بعد مائة وعشر سنوات.. جاءت لحظات الختام، كما لابد لها وأن تأتي.. في حياة كل البشر، لتنعي لنا وسائل الإعلام: نبأ وفاة.. الشيخ والأستاذ.. الكاتب والصحفي. المربي والمناضل. الجبل والرمز، وآخر رجال الصف الأول من رواد التنوير: (عبدالكريم الجهيمان).. عن هذا العمر المديد،

ليكون الحزن لغيابه.. دموعاً في القلوب قبل العيون، ولتكون الغبطة في الصدور.. على ما قدم لأمته، وأنجز لوطنه، وعلى «المثل الأعلى» الذي أقامه من صعاب حياته ومراراتها.. وتركه للأجيال من بعده، وهو الخارج من صحراء الجزيرة (القاحلة الساحرة) كما وصفها وهو يقدم الطبعة الأولى من كتابه الموسوعي (الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية).

* * *

من «حرمانه» من والدته بعد طلاقها من أبيه.. و»حرصه» على المعرفة والتعلم بعد أن (فك.. الحرف) كما يقولون في إحدى قريتي (القرائن) القريبة من مدينة (شقراء)، وأخذ يقرأ في كتب الجامع القليلة.. كان طموحه يتشكل في ضرورة الذهاب إلى (الرياض) ليتلقى تعليماً أوسع في جوامعها الكبيرة والمشهورة آنذاك من القرن الماضي، ولكن ولأن ظروف والده المالية لم تكن لتسمح له بتأجير (حمار) أو بعير.. فقد اعتزما السير على أقدامهما وقطع تلك المسافة التي تزيد عن مائتي وعشرين كيلاً.. حتى وصلا إلى الرياض، وهناك أخذ يدرس في جوامعها (النحو والفرائض وعلم الفقه) إلى جانب (الألفية) و(الأجرومية)، ليأتي انتصار الملك عبدالعزيز في معركة السبلة عام 1347هـ (1928م) بـ «الفرج» عليه.. عندما قرر الملك بعدها الذهاب إلى الحج، لتلمع في رأس (الجهيمان) أحلام الذهاب إلى مكة لاستكمال دراسته في المعهد العلمي السعودي (الجديد)، ولكن ليس ضمن مرافقي الملك بطبيعة الحال.. فمن هو حتى يكون من بينهم؟ إلا أن فكرة صائبة لمعت في ذهنه الغض.. تقضي بالانتظار حتى يعود موكب الملك من الحجاز، وعندها يتعين عودة سيارات الموكب (فارغة) إلى مكة.. حيث (جراج) الحكومة، وقد كان.. ليجد - هو وابن عمه - مكاناً لهما في إحدى تلك السيارات الفارغة العائدة إلى مكة، فيذهب إليها: بـ «معارفه» القليلة، وجيبه الفارغة، وقلبه المليء بالطموح، فلم يتمكن من الالتحاق بـ «المعهد العلمي».. رغم مجانيته، نظراً لعدم قدرته على توفير احتياجاته الشخصية، وإذا كان (ابن عمه).. قد قبل (مطوعاً) بهيئة الأمر بالمعروف، فإن (الجهيمان) لم يُقبل بها.. نظراً لصغر سنه، وهو ما اضطره للعمل (جندياً) من جنود الهجانة، الذين كانوا يتولون حراسة قلعة أجياد آنذاك.. ويصطفون بثيابهم وبنادقهم لاستقبال الملك وكبار الرسميين من زواره عند بوابة الحرم، مكتفياً بتلقي العلوم والمعارف التي جاء من أجلها مساءً.. من مشائخ حصوات الحرم المكي الذين كانوا يُدرِّسون علوم القرآن والدين واللغة وآدابها.. وكأنهم بمجموعهم يشكلون جامعة للعلوم الدينية والإنسانية، ولولا أن الملك عبدالعزيز.. أدرك قلة إقبال الطلبة على «المعهد»، وأمر بتحمل الدولة تكاليف إسكانهم ومأكلهم وملبسهم، لما أمكن لـ «الجهيمان» دخول المعهد.. وطي سنواته الثلاث بنجاح، ليكون الأول على خريجي دفعته عام 1351هـ.. بل ولربما أصبح في النهاية بعد سلسلة ترقيات (جنديلهجانة)، التي كان بإمكانه الحصول عليها بيسر وسهولة: العميد أو اللواء عبدالكريم الجهيمان أو ربما (الفريق).

لقد كان قدومه إلى (مكة) فارغ اليدين، كذهابه إلى (الرياض) حافي القدمين.. مغامرتين لا يقدم عليهما إلا أصحاب القلوب الشجاعة والطموحات الحارقة، ومع ذلك فقد أعقبهما العديد من المغامرات والمآزق والانتصارات والنكسات.. وكما روى ذلك، (كبير الوراقين) كما أسميه وأكتبهم: صديقه ومحبه وملازمه طوال التسعة والعشرين عاماً الأخيرة من حياته.. الصديق العزيز الأستاذ محمد القشعمي، في كتابه الجميل عنه: (عبدالكريم الجهيمان.. رحلة العمر والفكر).

* * *

كانت (مكة) التي أحبها وأحب حرمها وأهلها وأنماط حياتها.. تمثل بحق «نقطة التحول» الأولى في حياته، ولتعلقه الشديد بها.. كان يقدم استقالته من أول وظيفة يتم تعيينه عليها بعد تخرجه من المعهد العلمي (سكرتير قاضي تَرَبة)، ليعود إلى مكة.. وليعود إلى مديرية المعارف.. وإلى مدارسها (معلماً)، يتنقل من مدرسة إلى أخرى، إلى أن اختلف مع مدير عام المعارف آنذاك الشيخ محمد المانع حول كتبه التي كانت تُدَرَّس في الفقه والتوحيد.. ليصدر قرار بـ (إيقافه)، ثم تحول إلى قرار بـ «إبعاده» عن (الحجاز).. إلى (نجد) حيث اختار بلدة (الدوادمي) موطن زوجته.. ليعمل (بقالاً) يبيع القهوة والشاي والأرز، ولكنه.. وهو في تلك الحال رشحه صديقه وزميله في المعهد العلمي الشيخ حمد الجاسر.. ليكون مديراً لمدرسة الخرج، فجعل منها مدرسة نموذجية في حدود إمكانيات ستينيات القرن الهجري الماضي (الأربعينات الميلادية) لتُسعد طلبتها وأولياء أمورهم، وتلفت أنظار حضور حفلها الختامي السنوي، الامر الذي جعل ولي العهد آنذاك (الأمير سعود) يطلب نقله إلى الرياض ليتولى إدارة (مدرسة الأنجال)، ومنها.. إلى مدرسة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن - شقيق الملك عبدالعزيز - لتعليم أبنائه والإشراف عليهم تربوياً واجتماعياً ودينياً، وهو العمل الذي ظل يمارسه مرفهاً سعيداً طيلة خمس سنوات.. إلى أن مرض الأمير يزيد بن عبدالله عبدالرحمن، وارتأى أطباؤه سفره للعلاج في (باريس).. فكان أن أصر (والده) على أن يصحبه مرشد ديني وتربوي حتى يطمئن عليه، إلا أن (الابن) كان يرفض ذلك.. إلا إذا كان مرشده ومرافقه هو أستاذه (عبدالكريم الجهيمان) الذي تعلم وتربى على يديه.. وهكذا كان، لتبدأ مع سفره عام 1951م إلى بيروت فـ (القاهرة) فـ (باريس) نقطة التحول الإيجابية الثانية الكبرى - والأهم - في حياته، والتي بدأها بحفظ ثلاث كلمات فرنسية (لقاسيون اربي سئوديت) أي المفوضية السعودية.. تعلمها وهو يستعد لركوب الطائرة، ليكتشف بعد أول جولة له في شوارع وميادين وحدائق (باريس) عدم الصدق في مثلنا الشائع القديم والمحفوظ عن ظهر قلب (سماعك بالمعيدي خير من أن تراه). فـ «باريس» خير أن تراها، لا أن تسمع عنها!! فإذا رأيتها.. وجدتها أجمل مما سمعته عنها..!!

لقد أنهت زيارته لـ «باريس» التي امتدت لستة أشهر - تعلم خلالها بعضاً من الفرنسية، وقرأ، وسمع، وشاهد وعرف الكثير مما كان يجهله عن شعوب الأمم المتقدمة.. بل وكتب كتابه الأول والجميل عنها (ذكريات باريس)، الذي قدم له المذيع والمثقف العراقي الشهير آنذاك (يونس بحري).. ولم ينشر إلا بعد ثلاثين عاماً - مرحلة المعارف والتعليم والفصول الضيقة والطلبة القليلين الذين كان يعلمهم.. من حياته، لتخرجه إلى المدى الأوسع والأكبر.. إلى الرأي العام برجاله ونسائه وشبابه وفتياته.. ليخاطبهم ويتحدث إليهم ويسمع منهم.. ويستمعون إليه، عندما جاءته الفرصة مع زيارته لمدن المنطقة الشرقية.. بعد عودته من باريس.. حيث عُرضت عليه رئاسة (شركة الخط للطباعة والنشر)، فكان أن أصدر من خلالها وبعد عامين صحيفة (أخبار الظهران)، ليبدأ عمراً جديداً، حياً نابضاً. هادئاً عاصفاً.. أليق ما يكون به وبمواهبه وقدراته ومخزونه الثقافي المتراكم، هو.. عمره في (الصحافة): خبراً ورأياً وكلمة حق لا تخشى ولا تهاب، وهي تنشد الخير والتقدم للوطن وجميع أبنائه.

* * *

لقد أخذته حياته في (الصحافة) إلى الذرى .. إلى القمة، حيث المجد والعواصف.. التي ربما كان له منها نصيب الأسد، فمع الإيقافات المتقطعة لصحيفته.. التي استقامت خلال أسابيع.. لتصبح وطنية خالصة وقومية جريئة في منتصف الخمسينيات الميلادية الماضية.. والتي كانت تتجاوزها بصبر وثقة إن كانت أياماً أو أسابيعاً، حتى جاءتها اللحظة التي لم تقو عليها، والتي لا رجعة فيها عند (الرقيب).. عندما نشرت الصحيفة مقالاً يطالب بـ»تعليم الفتاة» فكان الإغلاق للصحيفة.. والاستضافة لرئيس تحريرها، فعودته بعد ذلك إلى الرياض.. وتقليده وظيفة «مدير عام» للتفتيش بالوزارة، لكن ذلك المنصب على فخامته وأبهته وعوائده لم يصرفه عن عالم الصحافة الذي وجد فيه نفسه.. ووجدت فيه وفي قلمه شعلة يستضاء بها في زمن صراعات اليمين واليسار ونفحات القومية اللاهبة التي كانت تغطي سماء الوطن العربي، ليواصل مع صديقه وزميله (الجاسر) ويماماته، ثم في صحيفة القصيم الأسبوعية.. ما بدأه في (أخبار الظهران) من طروحات وطنية صادقة جريئة عن الشورى والتعليم والصحة والطرق.. بل و(الموسيقى) كبرى المحرمات آنذاك عندما قال في عموده (المايل والمعتدل): (قال العالم نيتشه: «إذا أردت أن تحكم على مستوى شعب فاستمع إلى «موسيقاه»، وأنا أقول إن هذا العالم لو كان حياً لسألته عن رأيه في الشعب الذي لا موسيقى له)..؟!

وهكذا.. كان الجهيمان يتدفق عبر أعمدته في الصحيفتين (مع الزمن) و(أوراق متناثرة) و(أين الطريق).. بهذا الصدق وبهذه النبرات الوطنية العالية، لتُجمع تلك المقالات فيما بعد في (كتابين) من أجمل كتبه.. هما: (دخان ولهب) و(أين الطريق)، اللذان عرَّفاني - ولأول مرة في حياتي - على الجهيمان وقلمه.. مع النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، فأحببته.. وتابعته.. طوال ما يزيد عن أربعين عاماً: سعيداً راضياً مطمئناً.. بوجود رجال مثله يحملون أقلاماً على هذا القدر من الاشتعال صدقاً ووطنية.

* * *

مع خروج عهد صحافة الأفراد، ودخول عهد المؤسسات الصحفية.. كان الجهيمان يبتعد ويطول ابتعاده ويشتد اللغط حول الغضب والرضا عليه!! فكنت أتساءل متحسراً.. وأين الجهيمان؟! لأفاجأ.. كما فوجئ الوطن وأبناؤه جميعاً بـ «موسوعته» الرائعة عن (الأساطير الشعبية في قلب الجزيرة العربية) بأجزائها الخمس، والذي تمت ترجمته فيما بعد إلى اللغة الروسية على يد البروفيسور (شاه رستم).. أستاذ كلية اللغات بجامعة الملك سعود، ليخرج إلى العالم الكبير.. فيتعرف الناس عليه، وعلى أبناء هذه الجزيرة العربية الخالدة.

ولكن عندما أخذت مكاني بقاعة الاحتفالات الكبرى بفندق الإنتركونتننتال.. لـ»تكريم» الأستاذ عبدالكريم الجهيمان «بمنحه» وسام: «شخصية العام».. لعام 1421هـ - 2001م كنت كبقية حاضري تلك الأمسية من أسعد الناس وأكثرهم فرحاً له، إذ لا يصح إلا الصحيح كما يقولون.. فكما جرى تكريمه في ذلك العام.. جرى تكريم شيخنا الجاسر قبل ذلك بست سنوات.. كما جرى تكريم أستاذنا (عبدالجبار) بعد ذلك بخمس سنوات، وثلاثتهم كانوا بحق في الصف الأول بين رواد التنوير.. في وطننا الغالي العزيز.

على أن سعادتي.. كانت تتضاعف حقاً.. فيما بعد مع قراءتي لكلمة ابنته الأستاذة (سارة)، التي نشرها الأستاذ القشعمي في آخر صفحات كتابه عن الجهيمان (رحلة العمر والفكر)، وهي تخاطبه.. قائلة:

(نهلت من معين معرفتك..

فخرجت إلى الدنيا واثقة الخطوة أمشي..

أختار طريقي.. أقول رأيي ولا أهاب..

عرفت كيف الثبات على المبدأ.. موقفاً..

والدفاع عن الكلمة.. شجاعة..

والصمود في وجه الباطل.. قوة..

عرفت كيف يكون المرء وطنياً حتى النخاع وعربياً حتى الثمالة).