Friday  29/07/2011/2011 Issue 14183

الجمعة 28 شعبان 1432  العدد  14183

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

بعد أيام قليلة يستقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ضيفاً عزيزاً، يعطي ولا يأخذ، ويُكرم مَنْ أكرمه وأدى حق الترحيب، وحُسْن الضيافة، إنه شهر رمضان، هذه الشعيرة التي حددتها الآيات الكريمات من كتاب الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *

أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة 183 -185.

فهو شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وهذا الحكم الذي بيّنه الله سبحانه في محكم التنزيل يبيّن للمسلم أنه ركن من أركان الإسلام، ولا يقوم بنيان البناء إلا بتماسك الأركان، وقد جاء تشريعه بهذا النص الكريم من كتاب الله عز وجل، ويستنتج منه المسلم الحريص على دينه مصالح متعددة، منها:

* أن هذا الركن لا يسقط بالأعذار، كالمرض والسفر وعدم الاستطاعة، ففي حالة المرض والسفر أخبر سبحانه أنه يُقضى في أيام أُخر، إذا زال المبرر للإفطار بالاستقرار بعد السفر، وبالصحة بعد المرض، والمرأة بانتهاء فترة العذر من حيض ونفاس، ومن زادت مدتها عن المعتاد تتطهر وتتحفظ بما يمسك الدم وتصلي وتصوم؛ لأن هذا يعتبر دم استحاضة، وهو دم مرض؛ لأنه زاد عن المدة المعهودة لكل امرأة.

وقد سألت امرأةٌ السيدة عائشة - رضي الله عنها - بقولها: ما بال المرأة تؤمر بقضاء الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة عند حيضها ونفاسها؟ فقالت رضي الله عنها: أمرورية أنت؟ قالت: لا. فقالت: كنا نؤمر بذلك. أي أمر لا بد من تطبيقه؛ لأنه تشريعي من رسول الله عن ربه، ولم نؤمر بالسؤال عنه، ولا مجال للمساءلة فيه.

وعلل بعض العلماء ذلك - والله أعلم - بأن هذا تخفيف من الله عن المرأة؛ فهي تحملت الأعباء؛ لأن قضاء فروض الصلوات كثيرة، ويشترط فيها الترتيب، والصوم أقل، أو هو مكرمة لها من الله لضعفها وتحملها بعد ذلك بالرضاعة والحضانة.

* أن من رحمة الله بعباده أن الصوم بالأشهر العربية، تكرمة لهم، وهو يُبنى على ترائي الهلال بالعين المجردة، وجعله سبحانه بالهلال من أجل مواقيت الناس؛ لأن العرب أمة أمية فعرفوا المواقيت بالأهلة وتتبعهم منازل الهلال كما أخبر الله عنهم في كتابه الكريم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ البقرة 189.

وكان العرب يعرفون الأوقات، ويؤرخون بذلك، وسمُّوا الشهور الاثني عشر بأسماء من وحي بيئاتهم؛ فرمضان من الرمضاء، وهي شدة حرارة الشمس، وفصول السنة تدور مع السنة الشمسية. قال بعض الباحثين: إن رمضان كما في الآية قد فُرض على أهل الكتاب، وفق تاريخهم، فكان يأتي في شدة حر الصيف؛ فتحايلوا كما هي عادتهم في تحريف الكلم، وصاروا يختصرون أيامه، ومنهم من جعل الصيام في الليل، ومنهم من جعلوا الصيام عن نوع معين من الطعام.

وهدى الله أمة محمد لهذا الشهر على الكيفية التي جاءت في القرآن وفي سُنّة رسول الله، وهذا من كرامة الله لهم، وفضلهم على الأمم الأخرى التي عاندت وخالفت شرع الله.

وقد ظهرت هذه الكرامة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لامتثال الطاعة «سمعنا وأطعنا».

* أن من أركان الإسلام ما يسقط التكليف به، كما في قصة الأعرابي الذي جاء لرسول الله عليه الصلاة والسلام يسأله عن فرائض الله عليه في الإسلام بعدما أسلم، فقال: يا رسول الله علمني عن الإسلام: وفي رواية «ولا تكثر عليّ»، فقال له: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. فقال أشهد. قال: وتقيم الصلاة. قال: وما هي؟ فعلمه إياها: الصبح ركعتان والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث والعشاء أربع، وبين له الكيفية والوقت. فقال الأعرابي: أفعل. ثم قال له: وتزكي مالك. فقال: وإن لم يكن لدي مال؟ قال: لا شيء عليك. قال: ثم ماذا؟ قال: وتصوم شهر رمضان. قال وكيف فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الصيام ووقته له. قال الأعرابي: أفعل. ثم ماذا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وتحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلاً مرة واحدة. قال: وإن لم أستطع. قال له: لا شيء عليك.

فانطلق الأعرابي وهو يذكر الله ويحمده، ويقول: والله يا رسول الله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال عليه الصلاة والسلام «أفلح الأعرابي إن صدق».

فأركان الإسلام الخمسة من تيسير الله سقط منها اثنان لعدم الاستطاعة لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا البقرة 286.

أما الصلاة والصوم والشهادتان فلا تسقط لأنها أعمال بدنية؛ فالصوم كما في الآية الكريمة يؤجَّل، فإن كان لكِبَر أو مرض مستديم فيُكفِّر عن كل يوم منه بإطعام مسكين، والصلاة على حسب حال المريض: كما في الحديث «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب فإن لم تستطع فمستلقياً، وتجعل الأقدام جهة القبلة».. وكل حالة حسب الاستطاعة، إلا المرأة فإن الصلاة تسقط عنها بالحيض والنفاس، ولا تقضي إلا الصوم كما مرَّ تخفيفاً من الله سبحانه ورحمة للنساء.

ويُخفَّف عن المسافر الصوم، لكن يقضي من أيام أُخر، ولم تحدد الآية ولم يأتِ نص شرعي يدل على وقت القضاء، ولكن استحبوا المبادرة به؛ لأنه دين في العنق فتُستحب المبادرة؛ حتى لا يدخل رمضان آخر، كما روى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها ربما أخرت قضاء أيام رمضان إلى شعبان، وقالت: لمكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني.

* وشهر رمضان من أفضل الشهور، وقد رُغِّب فيه الإكثار من تلاوة القرآن الكريم والدعاء، والذكر وقيام الليل بما تيسر، تراويح أو قياماً، والإكثار من الاستغفار.

* وقد جعل الله خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ونَفَسه في نومه الذي يتقوَّى به على العبادة مرغوب عند الله؛ لأنه عبادة.

* والصيام عند الله سبحانه له منزلة كبيرة؛ لأنه من أفضل العبادات: فرضاً أو نفلاً، وله أجر عظيم. ألم يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله سبحانه بأنه يقول: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي: الصوم لي وأنا أجزي به».

* والصوم يعوّد النفوس على الصبر، ويحبس النفس عن محارم الله، والصبر جزاؤه الجنة، يقول عز وجل {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر الآية:10)؛ لذا فقد ذكر الله سبحانه الصبر في كتابه الكريم أكثر من مائة مرة، وهذا من عظم مكانته في الإسلام {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (43) سورة الشورى.

* ولمكانة الصوم وعظم منزلته عند الله فقد اختص الله سبحانه وتعالى الصائمين بمنزلة عالية؛ فجعل لهم باباً خاصاً إلى الجنة لا يدخل منه غير الصائمين؛ حيث ينادى عليهم: أين الصائمون؟ فيدخلون لا يدخل منه غيرهم، فإذا اكتمل عددهم أُغلق، واسمه (باب الريان). ومن مكانة الصوم أن الله جعله كفارة لكثير من الأعمال والذنوب؛ فهو كفارة لمن يواقع أهله في نهار رمضان، وكفارة في الحج لمن أصاب رأسه أذى وحلقه، وغير هذا من الكفارات التي تقترن بدم المسلمين خطأ، وغير ذلك.

وفضائل الصيام التي تعود على المسلم الصائم كثيرة، منها ما ينصح به الأطباء بتخفيف السمنة والدهون في الجسم، وترك بعض الأطعمة لراحة المعدة.

* في بلاد الغرب عند الأطباء والعلماء، الذين لا يؤمنون بالإسلام، اتخذوا الصوم علاجاً لكثير من الأمراض، وآمنوا بالقول: «صوموا تصحوا».

* قد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكلة السَّحَر؛ لما فيها من المصالح؛ حيث قال: «تسحروا؛ فإن في السحور بركة».

* وحبَّب لأمته تعجيل الفطر وتأخير السحور مخالفة لبعض الأمم، وعلامة لهذه الأمة، وهو لا ينطق عن الهوى.

* في رمضان كانت موقعة بدر الكبرى، التي أعز الله بها الإسلام وأذل الشرك وأهله، وقد تفاءل بذلك المصريون بقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في معركة العبور مع إسرائيل وهم في رمضان؛ فنصرهم الله سبحانه فيها.

* ومن فضائل رمضان أن الله أنزل فيه القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (185) سورة البقرة.

* وجعل الله في آخره ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، قال العلماء: في العبادة والأجر. وأنه شهر الخير والبركات.

* وفي رمضان تُصفَّد الشياطين والمردة من أول يوم، ويُنادى منادٍ في السماء: «يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر».

* وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في العبادة في رمضان، فإذا جاءت العشر الأخيرة شدّ المئزر، وأيقظ أهله، ولنا في الأسوة حسنة. وكان السلف يتحرون ليلة القدر في العشر الأواخر في رمضان، وهي في الأفراد أحرى.

* وفي رمضان يُستحب الاعتكاف، وفي العشر الأواخر أفضل، وعمرة في رمضان تعدل حجة؛ فطوبى لمن كان مغفوراً له في رمضان، وبئس الخسارة لمن أدركه رمضان ولم يُغفر له.

* ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر»، و»من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر».

* فعلى كل فرد منا معاشر المسلمين اغتنام نفحات رمضان، وما أعد الله للصائمين والقائمين فيه إيماناً واحتساباً للأجر الجزيل الذي نسأل الله ألا يحرمنا إياه وفضل ما عنده، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه سميع مجيب.

 

مرحباً بشهر المغفرة والعِتْق من النار
د.محمد بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة