Saturday  24/09/2011/2011 Issue 14240

السبت 26 شوال 1432  العدد  14240

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

      

كنت أعرف أن صاحبي محبوب عند كثير من الناس على اختلاف شرائحهم ومذاهبهم، ولكنني لم أكن أدرك لماذا هو محبوب حتى نزلت عليه ضيفا في بلده، فأنقذتني معرفتي بحديث غزوة ذات السلاسل أن أقع بما وقع فيه عمرو بن العاص رضي الله عنه.

روى البخاري في صحيحه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -عندما أمره على بعث جيش ذات السلال- فسأله: «أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر. فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم» وعند البيهقي زيادة «قال عمرو: فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده» وفي رواية أنه أردف رضي الله عنه فقال: «قلت في نفسي: لا أعود لمثلها أسأل عن هذا». قال بعض الشُراح إن حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس عامة يأسر قلوبهم حتى يجعلهم يعتقدون أنهم أحب خلق الله إليه عليه السلام، وهذا ما ظنه عمرو بن العاص مما رأى من حفاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فأراد التثبت من ذلك بسؤاله عليه السلام، فأدرك حينها عظم خلق الرسول الكريم.

القدرة على صناعة الصداقات وكسب المحبين هي مقدرة نابعة ممن يجيد فن أسر القلوب. ومقدرة صاحبي هذا على هذا الفن هي مقدرة ذاتية أصلية قائمة به لا متوسلة بوسائل أو متوسطة بوسائط خارجة عن ذاته الإنسانية. فما كان صاحبي هذا شيخاً وما كنت مريداً له فيأسر عقلي بمشيخته. وما كان شاعراً فيأسر قلبي بكلماته، وما كان غنياً فيأسر نفسي بعطائه وما كان فناناً أو مطرباً فيأسر مزاجي بأدائه أو ألحانه وما هو بحسناء ذات عقل ودلال فتأسر روحي بحسنها. ما كان صاحبي هذا إلا إنساناً أسر قلبي بإنسانيته.

والمعنى الجامع للإنسانية هو احترام الإنسان في عقله ومشاعره. والحرية شرط لا زم لتحقيق احترام عقل الإنسان ومشاعره، والشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود. فوجود الحرية دون تحقيق لاحترام عقل الإنسان ومشاعره لا يحقق الإنسانية بل الوحشية المتمثلة في حياة الغاب. وفي غياب الحرية يُزدرى بالعقول فترمى في سلة القمائم، فيُحكم الجهل، وتمتهن المشاعر فتجمد الأحاسيس فتموت الإبداعية. الإنسانية بمفهومها الشامل هو مفهوم غائب عن المجتمعات المتخلفة عربها وعجمها وأسودها وأبيضها، وإن كان يوجد في بعض أفرادها، ولهذا تخلفت هذه المجتمعات بينما تقدم غيرها. وفي المجتمعات المتحضرة يتمثل مفهوم الإنسانية بشكل جماعي وإن غاب عن بعض أفرادها، والحضارة نتاج مجتمع لا نتاج أفراد.

حللت ضيفاً على صاحبي هذا فوجدته قد لبس ثوب الصوف وهو يستمع إلى واعظ أو ناصح احتراماً لأحاسيسه. ورأيته قد جلس جلوس التلاميذ وهو يستمع إلى من يخبره عن علم هو أعلم من محدثه فيه، احتراماً لمشاعره. ولحظته وهو منصت إنصات الموافق وهو من أكبر المخالفين، احتراماً لحرية رأي محدثه. وسمعته وهو يتخير بين حججه المنطقية أيها أشد منطقاً ليطرحها، احتراماً لعقل محاوره. وشاهدته وقد لبس عباءة المستفسرين وهو يعلم جاهلاً. وجربته مضيفاً، فخبرته وقد بسط رداءه لضيفه فأجلسه عليه بينما يظل قائماً يبحث عن سانحة تبدو له ليخدم ضيفه. سألت صاحبي هذا عن دراسته وعن حياته باحثاً عن أسرار مهاراته في فن أسر القلوب، ففطن لمرادي فحدث بالمسكوت عنه في المجتمعات المتخلفة، فقال درست الإنسانية وعملت بالإنسانية ولذا فأنا إنسان، فقلت صدق عليه السلام «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».

hamzaalsalem@gmail.com
 

المسكوت عنه
فن أسر القلوب
د. حمزة بن محمد السالم

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة