Friday 23/12/2011/2011 Issue 14330

 14330 الجمعة 28 محرم 1433 العدد

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

كتبت في المقالة السابقة عن المورسكي أحمد أفوقاي الذي عاش في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر الميلادي، ذلك الرجل المسلم الذي أجبر على التنصر من قبل المملكة الكاثوليكية المتشددة التي استولت على الأندلس الإسلامية، وأجبرت أهلها على التنصر، وبعد عقود طردتهم إلى جهات مختلفة.

أحمد أفوقاي المورسكي أو شهاب الدين، كما يسمى نفسه، عاش حياة مليئة بالأحداث ومنها سفارته إلى فرنسا وهولندا بخطابات من سلطان المغرب السعدي، هذا السفير أحب سيدة فرنسية اسمها (أوجيني) عمرها خمسة وعشرون عاماً، قابلها عند مستضيفهم حاكم المدينة، وقد أوحت إليه بأنها معجبة به، وهي كذلك، فوصل ذلك الإيحاء إلى سويداء قلبه لأنه إعجاب صادق خارج من القلب، فعندما مدت يدها إليه لم يكن بإمكانه الرفض وأحس برعشة تسير عبر راحة يده، وفهم وهو ينظر إليها بأنه قد هام في حبها، لكنه كان متماسكاً يحاول جاهداً إبعادها عن خياله، وحاول النوم لكنه كلما غفا ظهرت له تلك الفتاة الجميلة ذات الشعر الأسود الناعم.

في الصباح الباكر دقت أوجيني باب غرفته فقام فزعاً، لكن قلبه أخذ في الخفقان بعد أن رأى أوجيني تطلب منه مرافقتها للتنزه في الحقول، وكان هناك جدلاً حول الإسلام والمسيحية، وكانت بعض المفاهيم الخاطئة عن الإسلام تأخذ الكثير من الناس إلى أحكام غير منصفة، حتى المسلمون أنفسهم هناك منهم من يفسر الإسلام بطريقته فيظلم أو ربما يقتل أبرياء، لهذا فإن ذلك الإسلام الطاهر النقي قد أسيء إليه من قبل من لا يؤمن به لقصور المسلمين في إيصاله بنسخته الصافية، وكذلك أسيء إليه من قبل بعض من أبنائه الذي أولوا كما يشاءون فقتلوا بشراً كثيرين مسلمين وغير مسلمين بغير وجه حق.

لقد طرد المورسكيون من ديارهم لأنهم مسلمون أو بالأحرى لأنه يعتقد أنهم مسلمون من الداخل حتى وإن كانوا مسيحيين في الظاهر، فقد تم الطرد على أساس الظن، حيث طرد مئات الألوف من بلادهم التي عاشوا فيها ثمانية قرون لأنه يظن أنه قد بقوا على إسلامهم.

لا يمكن تصحيح المفاهيم إلا عن طريق حب الآخر وقبوله، مع التمسك بقاعدة الإيمان الراسخة، وقد أحب أحمد أفوقاي المسلم الصالح (أوجيني) المسيحية لكنه كان محتفظاً بإيمانه كما هو، وقد ظل في معركة مع نفسه، ونحن نعلم أن كل معركة تنتهي بهزيمة، لكن هزائمه تملأه سعادة، أما انتصاراته على نفسه فهي تغرقه في الحزن، لكنه حزن يتلوه سعادة وفرح، لقد كان أحمد أفوقاي المورسكي المسلم متزوجاً وله أولاد، وهو يحبهم ولا يمكنه أن يهجرهم وعليه أن يكون واقعياً فذهابه بهذه السيدة إلى المغرب حيث تعيش أسرته، أمر شبه مستحيل فالحياة مختلفة، والثقافات متباينة، والمجتمع قد لا يقبل من أحمد أفوقاي ذلك السلوك غير المنسجم مع مفاهيم مجتمعه، وبقاؤه في فرنسا وهجره لأهله أمر مستحيل، ولهذا كان الصراع شديداً بين العقل والقلب لدى أحمد أفوقاي.

لقد كان هذا المسلم في معركة ضد الشهوة فليس هناك كائن طاهر إلا ما ندر، ولكن التطهير هو معركة مستمرة ضد نوازع الشيطان وغوايته، ولهذا فالشجاع هو ذلك الذي ينتصر في المعركة ضد شهوات نفسه حول النساء والمال وربما طلبات الأبناء ونزعاتهم الغريبة.

لم يكن إتياني لهذه الحادثة التاريخية، أو الرواية الواقعية مجرد حديث للتسلية وإنما هي عبرة لذلك الصراع ضد الشهوة الذي يعتبر صراعاً أبدياً ودائماً، وكذلك قوياً لأنه صراع مع النفس وردها عما تهواه وتميل إليه، إنه صراع ليس باليسير بل يحتاج إلى معاول كثيرة وعلى رأسها الإيمان، ذلك الإيمان الصادق الذي لا تخترقه الشهوات بالتأويلات للخروج بمخرج يوصلك إلى التلذذ بالشهوة اعتماداً على ذلك المخرج الذي يصنعه الإنسان لنفسه، أو يبحث عمن يقوم به ليرمي بوزره عليه وهو يعلم في قرارة نفسه أن غايته تحقيق مراده، وإنما كان ذلك الإنسان أداة من أدوات إجازة ما كان غير جائز حتى يسهل التلذذ بالشهوة.

في الحقيقة، إن كثيراً من القيود الاجتماعية وربما بعض التأويلات الشرعية تجعل أموراً مباحات غير مباحة، ومن ثم يأتي من يوجد مخرجاً له لشيء في أساسه مباح، ليس من اليسير رد الشهوات فقد حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، لكن عندما تكون منصفاً مع نفسك فإنك تستطيع أن تتجنب الكثير من الشرور، وتستمتع بالكثير من المباهج والسرور.

وأحمد أفوقاي استطاع رد شهوته ونسيان (أوجيني) التي كادت أن تغويه، وعاد إلى زوجته وأبنائه وأكمل سعادته معهم ولم يعد يرى في (أوجيني) ما كان يراه عندما كان قريباً منها.

 

نوازع
أوجيني والمورسكي
د.محمد بن عبد الرحمن البشر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة