Saturday 26/11/2011/2011 Issue 14303

 14303 السبت 01 محرم 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

يشعر الإنسان في حالات -قد لا تكون كثيرة - بحالات نشوة أو انتصار، أو تحقيق ما يحسسه أنه فعلاً حقق انتصاراً. وهذه الحالات تأتي في غضون حالات كثيرة من المعاناة أو المتاعب، لو لم تحدث مثل هذه الحالات القليلة في حياة الإنسان، أو يتوقع حدوثها لما كان لاستمرار الحياة طعم ولا ذوق.

في حالتي رسمت لحياتي طريقاً، أو رسمت الأقدار طريق حياتي. كانت طموحاتي كثيرة، ولكن طريق الوصول إليها لم يكن مستحيلاً، فقد توافرت الإرادة والصبر، والشعور القوي بالأمل.

منذ أكثر من أربعين سنة حددت -بشكل واضح - ماذا أريد أن يكون طريقي في هذه الحياة، وإلى ماذا سيقودني هذا الطريق الذي لم يكن سلوكه خالياً من الأخطار. لم تكن الوظيفة العادية هدفي؛ ربما تكون وكانت وسيلة للوصول إلى الهدف المنشود؛ لا أريد أن أدخل أو أدخل القارئ معي في تعاريج حياتي، وتفاصيل الوصول إلى الهدف. فهذه لها قصة طويلة لروايتها مكان غير هذا.

كان هدفي -منذ البدء -أن أكون أكاديمياً في مجال التاريخ، منقباً عن أسرار ما لم يكتب عن جوانب كثيرة في تاريخ هذا الوطن الذي أعتز بالانتماء إليه؛ ولم أرد أن أكون مؤرخاً تقليدياً أطرق مواضيع تقليدية يمكن لكثيرين غيري أن يطرقوها. كنت وما زلت، وسأظل شغوفاً بالبحث عن مجاهيل مصادر التاريخ، وكل حالة نجاح في الوصول إلى تلك المجاهيل من المصادر تدخل على نفسي سعادة غامرة لا تضاهيها سعادة بالحصول على أي شيء آخر.

ما تم لي اكتشافه من مصادر وثائقية في الأرشيفات الدولية عن تاريخ وطني أعتقد، جازماً، أنه لم يقع عليها عين باحث عربي أو أجنبي قبلي. كانت تلك اللحظات تشكل لي مصدر سعادة، أنسى فيها وجودي حينما اكتشف وثيقة أو إضبارة وثائق في أرشيف إستانبول أو أرشيفات السجل البريطاني، ومثله أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية وغيرها من دور الأرشيفات التي مكثت فيها أجمل سنوات حياتي. وعلى مدى سنوات من سنوات البعثة لم يكن البحث سهلاً، ولم تكن الظروف ميسرة، ولم تكن التحديات قليلة؛ ولكن سنوات العذاب في البحث عن مصادر ما نجهله عن تاريخنا كانت أعذب سنوات العذاب.

سألتني لجنة التعيينات في جامعة الملك سعود بعد عودتي من البعثة، وهي مشكلة من خيرة أكاديميي الجامعة؛ وكنت قد طوفت أو تجاوزت على سنوات البعثة بسنة فمنحت لي استثنائياً، واضطررت لسنة أخرى لم توافق عليها الجامعة، فقطعت عني مصاريف البعثة، ومصاريف طباعة الرسالة، ومصاريف أخرى أستحقها. ولم يكن سبب التأخير قصوراً في أدائي الأكاديمي أو تهاوني في الوفاء بالتزام شروط البعثة، ولكن بسبب طمعي اللامتناهي في استكمال البحث عن مجاهيل مصادر تاريخنا الوطني المبثوث في أروقة وأضابير الأرشيفات الدولية التي أعتقد أنها متميزة.

كانت اللجنة قد اطلعت، بشكل مفصل، على سجلي الأكاديمي، الذي أعتقد أنه متميز، وتقارير الإفادة بمن كان مشرفاً عليّ في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ومشاركاتي في مؤتمرات كبيرة وكثيرة لا يحضرها إلا كبار الباحثين في تاريخ الجزيرة العربية، وتاريخ منطقتنا الحديث والمعاصر. كنت أحضر معظم هذه المؤتمرات على حسابي الخاص، اقتطع مصاريف المشاركة فيها من مصروفي ومصروف أسرتي، وبهذا أسهمت في الإثراء المعرفي بجوانب من تاريخ وطني كانت شبه مجهولة.

سألتني اللجنة هل لو توقعت ما تعرضت له من معاناة، خصوصاً خلال سنة قطع مصاريف البعثة، ومعاناة حضور هذه المؤتمرات على حسابك، ووقوفك الآن أمامنا، وأمام أسئلتنا، هل كنت غيرت رأيك، وعملت غير ذلك؛ قلت لا، بل وأصدقكم القول بأن تلك المعاناة جزء مهم من سعادتي، لأني لم أضيع دقيقة منها دون فائدة، وهي ذخيرتي حتى الآن فيما أقوم به من أبحاث في مواضيع كثيرة لم تدرس.

كانت إحدى مرشداتي الأكاديميات وهي ترى كماً كثيراً تم لي جمعه من الوثائق من دور الأرشيفات، خصوصاً الأرشيف العثماني الذي كان أكثر الأرشيفات صعوبة في الحصول على ما يريده الباحث، خصوصاً في تلك السنوات تقول لديك الآن من الوثائق ما يكفي لكتابة عدد من الرسائل وكانت تقول إنه ليس لتلك الوثائق أجنحة تطير بها من أماكن حفظها. كنت أقول لها صدقت، ولكنني لم أكن أعرف الطمع في شيء من هذه الحياة بقدر طمعي في مزيد من جمع مثل هذه الوثائق التي أعدها لأبناء وبنات وطني الذين قد لا تسعفهم الظروف للحصول على الفرص التي أراها متاحة لي الآن، مع شدة معاناتي التي لا يعلم إلا الله بها، ولكنها معاناة ممتعة.

لم يكن حرصي في الحصول على صور من الوثائق المحفوظة في الأرشيفات الدولية التي قالت مرشدتي الفاضلة إنه ليس لها أجنحة تطير بها من مكانها يساوي شيئاً أمام حرصي على اقتناء وثائق يحتفظ بها أشخاص أو أسر منهم من يعرضها بأريحية، ومنهم من يعرضها بمقابل. هذا النوع من الوثائق التي أخشى عليها من الضياع، أو الوقوع في أيدي من لا يقدر قيمتها؛ ولي مع مثل هذه الوثائق قصص وقصص، وربما آت إلى سردها في مكان أكثر اتساعاً.

وأقتصر حديثي في هذا المكان على آخر قصة من هذه القصص التي دارت أحداثها في الأسبوعين الأخيرين من شهر شعبان الماضي 1432هـ، وذلك حينما ذهبت إلى مدينة أبها وزيارة قرية المفتاحة لمشاهدة معرض تصوير فوتوغرافي أقامه عدد من شباب هذا الوطن باسم وطن. وبعد الانتهاء من مشاهدة هذا المعرض الرائع ذهبت في جولة لمشاهدة «بوتيكات» بيع التحف والقطع التراثية، دلفت إلى إحداها ففوجئت بصاحب المحل يطلعني على بعض ملفات وأضابير تضم بين جنباتها كماً من الوثائق الأصلية؛ ويبدو أن صاحب المحل كان من الذكاء بمكان حينما قال وجدت ضالتي، وجدت الزبون الذي لن يتردد في شراء هذه الوثائق التي لا تعني له شيئاً أي صاحب المحل، إلا أنها سلعة للبيع.

أما أنا فكنت كما توقع صاحب المحل والعاملون في هذا المجال لديهم خبرة في قراءة وجوه الزبائن، إضافة إلى أن الرجل، كما هو واضح، متابع ويعرفني شخصياً. أخذت أقلب الأضابير والملفات، ونسيت أنني على موعد لحضور أنشطة أخرى من أنشطة الصيف التي تحتضنها المفتاحة.

سألت صاحب المحل كيف وصلت إلى محلك هذه الأوراق؟ وهل سبق لأحد الاطلاع عليها من زبائن المحل؟

قال بكل بساطة حصلت عليها من الحراج؛ قلت له وكيف كان ذلك؟ قال قرر ورثة المالك الأصلي للوثائق أن يبيعوا بيته، فأخرجوا كل ما في البيت من أغراض قديمة إلى الحراج في سوق الثلاثاء في وسط أبها وعرضوها للبيع، وكان ضمن محتويات البيت غرفة مليئة بأوراق ذلك الرجل أخرجوها ضمن الأغراض للبيع، وكنت ضمن من حضر الحراج فاقتنيت هذه الكم من الأوراق، لأنه من الواضح أنها سلعة غير لافتة للنظر لأي من المزايدين. لم أسأل الشيخ بكم اشتريتها، لأنه ربما حصل عليها زيادة على البيعة دون ثمن. من اطلاعي على الوثيقة الأولى عرفت لمن تعود هذه الأوراق، الوثائق، لقد كان صاحبها ذات يوم واحداً من أبرز رجالات مدينة أبها، عاصر تاريخ أبها في عصورها الثلاثة المتعاقبة أواخر العهد العثماني؛ فترة إمارة آل عايض التي لم تدم طويلاً بعد الانسحاب العثماني بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى؛ ثم العهد السعودي. سألت صاحب المحل هل هذه كل الأوراق التي عُرضت في الحراج أم كانت هناك أوراق أخرى؟ قال ربما، ولكن هذه التي تراها هي ما تم حصولي عليها. كان متحفظاً حينما ألمح إلى أن هناك أخرى حصل عليها غيري دون أن يفصح عن من هو ذلك الغير. وقلت ماذا عن أوراقه التي تعود إلى العهد العثماني قال أخذها غيري. من كلامه يدل على أن هناك وثائق أخرى ربما يتم الكشف عنها متى ظهر هذا الذي لا أعرفه.

قلت لصاحب المحل الآن أنا على عجل، وسيتم بيني وبينك اتصال وأعطيته رقم تلفوني. بعد يومين أتصل بي رغم أنني طوال اليومين مع كثرة مشاغلي وارتباطاتي أفكر في هذه الوثائق وفيما لم يتم معرفة مصير بقيتها. دار بيني وبينه حديث، ولكن لم يدم طويلاً لانشغالي بتنظيم إحدى الأمسيات لدينا بالمركز. في اليوم الثاني عاود الاتصال؛ وكان لدينا وقت كاف للحديث؛ وسألته بكم ستبيع هذه الوثائق؟ قال لي مبلغ كبير جداً؛ وقلت له أنا المبلغ الذي أستطيع دفعه وقلت له لا أتوقع منك جواباً الآن، خذ وقتك للتفكير، وكنت أقول عجباً! مصادر تاريخنا تباع في الحراج، وتعرض بشكل غير لائق في مكان بيع القدور والصحون والأواني التراثية. اتصل بي بعد يومين قال أعطيك إياها بنصف المبلغ الذي قلت لك في البداية، وقلت وأنا أرفع المبلغ الذي قلت لك إلى النصف، ولا أريد منك جواباً الآن، خذ وقتك في التفكير. اتصل بي في اليوم الثاني وقال ما ترفعها قليلاً قلت ولك ذلك وحددت موعداً للذهاب إليه لإكمال الصفقة. أخبرت صديقي محمد آل عطيف المحرر في جريدة الوطن، وقلت أريد الوطن «صحيفة الوطن» أن تشهد مراسم إكمال بيعة مصدر من مصادر تاريخ الوطن؛ فأبدى استعداده وهو يعبر عن استعداد جريدته الحريصة على ما فيه خدمة الوطن لذلك.

ذهبنا سوية إلى أبها يوم الثلاثاء بعد العصر، وهو يوم سوق الثلاثاء الأسبوعي وقبل أن ندلف إلى «بوكيت» صاحبنا أبو أنس وجدناه مع عدد من أصحاب بوكتيات بيع القطع الأثرية والتراثية جالسين على تبة في إحدى زوايا مركز المفتاحة؛ وقال لنا إنه في هذا المكان من كل يوم ثلاثاء يقام مزاد علني على ما يرد السوق من قطع أثرية أو تراثية، ولاحظنا أن جلستهم حامية في مزايدات على سلع قديمة بنادق وسيوف، وحضرنا جانباً من ذلك المزاد. ذهبنا بعد ذلك إلى دكان أبو أنس حيث أكملنا معه مراسم توقيع شراء الوثائق وبعض القطع التراثية والأثرية التي تعود ملكيتها إلى المالك الأصلي للوثائق، وهي عبارة عن كرسي خشبي يبدو أنه قديم يعود إلى الفترة العثمانية، وكذلك مرآة كبيرة ذات إطار فضي يبدو أيضاً أنها تعود إلى نفس الفترة التاريخية السابقة الذكر. ومسرجة قديمة مصنوعة من الحجر تعود إلى فترة تاريخية متقدمة، ومشعاب مصنوع من شجر الشوحط، وبعض المقررات الدراسية التي يعود بعضها إلى منتصف القرن الهجري الماضي.

أخذت ملفات الوثائق، وأحد تلك الملفات مصنوع من الجلد، وضع به مالك الوثائق الأول الوثائق بشكل يسهل الرجوع إليها، وملفات أخرى أقل من الأول تنظيماً، وبعضها مبعثر، ووضع ظروف الخطابات في كيس مستقل. توضح تلك الظروف المتفاوتة في الأحجام والأشكال المناطق المرسلة منها، وتغطي كل مدن ومناطق المملكة مثل الرياض، وجدة، والظهران، والخبر، ورأس تنورة، ونجران، وجازان، ورجال ألمع، والبتيلة، وخميس مشيط، وينبع، وظهران الجنوب، ومن عدن، وإستانبول.

عدت إلى المركز (مركز آل زلفة الثقافي والحضاري) أحمل تلك الوثائق، وأنا فرح بها فرحاً كبيراً، كون أحد اهتمامات المركز اقتناء كل وثيقة لها علاقة بتاريخ هذه المنطقة أياً كان طبيعة تلك الوثائق، حيث توجد به وثائق مكتوبة على الصخر مثل شواهد القبور تعود إلى عصور إسلامية مبكرة، ووثائق مكتوبة على الأخشاب مثل أخشاب تأسيس المساجد في عصور مختلفة، وبالمركز كثير منها، ووثائق مختلفة في مواضيع مختلفة تعود إلى عصور تاريخية مختلفة، وما تم الحصول عليه اليوم هو حصيلة تضاف إلى ما يحتوي عليه المركز من وثائق هذه المنطقة. عكفت طيلة ذلك الليل، واليوم الذي يليه على قراءة تلك الوثائق، فوجدت أنها مكسب تاريخي يضاف إلى مصادر تاريخ هذه المنطقة ويعود تاريخ بعضها إلى السنوات الأولى لقيام وحدتنا الوطنية المباركة، وتتناول كثيراً من القضايا الاقتصادية والتجارية في الدرجة الأولى، والاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين المواطنين من جهة وبين المؤسسات الحكومية من جهة أخرى.

وهذه الجوانب المهمة في تاريخ المجتمع هي الجوانب التي يتجنب الباحثون دراستها غالباً بسبب صعوبة الحصول على مراجعها أو مصادرها. ولعل إضافة هذه الكمية من الوثائق التي كادت تذهب في مهب الريح بسبب الإهمال أو الضياع أو نهب للنيران تكون ذات فائدة للباحثين والدارسين وذوي الاهتمام، ومعلوم أن هذا النوع من الوثائق التي تحتفظ بها الأسر هي الأكثر تعرضاً للضياع والإهمال، عكس تلك الوثائق المحفوظة في الأرشيفات أو دور المحفوظات الرسمية المعلومة التي ليس لها أجنحة لمغادرة أماكنها على حد تعبير الدكتورة الفاضلة مرشدتي. ووجدت من ضمن الملفات ظرفاً به كم من طوابع البريد تعود إلى فترات تاريخية مختلفة، بعضها يعود إلى العهد العثماني، وبعضها يعود إلى الفترة المبكرة من تاريخ دولتنا الحديثة.

من هو مالك هذه الوثائق الأصلي؟

هو السيد عبدالله بن سعيد باحيدرة الملقب بالمحب، وهو من سكان مدينة أبها المعروفين، وكان من سكان حلة مناظر (الحي الأكبر) والأبرز في مدينة أبها، وقد اختفى هذا الحي الذي كانت تسكنه الأسر الراقية من سكان المدينة، اختفى منذ عقود أمام إزالة الأحياء القديمة، وبناء أحياء جديدة، وبذلك فقدت أبها المدينة الجميلة أحد معالم ذاكرتها التاريخية. والرجل كان أحد أبرز تجار المدينة، وورث ابنه سعيد مهنة والده في مجال التجارة، وكان الوالد ثم الابن من بعده بل وأثناء حياة والده مكان ثقة المواطنين على مخلتف طبقاتهم. وجدت من ضمن هذه الوثائق كثيراً من المراسلات من أبرز شخصيات المنطقة يطلبون منه تأمين احتياجاتهم من كل ما يحتاجونه من المواد الضرورية مثل أنواع الأقمشة، والعطور، والغاز، والورق، والظروف، والأرز، والشاي، والسكر، والقهوة، والسمن، والعسل، والفناجين، والأباريق، والأحبار، وأنواع الفلفل، والأصباغ، وغير ذلك.

إضافة إلى كونه كان محل ثقة المقيمين من السكان، ليس فقط أولئك من كانوا في مدينة أبها، وإنما مكان ثقة أمراء ومشايخ القبائل من خارج مدينة أبها مثل الشيخ سعيد ابن عبدالعزيز بن مشيط الذي تضم ملفات الوثائق عشرات الرسائل منه إلى عبدالله بن سعيد باحيدرة الملقب بالمحب؛ وكذلك رسائل من مشايخ محايل آل بن عبدالمتعال، ورسائل من الشيخ عبدالوهاب أبو ملحة، ومن الشيخ ابن حامد شيخ علكم، ومن الشيخ ابن معدي شيخ بني مالك، ومن العلامة الشيخ الزميلي. هذا بالإضافة إلى رسائله المتبادلة مع كبار تجار صبيا الشيخ باصهي، وعدد من كبار تجار القنفذة، وتجار ميناء القحمة.

وتوضح الوثائق أن معظم التجارة التي كان يستوردها السيد باحيدرة من خلال مينائي جازان والقحمة تأتي محملة في البواخر القادمة من عدن باسمه عند نزولها في مينائي جازان والقحمة؛ والوثائق تثبت كميات تلك التجارة، وما يستوفى عليها من رسوم جمركية في الموانئ أثناء عبورها في طريقها إلى أبها في المحطات التي تستوفى الرسوم فيها، ومقدار تلك الرسوم، وأسماء تلك المحطات، ومقادير الرسوم تستوفيها مالية أبها أثناء، أو عند دخولها المدينة.

كما توضح هذه الوثائق الطلبات التي كان يطلبها تجار خميس مشيط، وبيشة، وغيرها من تجار الأسواق الأسبوعية، مما يستورده السيد باحيدرة، بصفته أحد الموردين الرئيسيين.

وتضم الوثائق كشوفاً بأسماء زبائنه من سكان مدينة أبها، وبيانات بأسماء المواد التي كان يشتريها أولئك الزبائن، كميات تلك المواد وأسعارها. وبهذا يمكن على ضوء هذه البيانات معرفة مقدار استهلاك كل أسرة من المواد الاستهلاكية وأنواعها.

ثبت من خلال هذه الوثائق أن السيد باحيدرة الملقب بالمحب كان في السنوات الأولى من تأسيس الإدارة الحكومية في نجران، أي في السنوات 53، 54، 55، 1356هـ، يتم عن طريقه تحويل رواتب الموظفين، مثل الإمارة، وخاصة في عهد أمير نجران عبدالعزيز الشقيحي، والمحكمة والعاملين فيها، وكذلك تحويل شرهات السادة المكارمة في نجران التي كانت مقررة لهم بأمر الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وكان يقوم بنقل هذه الأموال بتحويل من السيد باحيدرة متعهد بريد نجران السيد عبدالله العبيدي، وهو من عبيدة قحطان. وتذكر الوثائق أن أمير نجران طلب من السيد باحيدرة أن يبعث الأموال بالجنيهات الذهبية لأن الريال الفرانسي أو العربي أقل سعراً في نجران. وكان السيد باحيدرة يبعث بالريالات إلى الحجاز حيث يتم تحويلها إلى جنيهات، ثم يبعث بها بعد ذلك إلى نجران. أستطيع القول إنه في زمانه كان يقوم بدور البنك في زماننا هذا.

إضافة إلى هذا الدور في التحويلات المصرفية الذي كان يقوم به السيد باحيدرة، فإنه كان يقوم بعمل المتعهد بالخدمات البريدية. فكان دكانه المشهور في أبها مقصداً لكل الخطابات التي يبعثها أبناء أبها، والمناطق المجاورة من المغتربين في أنحاء المملكة؛ وكان يقوم بإيصال هذه الرسائل إلى أصحابها بطريقته التي تضمن وصولها. وقد وجدت ضمن رسائل هؤلاء المغتربين إلى السيد عبدالله باحيدرة، أو إلى ابنه سعيد ما يشير إلى انتظار أولئك المغتربين جواباً على رسائلهم، تجد في تلك الرسائل كثيراً من الشوق واللوعة إلى أخبار الأهل. وجدت ضمن تلك الرسائل رسائل بعثت بها سيدات زوجات، وأمهات يستفسرن عن أحوال ذويهن. ومن الواضح أن السيد باحيدرة كان محل ثقة الجميع، ومكان احترامهم وتقديرهم.

هناك كثير من الرسائل الطريفة التي تشير إلى مواضيع طريفة مثل رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه، وهو شخصية معروفة، من سكان مدينة أبها، يطلب منه السماح بإعارته حماره الذي يبدو أنه متميز، ليلقح حمارة السيد المحب التي يبدو أنه كان يغليها. والدابة أو الراحلة الجيدة في ذلك الزمن تشبه أفخر السيارات في زمننا هذا؛ وقال لصاحبه بأنه سيطعم الحمار لقاء هذا العمل وجبة دسمة من الشعير.

هذه فقط لمحة سريعة، أو قراءة سريعة لمحتويات هذه الوثائق التي لو ضلت طريقها ولم يمكن إنقاذها من الضياع أو العبث، أو عدم المبالاة لفقدنا بفقدانها فصلاً مهماً من تاريخ فترة مهمة من تاريخنا الوطني، ولضاعت صفحة مهمة من ذاكرة مدينة أبها التاريخية.

جاء الحصول على هذه الوثائق التي تسطر صفحة من تاريخ المنطقة الحديث -كادت تضيع - متزامناً مع محاضرة قيمة عن تاريخ مدينة جُرش التاريخية التي حلت أبها محلها عاصمة لمنطقة عسير للأخ الدكتور عوض الزهراني ألقاها في المركز عن اكتشافات مصادر تاريخية مهمة عن تاريخ هذه المدينة قبل الميلاد بمائة سنة. يا لها من مصادفة تاريخية عجيبة فالتاريخ حلقات متصلة. لهذا فإنه ينبغي علينا توثيق تاريخ تلك الحلقات من خلال الحفاظ على مصادر التاريخ؛ وربما في القريب العاجل نقوم بعرض مصادر تاريخ هذه المنطقة من الاكتشافات الأثرية إلى العثور على الوثائق التي كادت تضيع.

 

رحلتي في البحث عن مصادر التاريخ
محمد بن عبد الله ال زلفة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة