقراءة الكتب المتنوعة في شتى مجالات المعرفية، وأصر آخرون على أنها تتم بتكوين رأي خاص متعقل حول القضايا البشرية المحيطة بالإنسان على الصعيدين الوطني والعالمي، أي أن يكون المثقف هو، الذي يقف من أحداث عصره موقفاً نقدياً إيجابياً فاعلاً، ولا يكتف بالتفرج عليها من دون إبداء أثر يذكر، وأنه يهتم بكل جوانب الحياة المتعددة، ويراعي المنطق والعدل والصدق في أحكامه. وأضاف آخرون بأنه لا يكون مثقفاً من لم يعرف شيئاً عن الأديان والعقائد وأيدلوجياتها وعما أضافته للثقافات من أبعاد وإنجازات، وعن نضال الإنسان قديماً وحديثاً من أجل مستقبل أفضل لا مكان فيه للعبودية ولا للطبقية ولا للعنصرية والاستغلال، ولا لهدر حقوق الإنسان، وبالتالي فلا تكتمل ثقافة المثقف إن لم يطلع على حوادث التاريخ القديمة، وتبعاتها بطرق متأنية واعية لا اندفاع فيها ولا انفعال ولا مبالغة، ولا يكون مثقفاً من لم يطلع ولو بشكل بسيط على مساهمات الإنسان والحضارات المتعاقبة في العلوم والفنون والآداب.

وعلى الجانب العربي نجد أنه مما يستغرب له كثيراً ما نراه في وقتنا الحالي في توصيف وتصنيف لمثقفنا ولثقافتنا العربية، مما يعتبر لا منهجياً في إطلاق لقب (المثقف) على أي شخص، لا لشيء، إلا لأنه يقرأ كثيرا من هنا وهناك، أو لأنه يحمل درجة علمية ربما تكون مدفوعة الثمن، أو لأنه يتلبس بعض الأفكار والمذاهب والعقائد المختلفة، أو لأنه يخوض في بحور العلوم أو الآداب من خلال تصفحه للكتب دون أن يكون لديه تيقن وتجريب ومقارنة ورؤية شاملة عقلانية منطقية، أو لأنه ينتمي لمذاهب أو مدارس سياسية متنوعة يتبنى آراءها، ويتخبط بينها روحة وجيئة، حتى يفقد بوصلته، ويظل يرحل من فكرة إلى أخرى، ومن عقيدة إلى عقيدة، منزها لحاضره ومنزلا جام غضبه على الأفكار القديمة، فإذا ما ترك رؤية أو فكرة إلى ما يناقضها من الآراء والأفكار وجدناه يشطب قناعاته الأولى بل ويحاربها، ويبدع في إفهامنا بذلك وتبرير جدواه، فكم من أشخاص رأيناهم ماركسيين لمجرد أنهم قد قرؤوا بعض مؤلفات ماركس ولينين، فإذا ما تركوا كتب الماركسية وأبدلوها بكتب الوجودية مثلا وجدناهم أكثر وجودية من سارتر، والبعض يؤمن بقضايا القومية العربية والبعث مثلاً لأنه قرأ في بعض كتبها ثم لا يلبث أن يغير قناعاته عندما يقرأ كتباً مناقضة لها، ونجد السلفي يتحول بقوة إلى الليبرالية، أو العكس بطرق تجعل الفهم عاجزاً عن تتبع تخبطات هذا القارئ الحائر.

المثقف الحقيقي هو القارئ، صاحب النظرة الشاملة، الذي يستطيع مهما كان ما يقرأه منمقاً أن يكتشف زيفه، وهو، الذي يستخدم مخزونه التاريخي والنفسي والعقلي لهضم المعلومة، وللربط بين النقاط المتباعدة، وتجريب، واختبار مرئياته قبل النطق بها وتبنيها.

والمثقف العربي، الذي يحيا في بيئة عربية ليس من الضروري أن يتصرف مثل المثقف الأوروبي وبكل الحالات، أريد أن أقول إن المثقف ليس ذلك الإنسان الذي يقرأ كل ما وقعت عليه عيناه دون دراية أو تفكير ثم يغير آراءه حسب ما قرأه، ويكون تصرفه بالتالي مناقضاً لما يردد من أقوال، المثقف الحقيقي هو من يمتلك قاعدة متماسكة متجانسة من الأفكار، وهو من تكون أقواله متفقة تماماً مع أعماله، ومن يكون إيجابياً في تناوله للقضايا المختلفة، وألا يردد دائماً ما يسمعه أو يقرأه دون هضم للمعاني، وعصر للذهن، واستنطاق للمخزون.

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة