Tuesday  20/09/2011/2011 Issue 14236

الثلاثاء 22 شوال 1432  العدد  14236

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

عندما يلم قارئ مثلي بالشعر الجاهلي، تتبادر إلى ذهنه تلك الضجة الكبرى التي أطلقها «طه حسين» عندما أخرج للناس كتابه «في الأدب الجاهلي» وهو إذاك شاب يتوقد حماساً وذكاء وحباً للإثارة والعصف الفكري.

وهو قد خرج من الأزهر ومن جامعة فؤاد مغاضباً، ووجد ضالته في «السوربون» الفرنسي، إذ تعلق بالمناهج وتبنى الأفكار واستهوته مغامرات المستشرقين، وتمثل كتاب» مرجليوث» «أصول الشعر الجاهلي» حتى اتُهم بسرقته. ورب ضارة نافعة. لقد كان بكل إمكانياته الاستثنائية ودعم المحافل الغربية له سبباً في تجلي مواهب النقاد والدارسين للتصدي له، وشكلت بداياته النقدية منعطفاً هاماً للحركة النقدية وإضافة مهمة للشعر الجاهلي تمثل في عدد من الدراسات الثرية لأدباء ونقاد لا يقلون مكانة عنه، وتبلور مصطلح «الانتحال «بشكل معرفي منهجي، وهو قد ظهر في العصور الأولى، وتداوله مؤرخو الأدب، ولكنهم لم يحرروه بالشكل المعرفي الذي جاء على يد المستشرقين وتعريب «طه حسين له، وفكرة الانتحال التقطها «مرجليوث» بعد تحقيقه لـ «معجم الأدباء».

والحديث عن حياة زهير وشعره يضعنا على مدرجة الانتحال من حيث نريد أو لا نريد. وحسناً فعل «طه حسين» ومعارضوه، فنحن أمام كمٍّ هائل من الدراسات المتفاوتة في علميتها ومنهجيتها وموضوعيتها واندفعاتها العاطفية، وتلك إضافة مكنت الشعر الجاهلي من الحضور وشغل حيز من المشهد النقدي المعاصر، ما كان له أن يتهيأ لولا تلك الضجة الكبرى التي أطلقها «طه حسين» وتلقفها الأزهريون بامتعاض شديد ونفي مطلق.

وإذا كان الخوض في لجج التنازع يستهويني فإن محدودية المجال تحول دون تحقيق تلك الرغبة، ولقد كانت لي إلمامات متفاوتة بظاهرة «الانتحال» لأنها تمد بسبب إلى عثرات المستشرقين والاهتياجات العاطفية في مواجهتهم.

لقد قاد العلامة «محمود محمد شاكر» الاهتياج العاطفي بعلميته العميقة بالتراث فيم قاد «ناصر الدين الأسد» الحراك الموضوعي باتزانه، ولكل من الطرفين إيجابياته وسلبياته؛ فـ»شاكر» لا يقبل الاستشراق ولا ينصفه، ولكنه يحدث باقتدار عن التراث. وقراءة شعر «زهير بن أبي سلمى» تمر بالقارئ طوعاً أذكرها على ذلك الإرث الحديث، إذ إن معارك «الانتحال» قد طويت صحفها ورفعت أقلامها، ولكنها لما تزل قادرة على إمداد الدارسين بمزيد من الإضافات المعرفية والمنهجية، ومن راد استجلاء خصائص الأدب الجاهلي فعليه أن ينطلق من الانتحال. و»زهير بن أبي سلمى «لم يكن كلداته من شعراء الجاهلية الذين امتد إليهم الشك وأغرقتهم الأسطرة، إذ لا تنازع حول وجوده ولا حول شاعريته وشعره؛ وإن كان ثمة شك فإنه حول المعاني التي طرقها بوصفها إسلامية خالصة الإسلامية وهو جاهلي خالص الجاهلية، وإن جاءت إشارات خاطفة إلى تعمد نسبة أبيات إليه وليست له، أو إضافة أبيات من بعض الرواة إلى قصائد، و «طه حسين» الذي فجر قضية الانتحال اتكأ على دوافع لها وزنها، فهو يرى أن الشعر المروي لا يمثل الحياة الجاهلية وهذا يصدق على شعر «زهير بن أبي سلمى»، كما أن هناك اختلافاً في اللغة واللهجات لم يظهر في الشعر الجاهلي، ووجود دقة في الموازاة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي، ولقد وطأ لهذا التواق اللغوي والتناقض الدلالي أن الرواية شفهية، ولقد عزز رؤيته بأن تقصى أسباب النحل المتمثلة بالسياسة والدين والقصص والشعوبية ومواطأة الرواة للمضطرين إلى النحل، والملفت للنظر أنه تعرض لعدد من الشعراء بأسمائهم وليس من بينهم «زهير» وهذا لا يعني إيمانه بصحة شعر زهير، وإن كان زهير من أمكن الشعراء لتماسك الرواية عنه.

وزهير بن أبي سلمى إذ يكون ثالث ثلاثة يقدمون شعراء الجاهلية وشعراء المعلقات، فإنه يفوق كافة مجايليه بأنه ربيب بيئة شعرية ورأس مدرسة شعرية عرفت بالتنقيح، ولأن معانيه زاخرة بالقيم الأخلاقية التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لإتمامها فقد عاش شعره وذكره حضوراً لم يتهيأ لغيره من شعراء المعلقات، ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المغرمين به والمقدمين له والمستشهدين بشعره والمثنين عليه، ولربما كان ابناه كعبٌ وبجيرٌ سبباً في حضوره إذ هما من شعراء الصحابة المنافحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفوق هذا فإن تصديه للحرب وتعميقه لمآسيها وتحذيره منها وتمجيده للمصلحين كان من عوامل شيوع شعره، لأن مثل هذا الشعر يجمجم عما في أنفس المصطلين بنارها:-

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا

وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتضر إذ ضريتموها فتضرم

ولأنه من المعمرين فقد زخر شعره بالحكم والأمثال وسارت بنوادره الركبان.

ولقد يتسرب الشك إلى نفوس قارئيه حين يحدون في شعره ما لا يجدونه في شعر لداته ومجايليه، أو حين يجدون مصطلحات إسلامية لم تكن معروفة ولا متداولة في الجاهلية كـ «التقوى» واقرأ معي هذين البيتين من معلقته:-

فلا تكتمن ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يُكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم حساب أو يعجل فينقم

فهل ترى فيهما مسحة جاهلية، وكيف يتأتى ذلك والمشركون ينكرون البعث {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (12) سورة النازعات. ومثل هذه المعاني تفتح شهية المرتابين وتكون ظهيراً لآرائهم التي تضيق بها ذرعاً، ولا نقبل المساءلة حولها، مع أنها تثير الشك في نفوسنا. وطه حسين لو لم يأخذه الحماس والنفي المطلق والإطلاقات المعممة لكان فيما يقول أقرب إلى الحقيقة وإذا تجاوزنا المعاني إلى اللغة، وجدنا زهيراً يختلف كثيراً في شعره عما يتسم به الشعر الجاهلي، فشعر زهير خال من الحوشي والتعقيد والغموض، وفي طبقات ابن سلام والشعر والشعراء لابن قتيبة إشارة لمقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنه لا يعاظل بين الكلام ولا يتبع حوشيه»، وليس من سمات الشعر الجاهلي الوضوح والجلاء وإنما من سماته الغموض والالتواء، ومع الوضوح فإن أفكاره عميقة، وكل سمات شعره لا تنطبق إلا على الشعر الإسلامي، وإذا كان من مدرسة أوس بن حجر زوج أمه وبشامة بن الغدير أخوها فإن شهر الرجلين يختلف كثيراً عن شعره.

وحين نتفق على جاهليته من حيث وجوده الزمني فإننا نتفق على أن شعره إسلامياً حضرياً أشرب روح المدنية والتحضر، وتلك إشكالية تشرعن للشك والتردد، ومهما تحفظنا على تلك الظاهرة الاستشراقية فإننا مضطرون للخوْض مع الخائفين حول حقيقة هذا الشعر بتلك السمات الفنية والأبعاد الموضوعية، وللمتردد أن يقرأ معلقة «امرئ القيس» ومعلقة «زهير بن أبي سلمى» ليرى كم هو الفرق بين المفردات والتراكيب والصور والمعاني، وحين يبين له الفرق ينتابه الشك الذي انتاب «طه حسين» وانتاب من قبله «مرجليوث»: إنني لا أنكر وجود الشاعر ولا وجود شعره، وكيف يتأتى ذلك وولداه شاعران صحابيان والناس في صدر الإسلام يرددون شعره ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من نسبة الشعر إليه، على أن اهتمام القبائل بشعرائها وبشعرهم يبعث الشك والارتياب، لقد ذكر «الآمدي ت370» ستين ديواناً من دواوين القبائل، سردها «ناصر الدين الأسد» في كتابه «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية» وهذا التهافت على تدوين شوارد الشعراء يوحي بأن هناك شعراً منحولاً، وبخاصة حينما لا يكون المروي من الشعر في مستوى القبيلة لا كماً ولا كيفاً.

ومهما تنازعتنا الآراء فإن زهير بن أبي سلمى يظل شاعراً استثنائياً خلده شعره وخلدته تجاربه وسمت به أخلاقياته، لقد مدح وهجا، ولكنه كان متوازناً في مدحه وهجائه، وعالج قضايا لم يحفل بها الشعر الجاهلي وعاش في أتون حرب ضروس امتدت لأكثر من أربعة عقود.

ومن يتجافى عن أقاويل المؤرخين والنقاد والمستشرقين ويباشر الشعر بكل نصاعته يجد نفسه أمام شاعر مثير ينم شعره عن روح تأملية روح متدنية تتناول الظاهر السياسية والعسكرية والاجتماعية والدينية بعقلية محنكة عركتها التجارب، ومكمن الحكمة شعر المعمرين، وزهير الذي لم يشغل المشهد بكرمه كـ»حاتم الطائي» ولا بشجاعته كـ»عنترة بن شداد» ولا بمجونه وتهتكه كـ»امرئ القيس» ولا بخمرياته كـ»الأعشى» ولا بأنفته كـ»عمرو بن كلثوم» عبر المشهد بهدوء يشبه هدوء شعره وبوضوح يشبه وضوح معانيه.

وإعادة قراءته قد يتمخض عن رؤى وتصورات جديدة تجلي كثيراً عن غموض متعلقات الشعر الجاهلي الذي ظل شفهياً حتى عادت القبلية واستشرى الملك العضوض وانتقل الولاء من الإسلام إلى القبيلة، وذلك يستدعي تصرف الرواة بالشعر الجاهلي كماً وكيفاً ولكنه لا يلغي وجوده كما فكر وقدَّر المستشرقون فقتلوه كيف قدروا وتبقى في زهير وشعره بقايا لمن استهوته المغامرة المحفوفة بالمخاطر، لأنه لم يحظ بما حظي به لداته من الشعراء.

 

تداعيات شعر زهير في سوق عكاظ «ت 13 ق هـ»
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة