Wednesday 14/12/2011/2011 Issue 14321

 14321 الاربعاء 19 محرم 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

حينما وصف القطامي ناقته:

يتبعن سامية العينين تحسبها

مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل

كان يدرك من خلال مراقبة أدائها الفذ أنها في حالها تلك لم تجبرها قوة ما على أداء القسم بأن يكون عملها المكلفة به على الوجه الأكمل؛ لأنها تمارس صلاحياتها ومسؤولياتها بالفطرة والذاتية، وذلك بالحفاظ على النوع الحيواني بكل مصداقية ونزاهة؛ وبالتالي كانت مشغولة بسلامة قطيعها من خلال فتح عينيها لتراقب كل ما هو قادم، والبقاء متوجسة وحدها بينما بقية القطيع مرتع في الروض دون اعتماد على الراعي المسؤول عنها أيضاً. كلما تذكرت نزاهة ناقة القطامي استحضرت قصة الفتى إبراهام كاراسكو، وهو من البيرو، ويبلغ ثلاثة وعشرين عاماً، حينما فاز بمنصب رئيس البلدية في مدينة تشيلكا، لكنه لم يؤد القسم على تلك الطريقة وذلك التقليد، فيُجبر على الوقوف واضعاً يده اليمنى على كتاب مقدس ويتلو عبارات القسم بطريقة التلقين، ولكن ذلك الفتى اللاتيني إبراهام كاراسكو أدى قسمه بطريقة تطبيقية فعلية قولية حينما جثا على ركبتيه مطرقاً رأسه في صورة الذليل الذي ارتكب ذنباً فعاقبه القانون عليه، ولكن بطريقة مسبوقة الدفع، وذلك بأن أتى أحد وجهاء البلدة وجلده ثلاث مرات بسوط، وقال له "لا تكن سارقاً، ولا تكن كاذباً، ولا تكن خاملاً"، وهي المبادئ الثلاثة التي كانت تشكل أسس النظام الاجتماعي في حضارة ألانكا. قبّل رئيس البلدية الشاب يد جلاده، والأجمل من كل ذلك عباراته التي قالها مخاطباً مدينته: "من أجل منطقة تشيلكا التي أحبها إلى أقصى حدود الحب، والتي أضعها في قلبي، ومن أجل هذا الشعب الذي منحني ثقته، أقسم بأن أعمل على تقدّمه". وتعهد بأن يحتفظ بالسوط الذي جُلد به؛ ليتذكر قسمه على الدوام.

إن موضوع الفساد ينطوي على مجموعة واسعة من الأفعال الجرمية، كالرشوة والاختلاس والاحتيال والسرقة واستغلال السلطة لمنفعة شخصية والاستئثار بها من فئة ما وهدر المال العام والإثراء دون سبب والمواقف السلبية التي تؤدي إلى خسارة المال العام وتعمية الدولة وتضليل الرأي العام.. هذه قضايا يعانيها المجتمع الدولي ومؤسساته وحكوماته بعامة؛ لذلك حرص المجتمع الدولي على غرس جذور ثقافة الصدق والنزاهة في شعوب هذا العالم لتتحول ثقافة محاربة الفساد والمفسدين إلى تربية ممنهجة تتمثّلها كل المستويات وفي جميع المجالات. ومن أجل الجهود ما قامت به الأمم المتحدة (الجمعية العامة) بإصدار القرار رقم 58-4 في 31-10- 2003 المتضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد؛ حيث ورد في ديباجة الاتفاقية "واقتناعاً منها بأن الفساد لم يعد شأناً محلياً بل هو ظاهرة عبر الوطنية تمس كل المجتمعات والاقتصادات؛ ما يجعل التعاون الدولي على منعه ومكافحته ضرورياً", وأصبحت هذه الاتفاقية في حيـز النفـاذ في 4 ديسمبر-2005؛ حيث صادقت عليها في حينها (140) دولة، وحدد يوم التاسع من كانون الأول من كل عام يوماً عالمياً لمكافحة الفساد، وهو يوم مؤتمر التوقيع على الاتفاقية.

كل المعطيات الأخلاقية والمعايير القيمية ومبادئ الوطنية تؤكد أن النزاهة سلوك قويم يربَّى عليه الإنسان، بينما الفساد هو أحد الأفعال الجرمية التي ترصف في القوانين الجنائية باعتبارها جناية أو جنحة يعاقب القانون مرتكبيها بإحدى العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات، الذي شرع من أجل الحفاظ على أمن المجتمع بالمعنى الواسع خدمة للمواطنين. وأخطر عوامل انتشار هذه الظاهرة هو التعامي المتعمد الذي أتاح لها أن تتمدد بشكل مخيف وتتناسل بفوضوية حتى تتحول إلى ثقافة ممنهجة تكتسح الميادين المترامية الأطراف، والمتعددة الرؤوس؛ ليتجاوز الفساد الاقتصاد والمال إلى بقية تفاصيل النسيج كالثقافة والتعليم، ويتجاوز الجوانب المادية الحسية إلى الجوانب المعنوية كالوطنية والهوية والأدبية معتمداً على القدرة الفائقة في إجادة المناورات والتضليل والتخفي تحت (طاقيات) ملونة بمباركة من شرعية ثقافية حولت ما كان موضوعاً للاستهجان والاستنكار والخيانة إلى أمر مألوف ومقبول، وما كان حقاً لجميع المواطنين إلى فئة خاصة دون غيرها تحت عباءة الواسطة والفزعة والنخوة، وهذا هو الفساد الأكبر المبني على ثقافة المجتمع في حكمها على من يتجاوز القانون بالبسالة والرجولة ومنحه صدر المجلس والفنجان الأول، وعلى من يتقيد بالقانون بالإقصاء والتشويه؛ لتثبت أنها المعوق الأول لتحقيق العدالة؛ فتحول المجتمع بأسره إلى غير وجهته المتمدنة الصحيحة متجاهلاً أن العقلاء حينما حذروا من وضع التفاحة الفاسدة في صندوق التفاح السليم كانوا يدركون بتجربتهم الحية الواسعة أن الفساد والبكتيريا والتعفن ستصيب الجميع دون استثناء، وهذا ما قاله ذات يوم الروائي الفرنسي فيكتور هوغو، عن سلّة البيض الفاسد في صورة تؤكد جريمة كل المسوغات التي يستدل بها هؤلاء الفسدة من أن قليلاً من الفساد ضروري لتشحيم القرارات البيروقراطية البطيئة دون تحديد لمستوى هذا القليل الذي شمل كل جوانب الحياة وتفاصيلها، متجاهلين أن هذا القليل سيفسد الصندوق الذي هم جزء منه، وسيطولهم فيروساته، ولن تنفعهم مواقعهم ذات الجذب المغناطيسي؛ لأن هذا النمط سيتحول إلى وباء يصعب علاج عفنه في تلك الحاضنة. والكارثة أن هناك من يشرعن الاستئثار والإقصاء والواسطة تحت مبادئ شرعية كالشفاعة الحسنة وأمثالها حتى تم تعويم هذه المصطلحات الهدامة وتمييع المفاهيم الخاطئة لدى الناس، وكأن أورويل يعنيهم في روايته الشهيرة التي تحمل عنوان "1984"، والتي يقول مؤلفها إن زمناً ما سوف يأتي تصبح فيه للكلمات عكس معانيها، فالحياة موت والسعادة شقاء والكبير صغير والجميل قبيح والخائن بطل والكذب أبيض والتورم حميد.. إلى آخر هذه المتوالية المجنونة التي لا تقبل فلسفتها في القلة والكثرة الضمائر الوطنية ذات البعد الأخلاقي والمضامين الإنسانية التي تقف إجلالاً لكثير من الدول والحكومات التي تحاسب أفرادها على أشياء تعد في نظرنا تافهة وتافهة جداً. والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

لا تكن سارقاً ولا تكن كاذباً ولا تكن خاملاً.. يا إبراهام
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة