Monday 19/12/2011/2011 Issue 14326

 14326 الأثنين 24 محرم 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

في آخر الحلقة الأولى من هذه المقالة عن الأيام الخمسة، التي سعدت بقضائها في ربوع الجزائر، أشرت إلى إكرامي بأن عُهد إليَّ التحدث، أصالة عن نفسي ونيابة عن زملائي وزميلاتي من المشاركين والمشاركات،

في الافتتاح الرسمي للمؤتمر الخليجي المغاربي الخامس، الذي أقيم في رحاب جامعة أبي بكر بلقايد في مدينة تلمسان.

وقد تلت افتتاح المؤتمر محاضرة مفتاحية من تقديم معالي الدكتور فهد السماري، الأمين العام لدارة الملك عبدالعزيز، وبعد استراحة قصيرة بدأت الجلسات العلمية للمؤتمر، وكنت أول المتحدثين في الجلسة الأولى، وعنوان محاضرتي «العلاقات بين الجزائر والمملكة العربية السعودية». ومما قلته في تلك المحاضرة:

إن العلاقات بين الجزائر والجزيرة العربية مهد العرب ومهبط الوحي، التي أصبح الجزء الأكبر منها -بما في ذلك الحرمان الشريفان- المملكة العربية السعودية، علاقات ضاربة الجذور في التاريخ، ولم يزدها تتابع القرون، وتوالي السنين والأيام، إلا رسوخاً وثباتاً، وإطار الكلام هنا، لا يتسع زمناً لذكر ما قبل التاريخ الحديث، ولعلَّ ما يلفت النظر وجود شبه في الأساس الذي قامت عليه النهضة الحديثة لكلٍّ من الجزائر والمملكة من الناحية الفكرية.

كانت الأمة المسلمة في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، قد وصلت أوضاعها الفكرية وممارساتها الدينية إلى حالة سيئة جدا. ذلك أنه سيطر عليها الجمود، وسادت فيها الدردشة والخرافات. وفي ذلك الجو المتردي ظهر العالم المصلح عبدالكريم الفكون، الملقب بشيخ الإسلام، والمولود في قسنطينة، عام 988هـ، من أسرة ذات مكانة علمية واجتماعية رفيعة. ظهر حاملاً لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، داعياً إلى الرجوع إلى دين الله النقيِّ من شوائب الخرافات والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان. ومثل أكثر المصلحين ناله من المنتفعين ببقاء الأوضاع السيئة على ما كانت عليه ما ناله من أذى. لكنه صبر وصابر حتى حقق الله على يديه في مجتمعه ما حقق من انتشار فكر نيِّر.

وبعد تحقق ذلك الفضل العظيم في مغرب أقطار أمتنا بقرن من الزمن تحقق فضل عظيم مثله في مشرقها، في قلب الجزيرة العربية فقد ظهر الشيخ المصلح محمد بن عبدالوهاب، الذي لُقب أيضاً بشيخ الإسلام، المولود في العُيينة بنجد سنة 1115هـ، من أسرة ذات مكانة علمية واجتماعية رفيعة، وكان - كما كان الشيخ الفكون- يحمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدعو إلى الرجوع إلى الدين الصحيح النقيِّ من شوائب الخرافات والبدع السائدة في المجتمع، ولقد ناله من الأذى ما ناله على أيدي المنتفعين ببقاء الأوضاع السيئة على ما كانت عليه، تماماً كما حدث لسلفه الفكون. لكنه -هو الآخر- صبر وصابر حتى حقق الله له النجاح في المهمة التي نذر نفسه للقيام بها، تعريفاً للجهال بمبادئ الدين الحنيف، وإزالة للخرافات والبدع.

وما كانت الجزائر الحافل تاريخها بكل ما هو عظيم إلا ولوداً للمصلحين العظام، وما كان ابن باديس والبشير الإبراهيمي إلا مثلين لمن ظلوا يحملون مشاعل الفكر النير المبني على أسس قوية من الفهم الصحيح لدين الله القيِّم، تماماً كما ظلت شجرة الإصلاح الفكري والديني في المملكة العربية السعودية مورقة تؤتي أكلها بإذن ربها.

وبعد الإشارة الموجزة إلى تشابه الأساس الفكري الذي قامت عليه النهضة الحديثة لكل من الجزائر والمملكة أشرت باختصار إلى ما للجزائر -بكل ما لتاريخها المجيد من عظمة- من مكانة في نفوس العرب والمسلمين، وبخاصة في وطننا العزيز، قيادة وشعباً فقد كان الملك عبدالعزيز قائد مسيرة توحيد المملكة يهتم بأوضاعها، متصلا برجالاتها ومفكريها، ويبدي استعداد المملكة للوقوف مع أهلها بكل ما تستطيع، وما كان ذلك إلى إيماناً منه بأنه واجب تقتضيه الأخوة العربية والعقيدة الإسلامية، وفي طليعة أولئك الرجالات والمفكرين الشيخ الجليل البشير الإبراهيمي، وكان لأبناء الملك عبدالعزيز الذين تولوا الحكم بعده سعادة الوقوف وشرفه بجانب ثورة الجزائر المجيدة، فبعد شهرين فقط من انطلاق تلك الثورة سارعت المملكة إلى العمل على جعل القضية الجزائرية قضية دولية، ونجحت في مسعاها، بل إنها أصبحت تتحدث باسم الجزائر في المنظمة الدولية، كما كانت تمنح النشيطين من الجزائريين جوازات سفر سعودية لتيسير تنقلاتهم، التي كانت مراقبة ومضايقة من قِبل المستعمر الفرنسي، ولم يكن كل ذلك إلا إيماناً منهم بأن فيه قياماً بالواجب، وسعادة بأن الله قدرهم على القيام به.

وإذا كانت قيادة المملكة قد برهنت على صدق مواقفها تجاه الجزائر، ثورة وثُواراً، مادياً ومعنوياً فإن شعب هذا الوطن العزيز بمختلف فئاته سعيد وشرف باتخاذ المواقف التي اتخذتها قيادته. وكان في طليعة تلك الفئات علماء الشريعة، الذين عبروا عن مواقفهم في خطب الجمعة وفي كل فرصة سنحت لهم بالتعبير عنها. كانوا يوضحون للناس ما كان يرتكبه الفرنسيون المحتلون من جرائم ضد الجزائريين، رجالاً ونساء.. شيوخاً وأطفالاً، ويحثونهم على أداء الواجب في مساندة الشعب الجزائري بكل ما يستطيعون. ومن أولئك العلماء الشيخ محمد العثيمين، رحمه الله الذي كان مما قاله قال في إحدى خطبه خلال اندلاع الثورة الجزائرية المجيد ما يأتي:

«أيها المؤمنون..

إن دين الإسلام يفرض على أهله أن يكونوا كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى. وبلاد المسلمين واحدة وإن تباعدت أقطارها وجهاتها، والاعتداء على بلد واحد منها اعتداء على جميع بلاد المسلمين، وقد علمتم ما يفعل الفرنسيون بأهل الجزائر من التقتيل والتشريد والتنكيل. فتبرعوا -رحمكم الله- بما طابت به أنفسكم لله مخلصين. وفي هذا التبرع مصالح عظيمة منها أن في هذا دفاعاً عن أوطان المسلمين، ونصرة لهؤلاء المظلومين، وإرغاماً للدولة الفرنسية الظالمة».

ولقد سارع السعوديون رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، إلى التبرع بما جادت به نفوسهم من أموال إيماناً منهم بأنهم إنما يقومون بواجب يفرضه عليهم دينهم، وتُحتمه عليهم رابطة الأخوة. كان الرجال يتسابقون إلى البذل مسرورين، وكانت النساء يندفعن لبذل ما لديهن من مال وحُلي مبتهجات، وما كان الشيوخ والأطفال بأقل من الرجال والنساء سروراً وابتهاجاً بالبذل والعطاء.

وكما كان لعلماء الشريعة في المملكة دورهم العظيم في الدعوة إلى مساندة الشعب الجزائري وثورته المجيدة كان للكتَّاب والشعراء دورهمن أيضا في ذلك المجال، والمقالات التي كتبها الكتَّاب، والقصائد التي ألفها الشعراء، ليس من اليسير إحصاؤها، وكان كاتب هذه السطور ممن كتب عدة قصائد، مشيداً ومفتخراً بالثورة الجزائرية، ومن تلك القصائد قصيدة بعنوان «يوم الجزائر»، وذلك عام 1958م في احتفال لجمع التبرعات مساندة لتلك الثورة، ومطلعها:

بسم الإخاء وأشرق الإيثارُ

وتسابقت للقمَّة الأخيارُ

يتسابقون لينصروا شعباً له

في المكرمات سوابق وفخار

ومن أبياتها:

يوم الجزائر يوم شعبٍ ثائرٍ

من طبعه الإقدامُ والإصرار

شعب أبى - رغم الطغاةِ وعسفِهم-

إلا الجهاد طريقةً تُختار

ومضى يخوض معاركاً دموية

ضدَّ الغُزاةِ كأنه إعصار

كم راية رفعت أكفُّ أُباتِه

تاه الفخارُ بها وهام الغَار

وثبتْ طلائعه إلى ساحِ الوَغَى

كالأسْد ذا بَطلٌ وذا مِغوار

وختام تلك القصيدة:

أزِف التخلُّص من دخيلٍ غاصب

وغداً يُدقُّ بنعشه مسمار

وتلهَّب الزحف المُقدس وانبرت

آمال من غصب الحِمى تنهار

قولوا لمن شاءوا بقاءَ نفوذِهم

حطم القيودَ الماردُ الجبَّار

والشعب هبَّ إلى الجهادِ ومجدُه

باقٍ وأيام الطغاةِ قِصار

 

خمسة أيام في ربوع الجزائر 2- -
د.عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة