Thursday 03/11/2011/2011 Issue 14280

 14280 الخميس 07 ذو الحجة 1432 العدد

  
   

الرئيسية

الأولى

الاقتصادية

الريـاضيـة

دوليات

متابعة

منوعـات

صدى

 
 
 
 

وحدة وطن

 

سيبقى سلطان في ذاكرة التاريخ
عبدالمالك مجاهد (*)

رجوع

 

في صبيحة يوم السبت 22 من أكتوبر 2011م ضرب رنين الهاتف آذاني ولما رفعت السماعة فوجئت بالسيد البروفيسور ساجد مير، أمير جمعية أهل الحديث المركزية بباكستان يسألني عن صحة خبر وفاة سمو الأمير ولي العهد سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، فأخبرته أن الخبر صادق وأن سمو الأمير فاضت روحه إلى بارئها صبيحة يوم السبت في إحدى مستشفيات نيويورك. إنا لله وإنا إليه راجعون. وطال بنا الحديث حول الخصال الحميدة التي كان سلطان الخير يتمتع بها فقال أثناء حديثه عنه إنه كان محباً ومخلصاً لباكستان والشعب الباكستاني، وقد فقدت باكستان صديقاً مخلصاً برحيله.

أيها السادة القراء: لا شك أن كل حي في هذه المعمورة لا بد يوماً أن يرحل وتفيض روحه إلى باريها، لقد عاش سمو الأمير سلطان نحوا من 86 ربيعاً من عمره، ولد أميرنا عام 1931هـ بمدينة الرياض، وعلى العموم فقد عاش حياة ليست بالقصيرة، إلا أن هناك من الناس من يتمتع بحب الناس ومودتهم وقد بلغ في ذلك مبلغاًَ لا ينساه الناس دهراً من الزمان بعد رحيله وموته ولا ينمحي ذكره عن العقول والأذهان وإن مرت الدهور والأزمان.

إن شخصيتنا المحبوبة سلطان بن عبدالعزيز في عداد أولئك الأفراد الذين ملئت الصدور بمحبتهم ليس من شعوب أوطانهم فحسب، بل يشهد العالم لهم بذلك، لقد خلف وراءه أعمالاً خيرية جبارة وأبنية إغاثية عملاقة من شأنها أن تخلد ذكراه في أذهان الناس إلى الأبد.

ظلت نجد تحت حكم آل سعود قروناً متواصلة، لم يكن عدد سكان الدرعية كبيراً آنذاك، ثم أخذت المملكة في النفوذ والتوسع، فقد استطاع الملك القائد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من خلال لباقته القيادية أن يجمع القبائل المتعددة تحت حكم واحد، وساد الأمن ربوع البلاد، وحافظ على المعاهدة الرشيدة التي كانت بين آل سعود وآل الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وأرسى معالم التوحيد وأعلامه، واقتلع الشرك من جذوره، وبدد البدع والخرافات على أرض الحرمين الشريفين، ولقد فتح الله على السعودية أبواب كل خير وبركة جراء إقامة التوحيد، وكان سلطان من أبناء ذلك القائد الشجاع الحكيم الرشيد، ولقد تربى على يدي والده الكريم تربية الأسود للأشبال.

تحظى أسرة آل سعود بالعديد من المزايا والخصائص، فهم يحترمون العلماء ويقدرونهم، وهم متدينون تديناً جيداً، ويحبون الخير والصلاح، وفيهم من التواضع الشيء الكثير، ويقومون بحل القضايا الشعبية العامة، وكل هذه الخدمات أوجبت لهم الحب في قلوب الشعب، ولو أننا قمنا على الحياد وجعلنا نقارن خدمات المملكة العربية السعودية في مجال نشر الدين وخدمة الحرمين الشريفين بمن سبقهم فلا أحد يوازيهم أو يقاربهم في هذا المجال.

وكان الملك القائد عبدالعزيز رحمه الله قد عين كبار العلماء لتربية أولاده، فكان أولاده يتعلمون القرآن وعلومه والعقيدة والتوحيد، والحديث والسيرة النبوية وأدب اللغة العربية على يدي جهابذة من العلماء الكرام منذ نعومة أظفارهم، وقد ورثتهم تلك التربية المثل العالية من الأخلاق الفاضلة، والتعاون على البر والتقوى، والصلاح، وقد درجوا منذ الصغر مع والدهم الشهم الأبي ذي العقيدة الراسخة وفارس الميدان، وقد كان الملك القائد مثالاً في التفاني والجدية والحنكة السياسية، وقد ورث أبناؤه من بعده (من والدهم)تلك المثل العالية والصفات الحميدة والخصال الجليلة.

وكان الملك القائد قد رأى في ابنه تلك الصفات القيادية التي تؤهله للسيادة، وعليه فقد حمله والده أعباء حكومية مختلفة وهو في ريعان شبابه، وعندما كان الملك القائد يسافر في ربوع بلده كان ابنه يرافقه، وإن السعادة كل السعادة لا تغمر المملكة لوحدها، بل تشمل الدول الإسلامية جميعاً بأن وهبهم الله قائداً فذاً وأميراً محنكاً ومخلصاً لدينه إنه سمو الأمير فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، وكان ولي العهد الراحل سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز كان يرافق والده في أكثر الأسفار داخل الوطن وخارجه وكان سمو الأمير الراحل يستلهم من تلك الأسفار الحنكة السياسية والتجربة العملية في إدارة العلاقات العامة، وفي عام 1947م عندما كان في السادسة عشر من عمره عينه والده أميراً على الرياض، من هنا نستطيع أن نستخرج مدى اعتماد الملك القائد على ابنه، لم يكن هذا المنصب سهل التناول والتعاطي والحال أن المملكة العربية السعودية كانت في تلك الأيام في بدايات خطواتها نحو التطور والازدهار، وكانت الوسائل محدودة، هذه المرحلة وإن كانت بعد اكتشاف النفط إلا أن المملكة لم تكن استفادت بشيء منه آنذاك.

وفي عام 1953م عندما أنشئت أول حكومة، تولى الأمير سلطان زمام وزارة الزراعة فيها، وكان برنامج توطين البدو في الصحراء ينتظره، ولم يكن من السهل إعادة هيكلة الزراعة في الوطن على النمط الحديث، ولكنه استطاع بفضل جهوده ومساعيه الجبارة والمتواصلة وعبر إقامة عدة برامج في الصحراء أن ينجح في تجربة زراعة عينات مختلفة من المزارع والحقول.

واعترافاً بإنجازات وصلاحيات الأمير سلطان تم تعيينه وزيراً للمواصلات بعد عامين، وقد أظهر صلاحياته ومهاراته في هذا المجال، ومن أعظم إنجازاته في مجال المواصلات وضع السكة الحديدية للقطارات تسييرا للرحلات بين مدينتي الرياض والدمام.

وقد قضى أكثر عمره في المملكة العربية السعودية كونه وزيراً للدفاع، ففي عام 1962م تم تعيينه وزير للدفاع والطيران والمفتش العام ولم يزل على هذا المنصب حتى وفاته.

وقد تضاعف تطور وازدهار القوات البحرية والبرية والجوية السعودية في عهده إلى أربع مرات، وقد وهب الله السعودية بقوة النفط فهي تصنف اليوم في عداد الدول الراقية والمتطورة، والسعودية اليوم من أغنى دول العالم بالبترول استخراجا وتصديراً ولما كتب الله لهم الثراء عمت البلاد الفرحة والبهجة.

قـــام سمو الأمير سلطان بتنظيم الهيئة العسكريــة على النمط الحديث، ووفر لهم الأسلحة الحديثــــة واللــــوازم العسكريــــة المختلفة، كما عمل على زيادة رواتب الجنود، ووفر لهم جميع احتياجاتهم.

إن حكــام الممــــلــكة وملوكــــها تربطــــهم بباكستان علاقة وطيدة أساسها المحبة والوداد، ومن أبرز مظاهر هذه العلاقة إبرام صفقة بين السعودية وباكستان في عهد الرئيس ضياء الحق بأن تقوم باكستان بإرسال عدد من أفراد الجيش ليقوموا بتربية وتدريب الجنود السعوديين، وأنا شخصياً كنت موظفاً في وزارة الدفاع والطيران العمومية، قبل نحو عشرين سنة كنت موظفاً في طيران الجيش، لقد كان سمو الأمير سلطان يحظى بحب وتقدير جميع الجنود، وقد تشرفت مراراً بالتوظيف في مكتبه الخاص ولقد تشرفت أيضاً على مصافحته مرتين تقريباً، لقد كان هشاشا بشاشاً ضاحكاً طلق الوجه مسرورا، وهكذا كانت محياه في أغلب الأحيان.

ومن جليل أعماله ومآثره تطوير الخطوط الجوية العربية السعودية، وكان سمو الأمير مع كثير مشاغله مديراً على الطيران المدني العام أيضاً.

وفي عام 1945م كان افتتاح الخطوط الجوية العربية السعودية، وكانت الخطوط تملك حينها ثلاث طائرات نقل ركاب، وكان ابتداء الرحلات من جدة إلى الظهران، وفي بدايات الأمر كان الطيارون الباكستانيون هم الذين يقودون الطائرات السعودية، وكان السعوديون يتلقون التدريب على الطيران في كراتشي، أما اليوم فطائرات الخطوط الجوية العربية السعودية لها شبكة عالمية قوية بحيث تنزل الطائرات السعودية في 75 مطارا دوليا حول العالم، في آسيا وأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، وقد وصل عدد المسافرين في الطيران السعودي إلى 20 مليون مسافر سنوياً، ومن أهم مميزات وخصائص الطيران السعودي أنها من أكثر الطيران التي تقوم بنقل الحجاج من وإلى بلدانهـــم في مختلف أقطار العالم.

وأظـن أن أكثـر قرائنا الكرام قـــد سافروا عبر الخطـــوط العــربيــة السعودية، إن الخطوط الجــــوية الباكستانية والسعودية هما الخطان المنفــردان اللــــذان لا يسمحـــان بتنـــــاول المشروبات الكحولية على متن طائراتهما، كما أن الطيران السعودي تمتاز أيضاً بتخصيص أماكن خاصة في الطائرات لأداء الصلوات هذه الأماكن غالباً ما تكون في مؤخرة الطائرة وذلك بأمر من سلطان الخير.

ولقد تشرفت مراراً على أداء صلاة الجماعة في تلك الأماكن المخصوصة للصلاة إماماً ومؤتمناً يمكنكم أيها السادة القراء أن تقدروا مدى الاهتمام بإقامة مثل هذه المصلى ومدى العبء المادي لها وهذا يدل على مكانة الصلاة وأهميتها لدى سمو الأمير الراحل.

لقد بلغت صنائع سمو الأمير سلطان وأياديه البيضاء مبلغاً عظيماً إلى أن أصبح الشارع العام يسميه بسلطان الخير، وقد قام بتزويد قسم مرضى القلوب بالمستشفى العسكري في الرياض، بأحدث الأجهزة والآلات الطبية، كما استوفد لها كادراً طبياً فائق التجربة والتحصيل العلمي والتفاني في العمل وبات معروفاً جداً بأنه مهما بلغه طلب من فرد أنه مصاب بمرض القلب إلا أجابه وتولى مصاريف العلاج بنفسه.

إن الحكام والأمراء السعوديين قد شغفت قلوبهم بحب القرآن الكريم وجائزة سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز العالمية لحفظ القرآن الكريم تعتبر من الجوائز الثمينة في المملكة العربية السعودية وقد ابتدأت قبل نحو 10 سنوات وتعطي الجائزة لحفاظ القرآن الكريم والماهرين في التفسير من الجنود والعساكر، وإني أتذكر تماماً مشاركة الحفاظ الباكستانيين من الجنود، وكان أحد الجنود الباكستانيين في المرتبة الثانية أو الثالثة وحصل على الجائزة، وهناك جائزة عالمية أخرى لحفظ القرآن الكريم تقوم مسابقاته في شتى الدول وكانت آخر مسابقة في العام الماضي في إندونيسيا.

ومن أعمال سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية، التي لها باع طويل من الخدمات والإعانات ومؤسسته تحتوي على البرامج التعليمية والإغاثية للأيتام والأرامل والإشراف على المؤسسات الخيرية الأخرى والجمعيات، وخدمات مؤسسة في مجال الطب يجلب الأنظار ويبهر الأسماع فالله أعلم بأعداد أولئك اليتامى والأرامل الذين هيأت لهم مؤسسته الخيرية البيوت والمساكن، إن سمو الأمير سلطان بزغ نجمه في سماء السعودية في مجال الخدمة الإنسانية، ومدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية تحتاج إلى مقال مستقل منفرد.

أيها السادة القراء: إن جمع القبائل المتعددة والمتشتتة تحت سقف واحد من المآثر العظيمة لأسرة آل سعود المباركة، إن حكام السعودية يكنون لشعبهم المحبة والتقدير، إنهم يشاركون شعبهم في كل معضلة ونازلة وعلى هذا المنوال فالشعب السعودي يبادلون حكامهم بالاحترام والتقدير، ومن مآثر سمو الأمير سلطان إقامة مراسم الصلح بين أقرباء المقتول والقاتل الذي حكم عليه بالقصاص رسميا وهكذا استطاع الأمير أن يعفي عددا من الناس من الموت والقتل وأعداداً أخرى من اليتم، إن الشرع قد خول العفو إلى ورثة المقتول فقط وحث على ذلك، وليس في الإسلام أي نوع من الإجبار على ورثة المقتول على العفو بل رغب في العفو، وللأمير سلطان اليد الطولى في هذا الميدان، فقد كان أحيانا يذهب إلى الفريقين للصلح بينهم أو يدعوهم عنده للصلح، وكان يرغبهم في الصلح وكم مرة كان يدفع المال والدية من عنده ويعفي عن القاتل، وكان الفريقان يحترمان رأيه وغالباً ما كان أولياء المقتول يعفون عن القاتل ولا يرغبون في أخذ الدية، ولا ننسى في هذا المجال قصة تلك المرأة التي لا تمل من الدعاء للأمير سلطان، تقول هذه المرأة قد حدث بيني وبين أحد أقربائي خلاف على شيء ما، فضربته فكان عندها أجله فمات، رفعت القضية إلى المحاكم وثبت عليّ الجرم، واعترفت بالجرم أيضاً، فحكمت المحكمة عليّ بالقصاص، وكانت قد بقيت على تنفيذ القصاص ثلاثة أيام فقط، وقد أصابني اليأس عن الحياة ورفض ورثة المقتول العفو فعلم بقضيتي الأمير سلطان فقام بالاتصال بورثة المقتول وطلب منهم أن يعفوا عني لوجه الله، فعفوا عني لوجه الله آخذين في ذلك رأي ومشورة الأمير سلطان.

أيها السادة القراء: إن جوانب شخصية سمو الأمير سلطان كثيرة ومتعددة لا يمكن أن نحصيها منذ عشرات السنين وأنا أسكن في المملكة العربية السعودية كلما ذكرت الأمير سلطان عند أحد سمعته يثني عليه ويجله ويحترمه ويقدره، ويذكره بالخير والأخلاق الحسنة الفاضلة ولا تزال ألسنة السعوديين رطبة على الثناء عليه وذكر فعاله الخيرية وأياديه البيضاء النقية وخدمته للإنسانية.

لقد أحدثت وفاته صدمة موجعة للشعب السعودي والمقيمين في المملكة العربية السعودية، المسجد الجامع في الحي الذي أسكن فيه بالرياض يضج بالمصلين وأنا أسمعهم جميعاً يلهثون بالثناء على سمو الأمير سلطان ويشكرونه ويقدرون له أعماله وإنجازاته، وكل مصل يذكر جانباً من جوانب حياة الأمير الراحل، لقد عزيتهم جميعاً كما قاموا هم أيضاً بالتعزية لي وجميعهم متفقون أن وفاة الأمير سلطان قد فجع السعوديين والمقيمين على حد سواء، كل فرد في أرجاء المملكة العربية السعودية يمدح الأمير سلطان ويثني عليه ويذكر من محاسنه ومآثره، فالله أعلم بعدد المساجد التي بناها الأمير الراحل وكذلك دور الأيتام والمدارس والمستشفيات والمؤسسات الخيرية وما إلى ذلك من الأفعال الجليلة والأعمال النبيلة.

إننا جميعاً نرجو الله تعالى أن يتغمد الأمير الراحل بواسع رحمته ويعامله بلطفه وإحسانه.

السادة القراء: هيا بنا نرفع أكف الضراعة للمولى القدير وندعو للأمير الراحل.. يا ربنا إن سلطان الخير عبد من عبيدك أقبل إليك بقلب سليم وعقيدة راسخة وإيمان صادق إنه حل بك ضيفاً فأحسن إليه كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم تجاوز عنه وارفع درجاته في أعلى عليين، وتقبل منه كل خير وصدقة وصلاح ومعروف، واجعل ما خلفه في الدنيا من أعمال الخير صدقة جارية له إلى يوم الدين. آمين ثم آمين يا رب العالمين.

(*)مدير العلاقات الخارجية بجمعية أهل الحديث المركزية بباكستان

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة